يتساءل الكثيرون عن سر اتهام العراقيين لعناصر تنتمي إلى الفكر
الوهابي السلفي في تنفيذ العملية الإجرامية التي وقعت في مدينة النجف
الاشرف الأسبوع الماضي والتي أودت بحياة الشهيد آية الله السيد محمد
باقر الحكيم والمئات من المواطنين الأبرياء.
كما يستغرب البعض من توجيه العراقيين لأصابع الاتهام إلى جهات لم
تثبت التحقيقات بعد أنهم متورطون بالفعل في تنفيذ هذه الجريمة البشعة
التي أدانها ألقاصي والداني وكل ذي قلب وضمير ودين وقيم وأخلاق.
يتساءلون ، كيف يجوز للعراقيين توجيه اتهامات من دون دليل مادي
ويتسرعون في إصدار أحكام قد تكون نتائجها سلبية فتضر أكثر مما تنفع في
واد الفتنة؟
في البدء يجب أن نعرف إن الاتهام الشعبي العراقي لمثل هذه العصابات
الإرهابية والأحزاب الظلامية، لم يأت من فراغ، كما انه ليس رجما بالغيب
أبدا انه يستند إلى توقعات منطقية وأدلة معنوية تعتمد التخمين والتحليل
والأدلة العقلية والتاريخية والنفسية.
ولكون الشعب العراقي، شعب مؤمن ومجاهد وصبور ومضحي، لذلك فان الكثير
من قراءاته السابقة بشأن أصدقائه وأعدائه،
جاءت صائبة بالرغم من انه لم يكن يمتلك وقتها الأدلة المادية الملموسة،
إلا أن من حسن حظه أن قراءاته تلك جاءت في كل مرة صحيحة في إطار فراسته
الثاقبة للأمور، طبقا للقول المشهور، اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر
بعين الله.
وقبل أن نسوق الأدلة المعنوية التي اعتمدها العراقيون في قراءتهم
لهوية القتلة، أود أن أوضح الحقائق التالية.
أولاً: إن القتلة لا ينتمون إلى دين أو
مذهب، فالإرهابي بطبعه عديم الدين والمذهب والإنسانية ولذلك استنكر
العالم فعلتهم الشنيعة.
إن من ارتكب الجريمة، انتهك عدة حرمات في آن واحد ، فهو انتهك حرمة
المدينة المقدسة، كما انتهك حرمة المرقد
الطاهر للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الذي يحترمه
كل المسلمين بلا استثناء، بل كل صاحب دين ومقدسات.
كما انتهك القتلة حرمة العلم والعلماء والمرجعيات وكذلك حرمة صلاة
الجمعة وهي شعيرة من شعائر الله تعالى ، والتي يقول عنها القران الكريم،
ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب.
فضلا عن أن القتلة انتهكوا حرمة الناس الأبرياء عندما استباحوا
دماءهم وأجسادهم التي بعثرها الانفجار ووزعها في الاتجاهات الأربعة.
إنهم إذن انتزعوا عن أنفسهم، كل الحرمات وتنكروا لكل المحرمات قبل
أن يرتكبوا جريمتهم البشعة.
إن الإرهابي، بغض النظر عن هويته وانتمائه، يكره الحياة ويكره
الإنسان ـ كانسان ـ ، انه يحب القتل ويعشق منظر الدم، ولذلك فانه يبلغ
القمة في الشهوة عندما يرى ضحيته تتألم، انه يكره الحب والأمل والحاضر
والمستقبل والبسمة على شفاه الناس.
انه يقتل ضحاياه بابشع الطرق وبدم بارد، انه يوزع الموت وينثر دم
الضحايا ولحومهم في كل الاتجاهات، فمن شخصا
واحدا يقتل أو يجرح المئات من الأبرياء، انه عشق القتل وسفك الدماء
البريئة اجل أن يستهدف
وإزهاق الأرواح المحترمة وزرع الفتن التي هي اشد من القتل
ولكل ذلك ازعم، وبضرس قاطع، إن القتلة لا ينتمون إلى دين، لان
الدين حب وتسامح وأخوة ووئام وانسجام، أما الإرهابيون فقد ملأتهم
الكراهية والحقد وروح الانتقام من قمة رؤوسهم وحتى أخمص أقدامهم.
ثانياً: إن القتلة لا ينتمون إلى أي مذهب
من المذاهب الإسلامية الخمسة، إنهم أحزاب وعصابات تنتمي إلى ثقافة
الموت التي تكره الحياة وتبغض الحب، يتغذون من الفكر المتطرف الذي يرى
أن قتل الأخر يقربه إلى الله تعالى زلفى، ولذلك استنكر علماء مختلف
المذاهب الإسلامية في العراق وفي العالم، جريمتهم واعتبروها خروجا على
الشريعة بل وحتى على القيم الإنسانية.
اسألوا علماء المذاهب الإسلامية الخمسة في كل أرجاء العالم، هل في
مذاهبهم ما يجيز ويحلل هدر دم الإنسان الذي يخالفهم الرأي؟ هل فيها ما
يجيز قتل الإنسان لمجرد انه لا ينتمي إلى المذهب الذي انتمي إليه؟ أو
لأنه يمارس عادات وتقاليد وشعائر يجيزها مذهبه ويحرمها الفكر الذي
انتمي إليه؟
إن هؤلاء القتلة الذين يهدرون دم الذي يخالفهم الرأي أو الدين أو
المذهب ليسوا من مذاهب المسلمين في شئ إنهم خارج ملة الإسلام وإجماع
المسلمين، بكل الأعراف والقواعد والقوانين والنصوص الدينية.
إنهم يتقربون إلى الله تعالى بقتلهم الآخر ـ لمجرد انه آخر ـ والعبث
بأرواح الناس، إنهم يحللون ما حرم الله ويحرمون ما احل الله، يدخلون من
يشاءون الجنة ويلقوا من يكرهون النار وكأنهم خزنتها أو أن مفاتيح الجنة
بأيديهم.
اقراوا مبادئ ـ مذهبهم ـ وأسس أفكارهم ستجدون فيها جواز وحلية إباحة
دم الآخر وماله وعرضه لا لشئ إلا لأنه يخالفهم الرأي والاجتهاد.
إنهم مسكونون بقتل الآخر ومهووسون بتصفية الخصم.
إن علماء المسلمين، بمختلف مذاهبهم وطوائفهم، انكروا على حكامهم
اعتقال المواطن بسبب آرائه التي يخالف فيها رأي السلطان ـ سجناء الرأي
ـ فكيف يجيز هؤلاء قتل المواطن الذي يخالفهم الرأي ـ قتلى الرأي ـ، من
أين جاءوا بهذه الفتاوى التي أجازوا فيها قتل الناس وإهدار دمائهم
وأموالهم وأعراضهم لمجرد الاختلاف معهم في الرأي؟
إنهم يكذبون عندما يقولون أنهم يتبعون مصلحا أو فكرا إصلاحيا، بل
العكس فإنهم يتبعون مخربا مثلهم، ومتطرفا يشبههم، إنهم يتبعون فكرا
ظلاميا متخلفا يكره الحياة ويعشق الموت.
إن أي فكر يدعو إلى القتل، لا يمكن أن نطلق عليه صفة ـ الفكر
الإصلاحي ـ وان أي ـ مفكر ـ يستخف بالأرواح ويدعو إلى إزهاقها ظلما
وعدوانا، لا يمكن أن نسميه مصلحا أبدا، انه مخرب ومتجاوز على حق
الإنسان في الحياة والذي وهبه الله تعالى لخلقه يوم ابتدعهم، فكيف يجيز
هؤلاء لأنفسهم إزهاق أرواح الناس التي منحها الله لهم، وهو فقط صاحب
الحق المطلق في أن يهبها لمن يشاء أو يسلبها ممن يشاء لحكمة بالغة.
نعود إلى السؤال، ما هي الأدلة ـ المعنوية ـ التي اعتمدها العراقيون
لإثبات التهمة على من أشاروا إليه بإصبع الاتهام؟
بكلمة أقول، بالنسبة إلى العراقيين، فان طريقة تنفيذ القتلة
لجريمتهم، وأسلوبهم الخسيس في الأداء، يكفيهم كأوضح دليل يسوقونه ضد
المتهم المفترض والمحتمل، إنها تدلل على هويتهم ، ف ـ البعرة تدل على
البعيرـ كما يقول المثل المشهور، لأنهم خبروا الطريقة أكثر من مرة،
واكتووا بنيرانها في سالف الزمان، ولذلك فبالنسبة لهم.
فان تكرار الجريمة بنفس الأسلوب والأدوات دليل على وحدة المصدر.
لقد عرف القتلة بطريقتهم البشعة في التنفيذ، فهم عادة لم يراعوا أية
حرمة عندما يستهدفون ضحيتهم ويقدموا على فعل فضيع كالذي شهدته مدينة
النجف الاشرف يوم الجمعة قبل الماضية.
إنهم يوزعون الموت يمينا وشمالا، وينشرون
الخراب والدمار والرعب في كل الاتجاهات، هذه هي طريقتهم في قتل ضحاياهم
ليس اليوم وإنما منذ أن تشكلت أولى خلاياهم قبل قرنين من الزمن تقريبا،
ففي يوم الثاني والعشرين من نيسان ـ ابريل ـ من سنة 1802 مثلا دخل
أجداد هؤلاء القتلة ـ بلدة ـ كربلاء يوم ذاك على حين غرة وهم شاهرون
سيوفهم، يذبحون كل من يلقونهم في طريقهم، ولم يستثنوا منهم الشيوخ
والنساء والأطفال.
وقد قدر بعضهم عدد القتلى ثمانية آلاف، وقيل أنهم قتلوا عند ضريح
الحسين ـ عليه السلام ـ خمسين شخصا وفي الصحن خمسمائة، ونهبوا كل شئ
وقع في أيديهم من الدور والحوانيت والمرقد المقدس ، وكان أهم ما غنموه
هدايا الملوك من النفائس والتحف والأحجار الكريمة التي كانت مخزونة في
ضريح الحسين ـ عليه السلام ـ وحاولوا قلع صفائح الذهب من على الجدران
فلم يوفقوا.
ومنذ ذلك التاريخ، واصل القتلة غاراتهم الدموية على مدينتي كربلاء
والنجف كلما اتيحت لهم الفرصة، كان أخرها هجومهم على المدينتين بعيد
الحرب العالمية الأولى.
إنها طريقة متميزة في القتل والذبح والتدمير واستباحة الأرواح
والأعراض يمارسونها ويتفننون ويبدعون في تنفيذها كلما خدمتهم الظروف،
فمارسوها في العراق وأفغانستان عندما استولوا على قندهار في العام 1996
.
كذلك مارسوها من قبل في مكة المكرمة والمدينة المنورة ، عندما بسط
الحكام والمستعمرون أيديهم في المدينتين مطلع القرن الماضي.
ولما مروا على شمال العراق خلال السنين القليلة الماضية مارسوا نفس
الطريقة ، فقتلوا الأبرياء وزرعوا الموت والرعب في ربوع كردستان
الحبيبة والجميلة ، أثبتت ممارساتهم أنهم متخلفون لا يفقهون معنى
الحياة والحب والطبيعة الخلابة التي تنشر السلام والأمن والهدوء في تلك
المناطق الرائعة الجمال.
إنهم يحقدون على الإنسان ويستشيطون غضبا عندما يتمتع الناس بالأمل
وبجاذبية الحياة والطبيعة الرائعة يتضح لي
أن هناك خيط رفيع يصل بين القتلة على مر التاريخ ، منذ عهد الخوارج
ولحد الآن ، مرورا بالنهج الأموي الذي عرف عنه البشاعة في التنفيذ
والوسائل، وكلنا سمع وقرا عما فعله الأمويون بسبط رسول الله ـ ص ـ
الإمام الحسين بن علي ـ ع ـ سيد شباب أهل الجنة وريحانة جده الرسول
الكريم في كربلاء في عاشوراء عام 61 للهجرة ، والذي لم يراعوا بقتله
أية حرمة ، فانتهكوا بقتله حرمة الإسلام والرسول وأهل بيته.
إنهم لم يكتفوا بقتله ، بل عمدوا إلى حز رأسه ورض جسده الطاهر
بالخيول وسلبه وحرق خيام عياله ومنع الماء عنهم وقتل حتى الطفل الرضيع
، وكل ذلك إمعانا في التشفي من الحسين وجده وأبيه ، ومن الدين الذي
يمثله الحسين ، انه الحقد الأعمى البغيض
انه ذات النهج الذي سار عليه كل الإرهابيين على مر التاريخ ، انه
النهج الأموي في قتل الضحية وسفك الدم البرئ وانتهاك حرمة الإنسان
فهل يلام العراقيون إذا ما أشاروا بأصابع الاتهام إلى فئة ضالة
بعينها عندما تشبهت بالنهج الأموي في تنفيذ جريمتها بمدينة النجف
الاشرف المقدسة ؟
انه خيط الدم الممتد من محراب الكوفة وحتى محراب النجف الاشرف مرورا
بكربلاء ، فالمنفذ واحد ، والضحية واحدة دائما وأبدا
إنها فرصة لفضح هذه العصابات ولتطهير ارض العراق الطاهرة من دنس
القتلة وخطرهم ، من خلال أولا فضح وتعرية الأفكار الظلامية التي يتغذون
عليها ، لتحذير الناس منها قبل أن يصطادوا البسطاء والسذج من المراهقين
والمعوزين.
ملاحظة: النص
التاريخي نقلا عن كتاب لمحات للدكتور المؤرخ علي الوردي.
[email protected]