في مدينة الصدر وهي حي عشوائي للطبقة العاملة فى
الطرف الشمالي لبغداد تجري الولايات المتحدة تجربة تختلف عن غيرها منذ
انتهاء الحرب العالمية الثانية وهي بناء ديمقراطية في الخارج من نقطة
الصفر بقوة الاحتلال.
والتحدي صعب.
وحتى غزو العراق بقيادة امريكا والاطاحة بصدام
حسين كان الحي يعرف باسم مدينة صدام وهو مثال لتعدد عرقي متوتر يضم نحو
مليوني نسمة من عرب وأكراد وسنة وشيعة. وبعد قرون من الحكم العثماني
وعقود من الحكم البريطاني ثم حزب البعث وصدام لا يعرف العراق كثيرا عن
الديمقراطية المعروفة في الغرب.
وهنا يحاول بي. جيه. ديرمر اللفتنانت كولونيل
السابق بالجيش الامريكي اقامة مجلس مدينة بغداد.
ويتجول ديرمر الذي أمضى وقتا طويلا في الشرق
الاوسط في العاصمة لمساعدة العراقيين في تشكيل مجالس محلية ترسل ممثلين
لمجالس الاحياء التي ستنتخب بدورها ممثلين في مجلس مدينة بغداد الذي
يضم 35 عضوا. ربما تكون هذه خطوة أولى نحو الديمقراطية.
قال ديرمر "هذا ما يريده الرئيس الكبير."
والرئيس الكبير هو جورج بوش.
قال ديرمر "انني عصبي بعض الشيء. اتفهم المهمة
المطلوبة. انه ليس العراق فقط. انه الشرق الاوسط. المنطقة بأسرها. جاءت
الصحافة الايرانية لتكتب عن العملية. وأتساءل هل الطلبة المتظاهرون في
ايران شاهدوا هذا."
لا يعرف أحد متى يمكن اجراء انتخابات عامة في
العراق. ولكن من ناحية اخرى لا يعرف كثيرون ان انتخابات غير رسمية تجري
في بغداد.
انتخبت لجان المناطق السكنية ممثليها بمساعدة
الامريكيين والان سيرشحون أنفسهم للانتخابات على مستوى الحي. في مدينة
الصدر سيختار 41 نائبا عن السكان سبعة أعضاء فيما بينهم لعضوية مجلس
مدينة بغداد.
ولم تكد تمر دقيقة بعد أن قرأ الشيخ الفاتحة في
اجتماع مجلس مدينة الصدر لمناقشة الانتخابات حتى بدأت مشاجرة.
قال الشيخ في الاجتماع ان الانتخابات تأجلت لضيق
الوقت وما لم يقله هو ان الامريكيين يحتاجون الى مزيد من الوقت للتأكد
أن ايا من الواحد والاربعين المجتمعين ليس له صلة بالنظام السابق.
ويهب رجل طويل القامة واقفا ويقول "انها
ديمقراطية. يجب الادلاء برأيي. لا يستطيع احد تكميم أفواهنا."
ثم ينقلب الاجتماع الى فوضى عندما يحاول
المندوبون تجاهل مطلب امريكي بان مجلس مدينة الصدر يجب ان ينتخب امرأة
واحدة على الاقل وما لا يقل عن كرديين بين ممثليهم السبعة.
ويعتقد عراقيون انهم مستعدون للديمقراطية بدون
حصص للاقليات. ومرة أخرى يتحدث الرجل الطويل ويقول "في الوضع الحالي
بعد الغزو يريد أعداء العراقيين تقسيمنا بين عرب وغير عرب. اذا حدث هذا
سيغرق العراق في بحر من الدم. انه عراق واحد.."
وشهد ديرمر شيئا مماثلا من قبل. في اجتماع
بجامعة بغداد حاول طلبة اسلاميون متشددون اختطاف الاجتماع واصدروا
مجموعة من المطالب منها الا يقترب الجنود الامريكيون من حرم الجامعة
وتبع ذلك هتافات استمرت عشر دقائق.
وفي مدينة الصدر والجامعة تراجع ديرمر ليسمح
للعراقيين بالتعبير عن ارائهم ثم سيطر على الوضع عنما بدأ بنفلت.
قال للطلبة "حسنا.. هذا كيف تعمل الديمقراطية.
الكل سيكون لديه فرصة ليتكلم. انه ليس صوتا واحدا يعلو على الاخرين..
الديمقراطية اختيار.. هل تريدون الاستمرار."
وخيم الهدوء وسط اشارات بالموافقة.
قال ديرمر "لا نستطيع ان نحكم بالعواطف. سيطرت
العواطف في العشر دقائق الاولى. يجب السماح بالكلام للجانب الاخر.
وتتصافحون ثم تنصرفون."
وكان رد الفعل مختلطا.
قال رياض عزيز هادي عميد كلية العلوم السياسية "هذه
اول مرة نناقش فيها أي موضوع بحرية. انها المرة الاولي التي يحدث فيها
شيء بطريقة ديمقراطية."
ولكن الطالبة لقاء عباس اثارت التصفيق بأسئلة
عميقة عن الاحتلال الامريكي.
قالت بعد الاجتماع "ماذا عن وعودهم. قالوا انه
سيتم تشكيل حكومة وطنية ولا زلنا في ظل حكومة دولية. نريد بناء بلدنا
وبناء الديمقراطية. وحاليا لا نستطيع تحقيق هذه الاهداف لاننا تحت
الاحتلال. يجب ان ينفذوا ولو وعدا واحدا من وعودهم."
وفي اطار تشكيل المستقبل السياسي للعراق افاد
مصدر مقرب من قيادة قوات التحالف في العراق بان الادارة المدنية التي
يترأسها بول بريمر تولي اهمية كبيرة لدور الشيعة في عراق المستقبل،
كونهم يمثلون الاغلبية ووقع عليهم ظلم اكثر من غيرهم في العهود السابقة،
اضافة الى امكانياتهم السياسية والتقنية والاجتماعية.
وقال المصدر، الذي كان يتحدث الى «الشرق الاوسط»
في بغداد، ان سلطة التحالف ستلبي مطالب المرجع الشيعي اية الله حسين
السيستاني بأن يكون المجلس الدستوري المزمع انشاؤه لاقتراح دستور دائم
لدولة العراق، عراقياً وان يتم اختيار هذا المجلس من قبل العراقيين،
وبالذات من قبل المجلس السياسي الذي سيتم تشكيله قريبا وبالتعاون مع
سلطة التحالف.
واضاف المصدر ان الاتجاه المرجح لدى هذه السلطة
حاليا هو «الضغط» في اتجاه ان يكون المجلس الدستوري ذا اغلبية شيعية،
حتى وإن كان الاختيار سيتم على اساس سياسي، لان ثقل مركز الشيعة في
العراق له تأثيره في عموم المنطقة.
واضاف ان الادارة المدنية الحاكمة الآن في
العراق رحبت وترحب بالتقارب على الساحة السياسية والدينية والاجتماعية
بين آية الله السيستاني وآية الله محمد باقر الحكيم، وتأمل ان يكون هذا
التقارب عاملا مهما لتوحيد الشيعة في اتجاه بعيد عن التطرف، وعلى وفق
منهج الآيتين المعتدل.
واشار الى ان سلطة التحالف تعتمد اسلوب التقارب
السلمي بينها وبين الشيعة في العراق، وتأمل ان يكون هؤلاء نموذجا
للمرجعية لدى الشيعة في الدول المجاورة وبقية البلدان الاسلامية.
واكد المصدر ان من اولى اولويات قوات التحالف في
العراق الآن اعادة الحياة الطبيعية واستئناف الخدمات العامة بشكل افضل
وتحسين المستوى المعيشي لتضمن عدم الحنين الى نوع من الاستقرار الامني
والخدمي والمعيشي في ظروف سابقة.
وعلى الرغم ما تعرض له الشيعة العراقيون طوال
عقود تحت حكم صدام حسين والحكام السنة الذين سبقوه يقول زعماء الأغلبية
الشيعية إنه لا خوف من وقوع عنف طائفي في العراق الجديد.
وتنتشر المخاوف من نشوب حرب أهلية بين الشيعة
والأقلية السنية التي ينتسب إليها جميع حكام العراق في العصر الحديث
وذلك بعد الإطاحة بصدام.
ويقول زعماء وأفراد من الأغلبية الشيعية إنه
ينبغي ألا يخشى السنة من الانتقام في عراق ما بعد صدام حيث من شبه
المؤكد أن تجلب أي انتخابات حرة بالشيعة إلى الحكم.
وتعرض الشيعة للقمع والاغتيالات والظلم خلال
معظم تاريخهم. ولم تكن حياتهم تحت حكم الأقلية السنية في العراق الحديث
استثناء.
فمنذ أحضر البريطانيون الأسرة الهاشمية السنية
من مقرها في سوريا لتحكم دولة العراق التي كانوا قد شكلوها في ذلك
الوقت تعرض الشيعة للتهميش على أقل تقدير. لكن أوضاعهم تفاقمت أثناء
حكم صدام.
وقال حامد البياتي المتحدث باسم المجلس الأعلى
للثورة الإسلامية في العراق: "منذ سقوط صدام وغياب أي شكل من أشكال
الحكومة لم تقع أي حوادث انتقامية. لذلك لا أعتقد أنه ستكون هناك أي
مشاكل (بين الشيعة والسنة)."
وقال أحد سكان النجف التي تبعد 180 كيلومترا عن
العاصمة بغداد معلقا على مخاوف السنة قائلا: "كيف يمكن أن ننتقم من
السنة وهم إخواننا ويتزاوجون منا ونتزاوج منهم."
وفي مرحلة مماثلة من الفراغ السياسي الحالي قام
الشيعة بالتمرد على البريطانيين بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية عام
1920. وأبرموا اتفاقا مع الهاشميين على تأسيس دولة إسلامية عربية
يحكمها الهاشميون آخذين في اعتبارهم أنهم الأغلبية وسيهيمنون على أي
برلمان. لكن بعد ان سحق البريطانيون التمرد الشيعي تركوا الهاشميين
يحكمون العراق عام 1921.
ويرى الشيعة أن الهاشميين خانوهم وحرموهم من
نصيبهم في الحكم.
ومنذ ذلك الحين سعى الحكام السنة إلى التفرقة
بين قيادات الشيعة واجتذبوا إليهم شيوخ العشائر وتجاهلوا رجال الدين
على الأقل إن لم يتعرضوا للقتل والتعذيب.
والمصادر الثقافية لكل من الشيعة والسنة العرب
مشتركة. لكن تسود بين الشيعة منافسة شديدة بين كبار رجال الدين على من
يرأس الطائفة.
ويجب أن يتبع أي شيعي الفتاوى التي يصدرها رجل
دين واحد فقط.
ويقول السنة العرب الذين يشكلون نحو 20 في المئة
من السكان إنهم سينتظرون ليروا كيف سيتصرف الشيعة إذا وصلوا للحكم.
وقال رجل دين سني بارز طلب عدم نشر اسمه: "المسألة
كلها تعتمد على كيفية معاملة الشيعة للسنة. فإذا كانت المعاملة حسنة
فقد نقبل حكومة شيعية.
"لكن إذا اعتمدوا سياسة عامة مناهضة للسنة
كالإعلام والتعليم مثلا فقد تقع مشاكل." ولم يوضح ما هي المشاكل التي
يمكن أن تحدث.
وكان رجل دين سني آخر أكثر تأكيدا على احتمال
وقوع رد فعل من جانب الشيعة مستشهدا باستيلاء الشيعة على عدة مساجد
سنية بعد الإطاحة بصدام.
وقال: "في الغالب سيكون هناك رد فعل من جانب
الشيعة بعد سنوات طويلة من القمع. الوضع معقد."
وأوضح محلل متخصص في شؤون العراق ومقره لندن أن
المخاوف السنية وإن كانت مبررة إلا أنها لن تستمر إذا تشكلت دولة
ديمقراطية في العراق. وأضاف أن الولايات المتحدة لن تقبل بقيام دولة
تقوم على أساس طائفي أو عرقي.
وقال مصطفي العلاني: "المخاوف (السنية) موجودة
لكن مع استقرار الأوضاع ستتغير التركيبة السياسية غالبا لصالح دولة
المؤسسات وفصل الدين عن الدولة … هناك احتمال لا بأس به لتبدد هذه
المخاوف في السنوات القادمة."
المصدر: وكالات، النبأ
المعلوماتية |