بعد أن عاث الاستعمار في كثير من بلاد الإسلام
فساداً، وبعد أن تركها ممزقة الأشلاء، تنزف
بجراحها، وبعد أن غرس إلى جانب ذلك شجرة التخلف والجهل، خرج
عدونا من أرضنا، ولكن لا ليدعنا وشأننا، بل ليسلمنا إلى عدوٍ
خفيٍ، هو في الحقيقة أخطر من سالفه وأشد
وطأةً؛ لأن هذا العدو يختبئ في دواخلنا، وينتشر
كالخلايا السرطانية تماماً، بحيث يتمكن من جسد الأمة ليودي بها
إلى الهلاك والانهيار، فالكل يحارب الكل،
وبسبب الجهل وغموض الرؤية، لا نعرف سبيل الخلاص،
أو كيف نتخلص من وضعنا المخزي هذا!
لكن، مع كل ذلك، بدأنا منذ تلك الفترة تنطلق بعض
الأصوات المخلصة التي وعت حقيقة الأزمة،
لتدعو إلى نبذ كل هذه الخلافات والتمزّقات من جسد الأمة، التي
أرادها الله خير أمة، واحدةً، مرصوصة الصف، وهنا نذكر -على سبيل
المثال- النهضة التي عمل على إشعالها في
الأمة المصلح الكبير جمال الدين الأفغاني؛ حينما لاحظ
ما يعتريها من تخلف وتمزق وهوان، فحمل على عاتقه مسؤولية إنهاض
الأمة، من خلال
حركةٍ دؤوبةٍ تمثَّلت في رحلة الإيقاظ الكبير
بين أوصال الأمة، واللقاء بالمسؤولين
والقيادات هنا وهناك، ومن خلال بثّ الوعي بين أبناء الأمة للفت
انتباههم إلى ما يحدق بهم من أخطار وتحديات، وهكذا سار بعده عددٌ
من المفكرين والعلماء والمخلصين على النهج
ذاته، النهج الذي يتبّنى التوحيد والتآزر آليةً
للنهوض وتحقيق التقدم المنشود...
ومع كل ما تحقق من خلال هذه الجهود المشكورة،
إلا أن الأمة –وكما يبدو- ما تزال بحاجةٍ
إلى المزيد من دفعات الحركة العملية بهذا الاتجاه، بالإضافة إلى
التواصل في المجال الفكري والثقافي والنفسي، باعتباره المقدمة
المنطقية للوحدة؛ فالتقدم في الإطار العملي
على الأرض، يعطي الجهود الفكرية والثقافية مبررات
الاستمرار والتسارع والحيوية، بحكم أن الناس
سيرون بأم أعينهم بعض نتائج لهذه الجهود
المبذولة، فالوحدة كأي عملٍ عملاق يحتاج إلى نَفَسٍ طويلٍ طويلٍ، وفكرٍ
عميق، ونفوسٍ واعيةٍ لمركزية الوحدة، وأثرها البالغ في هذا
المجال.
عراق الوحدة
بعد أن سقط النظام الصدّامي البائد في بغداد،
معلناً زوال نهاية حُقَب الظلم والظلام
الرهيب، النظام الذي غرس الرعب في نفوس أبناء الشعب العراقي المظلوم،
فلم يرحل إلا بعد أن أقبر الملايين من أبناء هذه الأرض الأبرار
في الأجداث، إنْ كان ذلك في الحروب مع
الجارات، أو من خلال القمع الداخلي للشعب، الذي تمثّل في
المقابر الجماعية وأعواد المشانق، ومجزرة حلبجة في الشمال حيث
الأكراد، ومع كون
الشيعة يمثلون نسبة لا يُستهان بها في العراق،
هذا إذا تسامحنا ولم نقل إنهم هم الأكثرية،
في مثل هذه الظروف العصيبة سقط قناع الاستبداد، ليحبس الأنفاس، فالكل
كان يتوقع أن يخرج المارد الشيعي من القنينة، ليأخذ بثارات
الأيام الخوالي، ويملأ الطرقات والأزقة بجثث
القتلى، ولكن ما حصل غير ذلك، ما حصل أن صدع أبناء
الطائفة الشيعية في العراق بدعوات الوحدة والتسامح والصفح، وهي
بحق من أرقى
الأخلاقيات التي تُنبي عن نفوس كبيرة وإن كانت
مكسورةً بسبب سِني الظلم، إلا أنها تعي أن
الظلم لا يجر سوى الظلم، والاعتداء لا يُولّد إلا الاعتداء.
هذا الموقف، أذهل القريب والبعيد، فمن كان يتوقع
أن تنطلق هذا الدعوات من شعبٍ موتورٍ، مكسورٍ
نفسياً؟!!!
وليس هذا وحسب، بل إن هذه الدعوات مرّت بالعديد
من الأزمات والاختبارات التي أثبتت على مرور
الأيام جديتها وأصالة معدنها، فبدايةً بحادثة اغتيال السيد عبد
المجيد الخوئي، التي راهن البعض بأنها ستمثِّل نقطة الانكسار في
المسيرة الوحدوية، المشحونة بالحماس
والاندفاع، مدّعياً أن دعوات الوحدة ما هي إلا
سحابة صيفٍ عابرة، وأن الخلافات (الشيعية /
الشيعية) ستخرج للسطح في القريب المنظور،
إلا أن الأمر لم يكن كذلك، هذا هو الشاهد الأول، أما الآخر، والذي
ينفجر أمامنا بحادثة مؤلمةٌ، وهي حادثة التفجير في النجف الأشرف
الذي أودى بحياة ثمانين ونيّفٍ عند ضريح
الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، كان
من بينهم أحد كبار قيادات العراق وهو آية الله السيد محمد باقر
الحكيم، هذا بالإضافة إلى المئات من الجرحى،
ليفتح باب التوقعات على مصراعيه عما يمكن أن
يسفر عنه هذا الحدث من ردود أفعال غير محسوبة، إلا أن المسيرة الوحدوية
المباركة تقوم مرةً أخرى متناسيةً جراحها وآلامها لتثبت إصرارها
وتحدّيها لكل الصعوبات والعقبات، ولتقول
للعالم بأننا مصرّون على عدم الرجوع إلى عهد الظلام
البائد، وأننا نمرّ بمخاضٍ عسيرٍ يأمل في بناء
غدٍ مشرقٍ لهذه الأرض.
هكذا كتب شيعة العراق ثقافة الوحدة ليس بالحبر،
وإنما بالآلام والدموع والتضحيات وقوافل من
الشهداء والمعاناة والذكريات المثقلة بالأحزان.
وإذا ما حاولنا أن نربط بين الأحداث والوقائع،
فإننا نجزم بأن هذه الروح ستنعكس على طبيعة
الأحداث ليس داخل العراق وحسب، وإنما خارجه، بل نتوقع بأن هذا
الموقف سيعمل على خلق صحوةٍ إسلامية جديدة، هذا إن لن نقل بأنه
بدأ في فعل ذلك فعلاً.
فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي حاولت
الولايات المتحدة الأميركية استغلالها أبشع
استغلال، في سبيل تحقيق مآربها في المنطقة، ومحاولة تثبيت قدمها
فيها، تحت حجج وذرائع واهية، من أجل مصالحها الشخصية أولاً، ومن
أجل ربيبتها المدللة إسرائيل هذه الغدة
السرطانية، ظناً منها أنها بذلك ستضعف المسلمين
وتمزقهم من جديد، في الحين الذي تساعد بأعمالها هذه على إحداث
موجة وعي جديد
لدى المسلمين بضرورة الوحدة، باعتبار أن الوحدة
هي الطريق الوحيد الذي يضمن لنا الوقوف على
طريق التقدم، في سبيل بناء حضارة واعدة، تهتم بالإنسان كإنسان...
وما يحصل في العراق الآن، يمثِّل الطليعة التي
يُعقد عليها الآمال، آمال أمةٍ تبحث لها عن
موطئ قدمٍ، في عالمٍ لا يرحم الضعاف... |