لا ادري إن كان السيد بول بريمر السفير الاميركي
في العراق، قد قرأ مقالتي التي كنت قد نشرتها قبل حوالي ستة أسابيع
والتي كانت بعنوان ـ دستور جديد .. لعراق جديد ـ قبل أن يكتب مقالته
الأخيرة التي نشرها الأسبوع قبل الفائت أم لا، ولكن كل الذي اعرفه هو
انه أشار فيها إلى نقطة هامة جدا بشان موضوع الانتقال إلى الديمقراطية
في العراق كنت قد أكدت عليها في مقالتي الأنفة الذكر كقضية هامة جدا لا
يمكن الاستغناء عنها إذا أردنا أن نقيم نظاما ديمقراطيا حقيقيا، راسخا
وقويا ومستقرا.
الفكرة تقول، أن من اللازم إشراك كل شرائح
المجتمع العراقي في دراسة الدستور العراقي الجديد المقترح والذي سيدون
من قبل مجلس دستوري منتخب، قبل عرضه للتصويت عليه ـ قبولا أو رفضا ـ .
بمعنى آخر، يجب أن يعلم العراقيون على ماذا
سيصوتون، ولأي شئ يعطون رأيهم، حتى لا يوقعوا على بياض أو يصوتوا على
مجهول أو يرفعوا أيديهم بالموافقة مثلا على دستور لا يعلمون كيف صيغت
مواده ومن الذي صاغها ؟ وما هي الدوافع الحقيقية من وراء صياغتها بهذه
الطريقة مثلا وليس بتلك الطريقة .
لذلك يجب أن يطرح الدستور المقترح للبحث
والمناقشة والتمحيص والحوار من قبل كل العراقيين قبل إجراء التصويت
عليه، ليكون المواطن العراقي على علم بما ورد فيه، ويعرف تماما على
ماذا ولماذا وبما ذا سيصوت .
أولا ـ لان الدستور الجديد، سيرسم معالم مستقبل
عراق جديد، ليس للجيل الحالي وإنما لأجيال عراقية قادمة، ولذلك فمن
اللازم أن يتحمل كل مواطن عراقي مسؤولية فهم ما يرد فيه من ديباجة
وأهداف ومواد، ووعي محتوياته بشكل كامل ليضمن بالتالي انتقال المسؤولية
إلى الأجيال القادمة بكل أمانة وصدق وإخلاص .
ثانيا ـ إن الصوت الواحد لأي مواطن عراقي، هو
مسؤولية قبل أي شئ آخر، ومن اجل أن يتحسس المواطن ثقل المسؤولية وجسامة
الواجب، يجب أن يشترك في صياغة كل حرف سيصوت عليه بالسلب أو بالإيجاب،
وبأية طريقة ممكنة، حتى لا يقول غدا بأنه خدع أو اخذ على حين غرة، أو
انه سيق إلى صندوق الاقتراع قسرا للإدلاء برأيه في شئ لا يعنيه أو لم
يدرسه أو لم يعلم به ويطلع عليه مسبقا .
إن الرأي واجب ومسؤولية، انه واجب وطني وديني
وتاريخي، ومسؤولية تاريخية جسيمة، وثقيلة، لا يجوز التهاون بها، ولذلك
يجب أن يكون المواطن العراقي بكامل وعيه وبمعرفة دقيقة وشاملة بالأمر
الذي يريد التصويت عليه قبل أن يقول نعم أو لا، وبهذه الحالة فقط سنضمن
آراء مسئولة وأصوات حقيقية تمتلئ بها صناديق الاقتراع، كلما دعي
المواطنون للاشتراك في التصويت أو الإدلاء بآرائهم على أمر ما .
ثالثا ـ إن كل مشاكل الأمة وشعوبها ـ كما يقول
الإمام الشيرازي ـ هي بسبب استئثار زمرة ما يسمى ب ـ أهل الحل والعقد ـ
في أمور لا تخصهم وحدهم فحسب وإنما تخص كل الأمة، فكيف يجوز لثلة
محدودة ومجموعة صغيرة أن تتحكم بمقدرات شعوب بأكملها، خاصة إذا لم تكن
منتخبة من قبل الناس وغير مفوضة بالتحدث عنها أو التخطيط لأهدافها ؟
ومن اجل أن لا نحصر قضايا العراقيين في أدراج
زمرة صغيرة أو ثلة محدودة من الناس ـ مهما كان حرصهم وشعورهم
بالمسؤولية إزاء الشعب وقضاياه المصيرية ـ يلزم أن نشرك الجميع في
صياغة ومناقشة القضايا العامة، خاصة في قضية مثل كتابة الدستور، والتي
اتفقت أخيرا اللجنة الدستورية التي كان قد شكلها مجلس الحكم الانتقالي
على أن يكون مجلس صياغة الدستور منتخبا من قبل الشعب العراقي وليس
معينا من قبل أي كان، وهذا ما كنت قد طالبت به كذلك في مقالتي الموسومة
ـ دستور جديد .. لعراق جديد ـ إذا ما أردنا أن تكون بداية العملية
الديمقراطية برمتها صحيحة، كما أعلن ذلك صديقي الدكتور فؤاد معصوم رئيس
اللجنة الدستورية ،على اعتبار أن الدستور هو خارطة الطريق لحياة كل
العراقيين، لا يجوز أن يصوغها ويرسم معالمها ثلة غير منتخبة قد لا تعبر
عن ضمير الناس ورأيهم وتصوراتهم .
أقول، إن إلغاء نظرية أهل الحل والعقد من قاموس
الحياة السياسية في العراق الجديد سيحول دون ظهور الكثير من المشاكل
التي تتسبب بها عادة حالة الاستئثار التي تهيمن على مثل هذه الزمر مهما
كانت نظيفة ونزيهة وحريصة لأنها عادة لا تعرف أن تدبر الأمور إلا في
الظلام ولا تقدر إلا أن تتآمر عند البحث والتخطيط في أية قضية من
القضايا العامة .
إذ قد تتحول مثل هذه الزمر إلى جزء لا يتجزأ من
السلطة، لبساطة بيعها وشرائها، على العكس من مجموع الشعب الذي لا يمكن
بأي شكل من الأشكال بيعه وشراءه، لا بالجملة ولا بالمفرد، لان مجموع
الناس تستعصي عادة على الاتفاق على الخطأ جملة واحدة، أما المجموعة
الصغيرة فبالمكان شراء ضمائرها وتسخير إرادتها لخدمة السلطان .
وربما تكون المجموعة الصغيرة هي الأخرى مستفيدة
من عطايا السلطان، فلماذا تكشف عن مستوره ؟ وتفضح أو تتحدث عن أخطائه ؟
أما مجموع الناس فمن الصعب جدا، إن لم اقل من المستحيل أن تسكت على خطا
الحاكم، إلا إذا نجح في إرضاء كل الشعب، وهذا لا يكون إلا بالعمل
السليم والجهد الصحيح، وهذا هو المطلوب
إن العملية الديمقراطية لا يمكن إنجازها في أي
بلد خرج للتو من تحت ركام وأنقاض نظام ديكتاتوري شمولي كالعراق، ظل فيه
النظام على مدى أكثر من ثلاثة عقود من الزمن يلغي إرادة المواطن ويسحق
حقوقه ويتجاوز على كرامته ويبعده عن صندوق الاقتراع، إلا إذا نجحنا في
تحقيق أوسع مشاركة شعبية منذ البداية، ولتكن هذه البداية هي العملية
الدستورية التي ستكون في حقيقة أمرها القالب الذي ستصب فيه العملية
الديمقراطية برمتها، كما أنها ستكون الترمومتر الحقيقي والطبيعي لقياس
مدى صدقية ـ الاحتلال ـ و ـ المتعاونين معه من منطلق الحرص على حاضر
العراق ومستقبله ـ .
كذلك ستكون المقياس لمدى إحساس المواطن العراقي
بمسؤوليته وشعوره بواجبه واستعداده للمشاركة في صياغة العراق الجديد
والمساهمة الجادة والفاعلة في وضع لمساته على كل خطوة من خطوات البناء
الديمقراطي الجديد .
بالمشاركة الشعبية الواسعة سنطرد الخوف والتردد
من ذهنية المواطن العراقي الذي ظل لسنين طويلة يتلفع بالعبارة العراقية
الأشهر ـ أنا شعلية ـ أو قوله ـ ما لنا والدخول بين السلاطين ـ وكل ذلك
بسبب الخوف والرعب الذي خيم على العراق جراء سياسات النظام المقبور،
لينزل إلى الشارع ويساهم في كل القضايا العامة بلا خوف أو تردد أو وجل
.
إنها ستجفف الأرض التي تنمو فيها الديكتاتورية
عادة .
إن العراق في مرحلة مخاض ديمقراطي حقيقية، ولذلك
فان الرأي الواحد مطلوب، فلا يجوز الاستغناء عنه أو إبعاده عن الساحة
أبدا، كما أن الرأي الواحد مسؤولية، قد ينتج صداما آخر إذا لم يتعامل
معه صاحبه بكامل وعيه وأحاسيسه وشعوره كذلك، فان أوسع المشاركة الشعبية،
دليل تحمل الناس لمسؤولياتهم إزاء حاضر ومستقبل بلادهم، كما أنها دليل
الديمقراطية والتفاعل الايجابي الشعبي مع الأحداث والمنعطفات الهامة،
إضافة إلى أنها الدليل على حيوية الشارع واهتماماته بقضاياه العامة
المصيرية .
إن مدى ديمقراطية أي بلد أو نظام في هذا العالم
تقاس بحجم المشاركة الشعبية التطوعية ـ وليست الإجبارية التي تساق فيها
الشعوب بالسياط ـ خاصة في مرحلة البناء والمخاض، أما إذا رست قواعد
الديمقراطية وترسخت أسسها في المجتمع، فلا تعد المشاركة الشعبية وحدها
الدليل على حقيقتها وصدقها، كما هو اليوم في البلدان المتحضرة التي
ترسخت فيها جذور الديمقراطية على مدى أكثر من نصف قرن من الزمن شهدت
مشاركات شعبية واسعة في بداية انطلاقتها الأولى .
لقد قتل النظام المقبور الإحساس بالمسؤولية عند
المواطن العراقي، واغتال اهتمامه بقضاياه العامة، وطارده حتى في منزله،
لذلك ساق الطاغية المعزول العراقيين إلى حتفهم رغما عن إرادتهم
وبالحديد والنار، ومن اجل البدء بالعملية الديمقراطية بشكل صحيح، علينا
جميعا أن نخلق عند المواطن العراقي الإحساس بالمسؤولية ونزرع في نفسه
الاهتمام وملاحقة قضاياه خطوة فخطوة، لنزيل لااباليته ونلغي عدم شعوره
بالمسؤولية ونحارب انزواءه وتهربه من تحملها على أحسن وجه، لنزرع في
نفسه الإقدام وروح المبادرة، لان المشاركة الشعبية في حقيقة أمرها هي
صمام ألامان لدعائم الحرية والنظام الديمقراطي .
ولا تتحقق المشاركة الشعبية إلا عندما يحس
المواطن أن رأيه محترم، وان عيون السلطان لا تلاحقه، وان صوته يؤثر في
مسار الأحداث، إذا قال نعم لا يكافأ فيقولها تكلفا أو طمعا في عطايا
السلطان أو تقربا إليه، وإذا قال لا لا يحرم من البطاقة التموينية أو
يطرد من وظيفته أو يعتقل ويغيب في غياهب السجون أو مطامير المقابر
الجماعية أو يقتل ابنه وتصادر أملاكه المنقولة وغير المنقولة .
إن الصوت واجب ومسؤولية، يجب أن نفسح المجال
ليقوله المواطن بكامل حريته وإرادته، ليستقيم البناء الديمقراطي على
أرضية صلبة، لا ينهار أمام العواصف ولا يميل مع الريح ولا ينقلب على
عقبيه لحظة إذاعة البيان رقم واحد من قبل احد الجنود الانقلابيين
الطائشين من دار الإذاعة والتلفزيون .
[email protected] |