يتناول الدكتور غسان سلامة قضايا العصر
وانعكاساتها العربية بعين خبيرة ألفت الغوص بحثا وتحليلا في الفكر
والاجتماع والعلاقات الدولية واستخلاص الجوهري دون التوقف طويلا امام
واجهات قد تكون وظيفتها أحيانا اخفاء ما في الداخل أكثر من عرضه.
حمل كتاب سلامة وزير الثقافة السابق في لبنان
عنوانا يشير الى الخط العام لطريقة تناوله موضوعات بحثه وهو (من
الارتباك الى الفعل.. التحولات العالمية واثارها العربية.) الكتاب
الصغير الذي صدر عن دار النهار للنشر جاء في نحو 70 صفحة وتوزعت مواده
علي عنوانين الاول هو (المحاضرة التذكارية) وقد ألقيت في القاهرة
بمناسبة الاحتفال باليوبيل الذهبي لمعهد البحوث والدراسات العربية
التابع لجامعة الدول العربية. أما العنوان الثاني فكان (نحو علاقة
عادلة بين العرب والغرب) وهو محاضرة ألقيت في العاصمة المصرية أيضا
بمناسبة المؤتمر الاول لمؤسسة الفكر العربي.
وفي الكتاب يشعر القارىء بأن هناك سمة جلية
مميزة تطبع أسلوب تفكير سلامة وأسلوب تعبيره أيضا وهي تلك القدرة على
دخول عالم فيه قدر من الصعوبة وحتى من الغموض أحيانا وفيه سيل من
المصطلحات والخروج منه بكلام واضح واثق يبسط ويوضح.
والدكتور سلامة مارس التدريس الجامعي بصفة أستاذ
للعلاقات الدولية في جامعة القديس يوسف والجامعة الامريكية في بيروت
قبل أن يسافر الى العاصمة الفرنسية ويتولى بين سنة 1986 وسنة 2000 منصب
مدير الدراسات في المركز الوطني للبحوث العلمية ومنصب أستاذ في معهد
العلوم السياسية في باريس. وفي عام 2000 أسندت اليه حقيبة وزارة
الثقافة في الحكومة اللبنانية فتولاها حتى استقالة هذه الحكومة الشهر
الماضي.
يقول سلامة في القسم الاول من كتابه اننا الان "ننتمي
الى عالم في تغير يزداد سرعة يوما بعد يوم. لم يكن العالم ساكنا وانتفض
فجأة طبعا. ولا كانت الكرة الارضية على ثبات فاذا بها تتحول دون سابق
انذار. لكن العالم يبدو لنا اليوم وكأنه يتغير بوتيرة أسرع وبطريقة
أعمق من السابق ويبدو لنا أنه لم يستقر بعد على حال لها مدى متوقع من
الديمومة. لذا فالحيرة تضربنا وتصيب غيرنا أيضا لسبب بسيط هو أننا
ننطلق من توقعاتنا في مرحلة هي في جوهرها انتقالية متحولة ونحاول من
خلالها أن نتوقع نظاما دوليا له قدر من الثبات. من هنا تلك النظريات
التي تذبل قبل أن يجف الحبر التي كتبت به والافكار الشاملة التي تبدو
وكأنها ولدت ميتة."
وتحدث عن التغيرات التي أدت الى وجود دولة عظمى
وحيدة اقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا الان هي الولايات المتحدة وعن
تأثرنا بالتحولات العالمية وعزاه الى أن المنطقة ليست هامشية في النظام
العالمي لاسباب منها مخزونها النفطي الهائل وموقعها وجيرتها لاسرائيل
حليفة الدولة العظمى. وفي اعتقاده ان مقاربتنا لهذه التحولات لا يمكن
أن تكتفي بدراسة توزع القوة في النظام العالمي بل عليها أن تهتم أيضا
بالمتغيرات النوعية الحاصلة في طبيعة العلاقات الدولية فتعالج "بشجاعة
وحكمة تلك المتغيرات الناتجة عن التبدل الحاصل في طبيعة العلاقات بين
الدول وهذا التبدل له اليوم اسم شائع هو العولمة."
ويعتقد سلامة أن العولمة ليست الامركة مع أن
الخلط بينهما شائع. وقال انه صحيح أن التزامن بين انتصار الغرب
الايديولوجي على الشرق السوفيتي وبين تسارع العولمة "ليس وليد الصدفة
لكن الامرين ليسا كما يرى التبسيطيون وجهين لعملة واحدة. فكل منهما
يساعد الاخر ولكن هذا لا يعني أن العولمة هي أحادية القطب وان أحادية
القطب هي العولمة."
فالدولة العظمى قد تجد في "تسريع العولمة كسبا
لها كما كانت ادارة الرئيس (بيل) كلينتون تردد باستمرار وتمارس... وهي
على العكس قد تجد أن العولمة في كثير من مظاهرها عقبة أو مصدر أذى
للمصلحة القومية الامريكية كما تبدو عليه الامور اجمالا" مع ادارة
الرئيس جورج بوش الحالية.
ويتابع "ولا أعتقد لحظة واحدة أن واشنطن ترى في
العولمة حسنة مطلقة. ولو كان الامر كذلك لما رأينا تركيزها على اعلاء
شأن قوتها ولا ميلها الظاهر للتفرد في القرار ولا احتقارها المعلن
للمنظمات العالمية ولا اعتمادها المتجدد على الوسائل العسكرية دون
غيرها من الوسائل ولا تصعيبها لانتقال الناس الى امريكا ولا رفضها
لبروتوكول كيوتو لحماية البيئة ولا تغليبها للقانون الامريكي على
القانون الدولي ولا ضعف معالجتها للازمة الاقتصادية الناشبة في أمريكا
ولا ميلها لوضع قيود جديدة على الواردات الامريكية ولا جنوحها نحو
التمسك القوي بهويتها الثقافية بل الدينية."
وفي اعتقاده أننا اتخذنا في أحيان كثيرة "مواقف
فقهية أو لاهوتية من العولمة فكان بعضنا القليل يدافع عنها اعجابا
بالغرب دون دراية عميقة بعناصرها المحركة وبعضنا الكثير ينبذها
لمساوئها التي لا تعد ولا تحصى. وفي يقيني أن العولمة هي في الواقع
فرصة ثمينة لنا بقدر ما هي منبع لمخاطر جديدة. ومقاربتنا لها لا يمكن
أن تعتمد على القبول أو الرفض فالعولمة حاصلة شئنا أم أبينا... ولا
يمكن أن نقول نأخذ من العولمة ما يناسبنا ونرفض ما يؤذينا."
ولخص ما تقوم عليه العولمة أساسا بثلاثة عناصر
هي ثورة الاتصالات الهائلة وازدياد كبير في التبادلات الدولية وانتقال
الرساميل المالية الكبرى الى نوع من "البداوة" لسهولة انتقالها من بلد
الى اخر مما يعطي أصحابها قدرة غير مسبوقة على التحكم بمصير مجتمعات
بعيدة. وعنده أن "المسألة هي فيما نحن عليه فعلا وليس في ما هي عليه
العولمة فهي خطر أكيد ولكنها أيضا فرصة ثمينة."
وحذر من أن تصيب بعض مفاهيمنا للعولمة الفكرة
العربية بأذى وسأل "هل نتخلى اليوم تماما عن الفكرة القومية بينما نرى
أنها في أوج انتصارها في الدولة العظمى."
المصدر: رويترز |