من لم يسمع باسم (نيلسون مانديلا) هذا المناضل
الذي أمضى زهاء ثلث عمره في السجون ببلده جنوب أفريقيا لأنه وقف ضد
العنصرية البيضاء القادم أشخاصها حاكمين محتلين لبلاده،
وقد
احتفل مانديلا للتو بعيد ميلاده الـ(85) لكنه رفض إطفاء الشموع في
الحفل وقال (إنني كرست حياتي لإضاءة الشموع.. لا العكس).
إن حياة مانديلا مفعمة بالمواقف الذكية أما
أعداؤه فيحاربهم دوماً بابتسامة عريضة، وحين انتهت ولايته من رئاسة
دولة جنوب أفريقيا وبدأ يجوب العالم ليذكر ظهوره بظلم الاستعمار على
بلاده كان يقدم نفسه نموذجاً للإنسان الذي يحب أخاه الإنسان ولا يريد
من هذا الإنسان أن يكون ظالماً لذلك فقد دعا الأمريكان أن يكونوا عشاقاً
للعالم لا رعاة للبقر، ويحذر الإسرائيليين من الاختناق من ثقافة الـ(لا)
لحقوق الفلسطينيين ولعل هذا ما جعل (ديك تشيني) نائب الرئاسة في أمريكا
من أن يمنع (مانديلا) من إقامة علاقات طبيعية وطيدة مع الرئيس جورج
دبليو بوش.
بعد كل ذلك الوهج الذي أحيط بشخص (مانديلا)
واصبح اسمه متداولاً في أرجاء العالم أجاب في حوار معه فيما
نشر مؤخرا إذا كان
يعتقد أن التاريخ كان منصفاً بالنسبة له؟ فأجاب: (لا يعنيني التاريخ
لأنه ليس حالة مجردة بل أنه حالة معقدة وأحياناً صارخة، وأحياناً عقيمة،
ما يعنيني هم الناس، أولئك الذين يفترض أن يعيشوا أفضل وبحرية بطبيعة
الحال).
خلال فترة تواجده الطويلة داخل السجن كان يمضي
أغلب الساعات متأملاً ويطرح سؤالاً كان يعرف جوابه لأنه سؤال حيّ يسري
في خلايا دماغه: (كيف تحدث خيانة الإنسان لنفسه حين يحطم حرية الآخر
وماذا تعني الحرية حتى لا تكون للجميع) وكان في حالة تأمله واثقاً أن
الذين امتهنوا تدمير الحياة وسلبها معناها في المجتمع البشري سيستيقظون
ذات يوم، فهل هذا هو الذي حصل أو يحصل الآن؟
حين يتحدث مانديلا عن بلده يمس المقابل أنه أمام
رمز للصمود ويشعر بضرورة هذا الرجل على تجاوز الذات فلقد رفض أن يكون
رئيساً لجنوب أفريقيا مدى الحياة وترك استكمال العملية الديمقراطية
تأخذ مداها أو يأمل أن تكون كذلك رغم أن تلك الديمقراطية كانت ما تزال
في (مرحلة الحبو) داخل بلاده. ويطلق مانديلا على ذلك بهذه العبارة
البليغة الدالة على موقفه الوطني أمام شعبه: (أجل، كان هذا ضرورياً لا
لأكون مخلصاً لنفسي، وإنما لأكون مخلصاً لبلادي وللعالم).
كان مانديلا لا يدعي أنه القادر أكثر من غيره
على إدارة شؤون البلاد، فثمة مشاكل كثيرة بحاجة إلى حل وكان يعتقد أن
المخلصين لبلده من ذوي الخبرة ليسوا قليلين وبالإمكان أن يكون لهم دور
فاعل في هذا المنحى.
لقد تحول (مانديلا) في التفسير الإعلامي الغربي
إلى نجم عالمي لكن إثارة التعريف به بهذه الطريقة كان يراها دوماً بأنه
ينتمي إلى مواطني الظل. وكان جوابه يعني عدم رضاه أن يسوق اسمه على ذلك
النحو الرديء الذي يطلق عليه اسم نجم عالمي.
إن مانديلا قد ناهض العنصرية البغيضة طويلاً
وكافح من أجل نيل الحرية والعدالة لشعبه وهو في زنزانة السجن ولم يساوم
على مبادئه بوقت كان بعض الحكام الطغاة ممن يقفون على رأس بعض السلطات
يدعون لمجرد الإدعاء بأنهم يعملون للإبقاء على تمتع مجتمعاتهم بالحرية
والعدالة التي كانت في واقع الأمر مفقودة تماماً ويكيل هؤلاء الحكام
الأمرين لشعوبهم.
وفي حوار أخيرا مع مانديلا تناقلته العديد من
مواقع الانترنيت والصحف الدولية والمحلية في العالم أزاح النقاب عن هذه
الحقيقة المؤلمة التي كانت تجري في بلاده وبلدان أخرى: (لا ريب أن ثمة
من استنزف معظم الموارد الطبيعية، ولعل القليليين هم الذين يعرفون أن
بعض المختبرات كانت تستخدم الزنوج للتجارب الطبية والعلمية وحتى
العسكرية بدلاً من القردة، ستقولون بالطبع إن هذا التصرف مروع أجل إنه
مروع، لكن رهاني كان دائماً على البشر.).
صحيح أن التراجيديا الأفريقية أكبر من التصور
لكن هذا لا يعني أن يحضر الأفارقة أو مواطني جنوب أفريقيا على وجه
التحديد قبورهم ويستقروا هناك فيها، إن العزيمة بقيت أقوى من الاضطهاد
العنصري ومزاجية العنصريين كان لا بد وأن تتوقف يقول مانديلا: (إن لكل
غاية ينبغي أن تكون لها أخلاقياتها الإيجابية فالأفارقة يعرفون جيداً
أن وحيد القرن هو اسوأ من يتعامل مع الحيوانات الأخرى.
وحول موضوع تعدد القوى ومراكز الاستقطاب في
السياسة يعلن (مانديلا) هذه الانطباعات السياسية لما حدث ولما يمكن أن
يكون في الكون: (رأيي في الاتحاد السوفيتي.. أنه كان هناك سبب للانهيار
لقد انتهى الأمر. أمبراطورية ذهبت إلى العدم فهل يقود الأمريكيون أنهم
توصلوا إلى اختراع ذلك القطار الذي يحميهم في النهاية، كما البشر لهم
سقف زمني كذلك الامبراطوريات التي باتت أكثر قابلية للعطب بسبب التطور
الذي حدث في الوعي الفردي كما في الوعي الجماعي. إننا نقر بالتفوق
التكنولوجي الهائل للولايات المتحدة..إنني أقول للأمريكان أنكم بشر
مثلنا. أجل عليهم أن ينتبهوا ولا يحسبوا أنهم بالقول يستطيعون أن
يكونوا سوبر بشر. غريب أنهم لم يأخذوا العبر مما حصل لهم في أكثر من
مكان. لقد قلت للرئيس جورج دبليو بوش أحذروا كراهية العالم لكم...
ويستمر مانديلا في التذكير ببعض التفصيلات حول
بعض الحقائق: (ليس صحيحاً أن الكلام لا يغير شيئاً نظراً لقد أتى
الأنبياء بالكلام وغيروا وجه العالم، الفلاسفة لعبوا دوراً كبيراً، هل
نتصور أن الثورة الفرنسية قامت لولا فولتير ومونتسيكو وغيرهما. يفترض
أن تكون هناك أرضية فكرية لأي تغيير، وبمنأى عن نظرتنا إلى الشيوعية
وتضييقاتها ألم يكن كتاب رأس المال لـ(كاري ماركس) هو الذي أشعل الثورة
البلشفية الروسية)
ثمة دلالة ممكن استخلاصها من تجربة مانديلا في
الحياة السياسية هو أن تكون الصراحة المشفوعة بالتذكير والنصيحة منهجاً
للتواصل مع الآخرين وإن كان الاختلاف الأيديولوجي معهم أمراً وارداً
ومفضلاً. |