لم تصب الأمة الاسلامية بمقتل مثلما أصيبت بسبب
السياسة، لقد مثلت المسألة السياسية في تاريخنا الكلاسيكي والمعاصر
مشكلة مزمنة لم تتوقف عند حدود فشل الممارسة السياسية، بل تعدت ذلك الى
حد اجهاض كل المشاريع الحضارية في العالم الاسلامي، ونستطيع من خلال ما
تراكم لدينا من قراءات ان نحصل على الكثير من أوجه االتعثر في تاريخنا
وفي حياتنا المعاصرة سببه الرئيسي المسألة السياسية.
فقد سُلّ اول سيف في الاسلام بين المسلمين بسبب
الخلافة، وانتهت امارة ثلاثة من الخلفاء الاربعة بعد النبي بالقتل،
وقضى ثلاثة عشر من الخلفاء الامويين والعباسيين بالخلع والقتل بعد ذلك،
اما الخلافة العثمانية فكانت ذات طابع خاص اذ يعمد الخليفة الى قتل
جميع اخوانه او سجنهم في اقفاص في القصر حتى الموت او يخرج أحدهم من
القفص ليصبح خليفة اذا دعت الحاجة لذلك، وفي سنة 1595 قتل السلطان محمد
الثالث «تسعة عشر» أخا له واثنين من ابنائه حتى كادت الاسرة الحاكمة ان
تنتهي بالكامل.
وبسبب رفض البيعة والاختلاف مع السلطة الحاكمة تم
قتل الالاف من المسلمين، على رأسهم الامام الحسين بن علي واهل بيته في
واقعة الطف المشهورة، كما تم تعذيب واعتقال مئات المخالفين لتيار
السلطة، وينقل لنا التاريخ لحظة ان جمع «مسلم بن عقبة» الاسرى في يوم
الحرة، وخطب فيهم: « قولوا ما نملكه خول ليزيد وله ان يقضي فينا كيف
يشاء» فيصيح أحد الاسرى، ألسنا في الاسلام سواء؟؟ يسأل مسلم : ولمن هذا
القول؟؟ خذوه جزوا رأسه.
أما في العصر الحديث فما زلنا نتذكر قسوة الدولة
العربية، وما زالت بعضها تحتوي على اقبية تضم مئات سجناء الرأي منذ
سنوات طويلة، وما نتابعه يوميا من اخبار وحوادث العراق أبلغ من اي حكمة،
وهي قصص أقرب الى الخيال تلمسناها بصورة يومية وهي تحدث بالقرب منا.
إن العنف الذي تمارسه السلطة تولد نتيجة فشل مشروع
الدولة اساسا في اغلب الفترات التاريخية وظل التفكير الاسلامي والعربي
محصورا على مستوى تأسيس سلطة أشبه بالسلطة القبلية، وان اتخذت مسمى
الدولة او حاولت ان تقوم مقامها.
نحن نفترض مثلا ان المجتمع عندما يختلف مع السلطة
القائمة يطلب المزيد من الاصلاحات السياسية، وربما تتضاعف المسألة
فيطالب برحيل السلطة، ونعتبر هذا حقا من حقوق الناس الاساسية لكن
المشكلة في صلبها تتمثل في ان السلطة في عالمنا استولت على الدولة
تماما وفرغتها من اي محتوى او مضمون، وانتجت حالة من الاشتباك بين
السلطة والدولة بما لزم فناء الدولة في السلطة، كما خلقت حالة من
التناقض بين الدولة والمجتمع بحيث صار مطلوبا في بعض الحالات حذف احد
طرفيه.
وأصبح الحديث عن دولة لها شخصيتها الاعتبارية
والمتمايزة عن السلطة القائمة ـ كما هو في الغرب ـ امر مبالغ فيه،
فالدولة الاسلامية في تاريخها وحاضرها التهمتها السلطة وأخفت ملامحها
تماما، بما يدعونا ـ لمن أرسلوا يستفسرون ـ الى اعتماد مفردة الدولة
بصورة مساوية مع مفردة السلطة، فالدولة لدينا لا تمتلك شخصية اعتبارية
بل هي منصهرة بصورة كاملة في السلطة.
تريد السلطة في مساعيها هذه الى التأكيد على ان
الوطن ما هو الا اقطاع خاص لها، وان ما تقدمه للمواطن هو منحة ومساعدة
وليس حقا اساسيا ومفروغا منه، ومقابل هدايا السلطة ينبغي على المواطن
ان يقدم فروض الولاء والطاعةالمطلقة للدولة، واي نقد يوجد للسلطة يعد
اخلالا في مبدأ المواطنة يستحق التعزير والعقاب.
إن سبيل الخروج من بؤس السياسة في عالمنا الاسلامي
والعربي يكمن في مقدرتنا على التمييز بين الولاء للسلطة والولاء للوطن،
فالوطن يبقى عزيزا في كل حال، بينما الدولة التي تعني السلطة ولا تنفك
عنها يجب ان توضع تحت ميزان التقييم، وفي حال ما أحسنت يتم الثناء
عليها، وفي حال ما أخلت بشروط الحكم والادارة يتم تقويمها، او لترحل
غير مأسوف عليها.
على ان التجربة اثبتت ان حال الدولة لا يستقيم دون
العمل على اعادة التوازن بينها وبين المجتمع، فالدولة العادلة تسعى
لتفعيل اكبر قدر ممكن من المؤسسات الاهلية والمدنية وتشركها في ادارة
البلاد، بينما تعمد الدولة الظالمة الى تجريم العمل الاهلي، وتقويض
الادوار الاجتماعية والسياسية وصهر الوطن بكل مكوناته في قالب الدولة
المستبدة، ولكن حين تفقد السياسة صلتها بالحكمة، تتحول الى قوة قهرية
جبروتية، تحكم الوطن بقانون التعذيب والالغاء الذي يعكس رغبة عمياء في
الاستيلاء والتفرد والرغبة في السيطرة.
* كاتب كويتي
AHMED_HJ@HOTMAIL.COM |