أطلق الكاتب الأمريكي (هينتغتون)
مقولته الشهيرة (صدام الحضارات) عام 1993م، وطورها عام 1996م، مما دفع
الكثير من المفكرين والمثقفين للتأكيد على مقولة (حوار الحضارات)، وهي
الرؤية التي تبناه في وقت مبكر المفكر الفرنسي المسلم (روجيه جارودي)،
وأكد عليها السيد (محمد خاتمي) في خطابه الشهير الذي ألقاه سنة 1998م،
في الجمعية العامة للأمم المتحدة، مما حذا بها لاختيار سنة 2001م عاماً
للحوار بين الحضارات، وأصبحت هذه المقولة المقابل الأبرز لمصطلح الصدام،
وبين هاتين المقولتين هناك نظرية ثالثة تُعرف بـ(تعارف الحضارات)، وهي
أطروحة أطلقها المفكر الإسلامي زكي الميلاد، في رؤية مغايرة للنظريتين
السابقتين، وهي نظرية مستوحاة -كما لا يخفى- من القرآن الكريم.
وقد بدأ التعريف بهذه النظرية
في 1418هـ/1997م، ضمن العدد (16) من مجلة (الكلمة) الفصلية التي يرأس
تحريرها، وأتبعها فيما بعد بدراسات ومقالات في الصحف والمجلات، وأوراق
ومداخلات في الندوات والمؤتمرات، وجميعها -على ما يبدو- كانت تتماشى مع
الدراسة الأولى.. كما نشر دراستين أخريين في نفس المجلة، بعنوان: (من
أجل بناء نظرية لحوار الحضارات)، في العدد (35) 1423هـ/2002م، و(من
حوار الحضارات إلى تعارف الحضارات)، في العدد (36) 1423هـ/2002م.. فما
الذي يميز هذه الأطروحة الجديدة؟
يجيب المفكر الإسلامي (زكي الميلاد) بأن هذه
النظريات أو المقولات الثلاث، (صدام الحضارات، وحوار الحضارات، وتعارف
الحضارات)، إنما تتعدد وتختلف بحسب اختلاف وتعدد أنساقها المعرفية. فكل
واحدة منها لها طبيعتها النسقية المتميزة بها، والمكوّنة لعناصرها
ومكوناتها الذاتية وملامحها الكلية.
فصدام الحضارات: هي نظرية تفسيرية أو هكذا أراد
أن يصورها هنتنجتون لكي يدافع عنها، ويقنع بها، ويقطع على الآخرين
شكوكهم وهواجسهم واحتجاجاتهم. فقد أراد هنتنجتون -كما يدعي- أن يقدم
نظرية كلية يربط من خلالها، ويفسر بواسطتها الأحداث والوقائع والنزاعات
المتناثرة والمفككة والمتفرقة بين جغرافيات العالم، والتي لها طبيعة
النزاعات والصدامات والحروب المشتعلة والمتفجرة منذ زمن طويل، وترجع
لأسباب وخلفيات دينية وعقائدية وثقافية، كالنزاع الطويل بين الهند
وباكستان ابتداء من انقسام باكستان الإسلامية عن الهند الهندوسية،
وصولاً إلى إقليم كشمير، أو النزاع بين تركيا واليونان حول جزيرة قبرص
المقسمة دينياً بين شطرين إسلامي يدين بالولاء لتركيا، ومسيحي أرثوذكسي
يدين بالولاء لليونان. أو بانفجار الصراع في يوغسلافيا وانقسامها دينياً
بين سكان البوسنة المسلمين، وبين الصرب المسيحيين الأرثوذكس والكروات
المسيحيين الكاثوليك. وهكذا النزاع في ايرلندا بين الأقلية
البروتستانتية والأغلبية الكاثوليكية. بالإضافة إلى الصراع العربي
الإسرائيلي على فلسطين. إلى جانب نزاعات وصدامات أخرى في قارات مختلفة.
لذلك فإن هذه النظرية تنتمي إلى المجال السياسي
وتتحدد به. وأن هنتنجتون تعامل مع الثقافة أو الحضارة من خلال معايير
وتقنيات ومنهجيات علم السياسة، وهو مجال اختصاصه الأكاديمي والمهني
والوظيفي. والمشكلة في هذه النظرية هي أنها لم تقف عند حدود الأبعاد
التفسيرية كما أراد أن يصور ذلك هنتنجتون، وإنما تجاوزت ذلك إلى أبعاد
إنشائية وتحريضية، حيث كانت تصور دائماً وكأنها تحذر الغرب من صدام مع
بقية الحضارات غير الأوربية وبالتالي أن يحافظ على تفوقه ويكون في
مستوى مواجهة مثل هذا الاحتمال لكي لا يفقد حضارته أو تفوقه على مستوى
العالم. وهذه الخلفيات هي التي أثارت حفيظة العالم ومخاوف المجموعات
البشرية، وحرضت على سجال هو الأوسع من نوعه في تاريخ العالم المعاصر.
أما حوار الحضارات: فهي نظرية أراد منها غارودي
أن تكون خطاباً نقدياً وعلاجياً لأزمة الغرب الحضارية -كما يصفها-
ولأنماط علاقاته بالعالم والحضارات غير الأوربية. كما أراد منها أيضاً
أن تكون خطاباً موجهاً إلى الغرب بصورة أساسية. لذلك فهي تنتمي وتصنف
على النظريات الغربية التي تنطلق من نقد التجربة الغربية والفكر الغربي.
ومن حيث نسقها المعرفي فهي تنتمي إلى المجال الثقافي وتتحدد به لأنها
تركز على الأبعاد الثقافية والفكرية والأخلاقية.
وأما حوار الحضارات: في رؤية السيد محمد خاتمي
فقد جاءت استجابة لبعض المعطيات والضرورات السياسية في الدرجة الأولى،
ومن أجل أن تكون خطاباً نقدياً بديلاً لخطاب صدام الحضارات. وقد ظلت
تتحدد في هذا النطاق ولم تتحول إلى نظرية واضحة ومتماسكة، وما زال
العالم العربي والإسلامي يفتقد إلى نظرية تعبر عن رؤيته في كيفية
التقدم والتحضر، وعن أنماط علاقاته بالعالم.
فإذا اعتبرنا صدام الحضارات بوصفها نظرية
تفسيرية، وحوار الحضارات بوصفها نظرية نقدية أو علاجية، فإن تعارف
الحضارات هي نظرية إنشائية بمعنى أن القاعدة فيها هي الإنشاء وليس
الإخبار، فقد جاءت لإنشاء شكل العلاقات المفترض بين الناس كافة حينما
انقسموا إلى شعوب وقبائل كما نصت الآية الكريمة التي أطلق عليها بآية
التعارف، في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ
مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[الحجرات: 13].
فالتعارف هو المفهوم العام والكلي والجامع
والشامل الذي اختارته هذه الآية في تحديد النمط العام لعلاقات الناس
كافة مهما تعددت وتنوعت أعراقهم وسلالاتهم، لغاتهم وألسنتهم، دياناتهم
ومذاهبهم، تاريخهم وجغرافياتهم. ولأن خطاب الآية إلى الناس كافة {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ}، ولأن الحديث عن شعوب وقبائل وليس عن أفراد، أي أنه
حديث عن أمم ومجتمعات وتجمعات لذلك فقد جاز لنا تطبيق هذا المفهوم على
مستوى الحضارات، ومن هنا تحدد مفهوم تعارف الحضارات. فهي نظرية مستنبطة
من القرآن الكريم، وهو الكتاب الذي بإمكانه تحديد وصياغة العناوين أو
المفاهيم الكلية والعامة والجامعة والشاملة، إذا جاءت في سياق يقتضي
هذا الشأن -كما هو الحال في آية التعارف- علماً بأن جملة {شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ} لم ترد في القرآن الكريم إلا في هذه الآية. لهذا فإن
تعارف الحضارات فيها من المقومات والركائز والشرائط بالشكل الذي يجعلنا
نطلق عليها مصطلح النظرية.
أنماط التعارف وسلوكياته
* هل أردت أن تجعل من نظرية (تعارف
الحضارات) مرحلة وسيطة وانتقالية، للوصول إلى حوار بين الحضارات؛
ليتجنب العالم الصدام بينها؟
نظرية تعارف الحضارات هي أكثر من كونها مرحلة
وسيطة أو انتقالية, فهي وسيطة بمعنى أن على أساسها تتحدد مستويات
ودرجات واتجاهات العلاقات ونظام التواصلات بين الناس، وبين المجموعات
البشرية، وبين الحضارات، وهكذا أنماط وأشكال وصور هذه العلاقات
والتواصلات. فالتعارف هو الذي يؤسس لأشكال الحوار ومستوياته ودرجاته،
وإلى أشكال ومستويات ودرجات أخرى من العلاقات والتواصلات أيضاً،
كالتعاون والتحالف والتبادل والإنماء والاندماج والتكامل.. إلى غير ذلك
من صور وأشكال وأنماط العلاقات. وبقد رما يتطور التعارف تتطور تلك
الصور والأنماط من العلاقات والتواصلات. وهذا يعني أن التعارف يسبق
الحوار ويؤسس له أرضياته ومناخاته، ويشكل له بواعثه وحوافزه، ويطور له
صوره وأنماطه، ويرتقي بدرجاته ومستوياته، لهذا فإن التعارف هو القاعدة
وليس الحوار.
كما أن التعارف له من الفاعلية ما بإمكانه أن
يجنب الحضارات مصير الصدام، لأن الناس -كما قال الإمام علي (عليه
السلام)- أعداء ما جهلوا. وفي هذا المجال نستحضر من التاريخ الإسلامي
الوسيط تجربة التحول العظيم الذي حصل عند المغول الذين بدؤوا بغزو كان
من نتائجه تدمير الحضارة الإسلامية والإطاحة بها، وممارسة أعلى درجات
البربرية وهو السلوك الذي كان يتصف بالقسوة والعنف والتخريب. ولكنهم
وبعد زمن من السيطرة والتواجد في المنطقة الإسلامية وبين المسلمين،
انتهوا إلى اعتناق الإسلام. والتعارف هو الذي أحدث هذا المستوى من
التحول في ذهنيات المغول. فالجهل قادهم إلى الحرب والتدمير، والتعارف
قادهم إلى السلم والإيمان.
وهناك أيضاً نموذج آخر هو التحول الذي حصل عند
الأوربيين بعد الحروب الصليبية التي قادتهم إلى قناعة جديدة، هي ضرورة
التعرف على الحضارة الإسلامية وعلى الشرق عموماً الذي كان أكثر تقدماً
وتحضراً ومدنية من الغرب. القناعة التي حرضت الغرب على أن ينهض بأكبر
وأعظم جهد بحثي في دراسة الإسلام والحضارة والشرق، وهو الجهد الذي عرف
بحركة الاستشراق, وكن من المفترض لهذا الجهد أن يقود أوربا إلى نوع من
التفاهم وبناء علاقات جديدة بينها وبين الإسلام والعالم الإسلامي. لكن
الذي حصل هو عكس الاتجاه تماماً، لأن المعرفة التي نهض بها الغرب
ارتبطت بدوافع وخلفيات ومصالح استعمارية وإمبريالية، وهذا يعني أن
التعارف لم يكن أخلاقياً، وإنما كان توظيفياً ويخدم مصالح استعمارية.
* أسست لنظرية (تعارف الحضارات)..
فهل دراساتك الأخرى كتبت بدافع ترسيخ هذه الأطروحة؟.. أم أنها تضمنت
محاولات لإعادة النظر فيها ومعرفة مدى تماسكها كنظرية بديلة؟
** لقد جاءت هذه الدراسات والكتابات والمشاركات
في سياق التأكيد على مقولة تعارف الحضارات من جهة، والعناية بفحص مقولة
حوار الحضارات من جهة أخرى, وقد وجدت بعد فحص مقولة حوار الحضارات بأن
هذه المقولة تفتقد إلى الدقة والوضوح والإحكام والتماسك، وأول ما يعترض
هذه المقول هو: هل أن الحضارات تتحاور فعلاً؟ وكيف نتصور هذا التحاور
ونبرهن عليه؟ علماً بأن الدارسين والباحثين والمؤرخين في ميادين
التاريخ والاجتماع والانثربولوجيا والحضارة والثقافة، الذين درسوا صور
وأشكال وأنماط العلاقات بين الحضارات لم يتحدثوا عن ظاهرة الحوار بين
الحضارات، وإنما تحدثوا عن ظواهر أخرى كالتفاعل والتعاقب والتبادل
والاحتكاك، إلى جانب الصراع والصدام. وقد شرحوا هذه الظواهر وعرفوا بها
وعن صورها وأشكالها وأنماطها. ولعل في أكثر الأحيان يكون المقصود من
حوار الحضارات تلك الظواهر المذكورة، لكن هذا لا يعفي سلب الدقة عن هذه
المقولة. وفي الأدبيات العربية المعاصرة هناك لفتات متزايدة ومقنعة لحد
ما في نقد هذه المقولة بعد أن دخلت في دائرة التداول والاهتمام. وهناك
من يصنفها مثل الدكتور الجابري بأنها مفعمة بالغموض والالتباس، وحسب
رأيه أن الذين يطرحون هذه المقولة واقعين عند منطوقها حيث ينطوي موقفهم
على نوع من الغفلة لأن الحوار بين الحضارات إما أن يكون عفوياً تلقائياً
نتيجة الاحتكاك الطبيعي فيكون عبارة عن تبادل التأثير عن أخذ وعطاء
بفعل الصيرورة التاريخية، وهذا النوع من تلاقح الحضارات لا يحتاج إلى
دعوة ولا يكون بتخطيط مسبق بل هو عملية تاريخية تلقائية.
ومن جهة أخرى في نقد هذه المقولة أنها غير ممكنة
فعلاً من جهة التطبيق، لأن الغرب الذي يفترض فيه ن يكون طرفاً أساسياً
في أي حوار على مستوى الحضارات فإنه ليس على استعداد في أن ينخرط في
هذا الحوار مع حضارات يعتبرها غير متكافئة معه، وهو الذي يمثل الحضارة
الغالبة والمسيطرة على العالم والمتحكمة على ثرواته. كما إن تاريخ
علاقات الغرب بالحضارات الأخرى قد لا يشجعه على هذا الحوار، وهو الذي
دخل في صدام وتدمير مع بقية الحضارات الأخرى وسلب منها ثرواتها وأوصل
بها إلى درجة الإفقار والتخلف.
يضاف إلى ذلك إنني وجدت إننا على مستوى العالم
العربي والإسلامي لا نمتلك نظرية واضحة حول حوار الحضارات، ولا نفهمها
أو نتعامل معها إلا بطريقة تغلب عليها العمومية والاطلاقية التي تفتقد
إلى التحديد والتقييد والتبيين. لكنها مع ذلك تبقى من المقولات التي
يمكن اعتبارها بأنها دعوة أخلاقية نبيلة.
وهذا ما دفعني إلى التمسك بمقولة تعارف الحضارات
التي يمكن فهمها وتحديدها والبرهنة عليها، وحتى الاتفاق عليها.
نقد الذات
* بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م
التي جعلت العالم وكأنه يعيش عملياً (صدام الحضارات).. كيف تستشرفون
مستقبل نظرية (تعارف الحضارات)؟
** بعد هذه الأحداث تنامت في المجتمعات الغربية
ظاهرة لفتت إليها الكثيرين في داخل هذه المجتمعات، وفي خارجها، وهي
ظاهرة تزايد واتساع الاهتمام نحو الاطلاع والتعرف والمساءلة حول
الإسلام من جديد، لدرجة أصبحت المؤلفات والكتابات في هذا المجال هي
الأكثر انتشاراً وتداولاً وطلباً, وبدأت المراكز والمعاهد والجمعيات
الإسلامية هناك تستقبل اتصالات لم تشهد مثيلاً لها من قبل، وتدور هذه
الاتصالات حول الإسلام والقضايا الإسلامية والمجتمعات الإسلامية. ووصل
الحال ببعض المعاهد والكليات والجامعات الأوربية والأمريكية التي وجدت
من الضروري تخصيص برامج دراسية حول الإسلام تستجيب لحاجات طلابها في
تكوين المعرفة بالإسلام والثقافة الإسلامية, ويمكن وصف هذه الظواهر
بأنها تأتي في سياق تأكيد الحاجة إلى تعارف الحضارات.
من جهة أخرى أن هذه الأحداث كشفت عن اختلالات
عميقة في طبيعة الرؤية المتشكلة حول العالم عند بعض الفئات والجماعات
الإسلامية التي تحاول أن تصادم العالم وتنقطع عنه وترفض الاندماج فيه،
وتعتبر حالها في حالة حرب ومواجهة مع الذين يختلفون معها في الدين
والعقيدة. وهذه الحالة في جوهرها تعبر عن أزمة فكرية ناشئة من عدم
القدرة على تكوين المعرفة بالآخر المختلف. في حين أن الذي ينبغي إعادة
النظر فيه هو أن حقيقة مشكلتنا نحن في العالم الإسلامي هي مع تخلفنا
بالدرجة الأولى وليس مع الغرب أو الحضارات الأخرى. وبالتالي فإن القضية
هي كيف نتغلب على هذا التخلف ونسلك طريق التحضر، ومتى ما قطعنا هذه
الخطوات أو بعضها سوف يتغير موقعنا في العالم كما سوف تتغير نظرة
العالم والحضارات الأخرى إلينا. لذلك فإننا ندرك وبعمق حاجتنا لأن ننهض
بمشروع يكون بمستوى التعارف مع الحضارات على قاعدة أن نكتشف لأنفسنا
الطريق الذي نستقل به في سعينا نحو التمدن والتحضر.
* برأيك.. ما هي المتطلبات
اللازمة لنجاح فكرة تعارف الحضارات؟ وما هي شروط نجاحها على أرض الواقع
بعيداً عن عالم الأمنيات؟
** كان يفترض في أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001م،
أن تهيئ اللحظة التاريخية لانطلاقة فكرة أو نظرية حول تعارف الحضارات،
لكي يتحصن العالم من النزاعات والصدامات والحروب، ولكي لا تتكرر مثل
هذه الأحداث مرة أخرى في أي مكان من العالم. وهذا يتطلب صياغة رؤية
جديدة إلى العالم يشترك الجميع بكل تنوعاتهم الدينية والثقافية،
العرقية والقومية، اللغوية واللسانية، في صياغتها وبلورتها وتكاملها،
وفي التضامن حولها، والدفاع عنها. الرؤية التي تنطلق من مراجعة شاملة
ونقد جذري لطبيعة النظام العالمي السائد بكل مكوناته وعناصره وشرائطه،
ويصل إلى جوهره وحقيقته. لأن هذا النظام العالمي يفتقد إلى العدالة
والمساواة ويكرس الظلم والفقر والتبعية، ويعمق الفروقات الاجتماعية
والطبقية وبكافة صورها وأنماطها، ولا يضمن كرامة الجميع ويحفظ حقوق
الجميع. وهذه الوضعيات هي التي تحرض على انتشار ظواهر العنف، وتسبب
النزاعات، وتشعل الحروب، وهي التي تجعل مثل أحداث أيلول/سبتمبر ممكنة
الحدوث. والأفدح من ذلك محاولة الغرب في أن يحتكر الحضارة والمدنية
لنفسه، ويرسخ في العالم الانقسام بين أمم متحضرة وأمم متخلفة، هذا
الاختلال هو ما ينبغي أن يتغير.
وفكرة تعارف الحضارات تأتي في سياق نقد هذا
الاختلال والعمل على إنهاض وبناء وعمران الحضارات المختلفة، لأنها أي
تعارف الحضارات تنطلق من نزعة إنسانية عميقة هي التأكيد على وحدة الأصل
الإنساني {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى}، والغاية من
تأكيد وحدة الأصل الإنساني في هذه الآية هو أن ينظر الناس من أمم
ومجتمعات وحضارات إلى أنفسهم كما لو أنهم أسرة إنسانية واحدة، لكنها
متشعبة على مساحات هذه الأرض. وهذه النظرة الإنسانية والأخلاقية بحاجة
إلى تنظيم قواعد السلوك على المستوى الدولي. يضاف إلى ذلك أن هناك
اعتقاد بدأ يتأكد بين الحضارات، هو أن هذه الحضارات لا تعرف بعضها بعضاً
كما ينبغي، وتفتقد إلى جسور التواصل في عالم تطور فيه تقنيات الاتصال
وأنظمة المواصلات التي باتت تربط العالم، وتجعل منه أشبه ما يكون بقرية
صغيرة. لهذا يمكن الاستفادة من العولمة في تطوير وتعميم فكرة التعارف
بين الحضارات، وتقليص المسافات التي تفصل بينها وإزالة كافة صور الجهل
أو عدم الفهم أو غير ذلك فيما بين هذه الحضارات.
استقبال إيجابي
* عملت وسائل الإعلام الكبرى
على تضخيم نظرية (صدام الحضارات)؛ إلاَّ أنها مع ذلك قد استقبلت بتشاؤم
كبير، لأنها ركزت على ما يفرق الحضارات لا على ما يجمعها.. بالمقابل -ومع
الفارق في الإمكانيات والقدرات- كيف كان تفاعل النخب المثقفة مع نظرية
(تعارف الحضارات) التي تتبنونها وتبشرون بها، علماً بأنها نظرية
مستوحاة من القرآن الكريم؟
تعارف الحضارات ما زالت من الأفكار الجديدة،
لكنها من الأفكار الواعدة، التي بإمكانها أن يكون لها قدراً من الإلهام
لو تعرف عليها العالم بصورة معمقة وناضجة، وأتيحت لها فرص وإمكانيات
التداول والانتشار في نطاقات عالمية واسعة.
وفي المدار التي تحركت فيه هذه المقولة ووصلت
إليه فإنها لقت تقبلاً واهتماماً، حيث تحدث عنها وتطرق إليها بعض
الكتاب والأكاديميين من دول عربية مختلفة، وفي منابر ومناسبات متعددة.
فقد كتب عنها الأستاذ (هاني إدريس) من المغرب في مجلة الكلمة، والدكتور
(أحمد البغدادي) أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت في صحيفة الاتحاد
الإماراتية، وتطرق إليها الأستاذ (تركي علي الربيعو) من سوريا في صحيفة
الحياة اللندنية، والأستاذ (عبد الواحد علواني) من سوريا في مجلة
الكلمة، والدكتور (رسول محمد رسول) من العراق في صحيفة الزمان اللندنية،
والدكتور (سمير عبد الحميد إبراهيم) أستاذ اللغات الشرقية وآدابها
بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية -وهو من مصر- في مجلة أحوال
المعرفة السعودية، وقدم حولها الدكتور (سيف الدين عبد الفتاح) أستاذ
العلوم السياسية بجامعة القاهرة ورقة لندوة عقدة بكلية دار العلوم
بجامعة القاهرة، كما تحدثت عنها وبتبني واهتمام الدكتورة (نادية مصطفى)
أستاذ العلاقات الدولية والمشرفة على برنامج حوار الحضارات بجامعة
القاهرة في ورقة تقدمت بها لندوة عقدت بدمشق، وقد فتحت هذه الورقة
نقاشاً واسعاً حول هذا المفهوم بين المشاركين في هذه الندوة.
وما زالت هذه المقولة تستقطب الاهتمام، ومن
يقترب منها، ويتعرف عليها يدرك قيمتها وحيويتها، ودقتها أيضاً.
* في كتابكم الموسوم بـ(المسألة
الحضارية.. كيف نبتكر مستقبلنا في عالم متغير؟)، قلتم: "لا زلنا بحاجة
إلى استكشاف أعمق للجوانب الحضارية الشاملة من فكرنا وتراثنا وتاريخنا،
الذي يختزل لنا الشيء الكثير، وينتظر من يستكشفه".. فعلى من تقع
مسؤولية الاستكشاف هذه، وهل ترون بأن الأمة -في هذه الفترة الزمنية-
بدأت تبدع لنفسها أفكارها وتثق بها وتعلي من شأنها؟ أم أنها لا تزال
مسحورة بما تستورده من الغرب؟
** إننا ما زلنا فعلاً بحاجة إلى استكشاف أعمق
للجوانب الحضارية الشاملة في فكرنا وتراثنا وتاريخنا، وسوف أبرهن وأوثق
هذه الحقيقة بشاهدين معاصرين.
الشاهد الأول: هو حينما دعي الدكتور (محمد أركون)
للمشاركة في برنامج أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية في باريس سنة
1989م، للحديث عن الأصول الإسلامية لحقوق الإنسان. وبعد أن أنهى
محاضرته، انبرى له المستشرق الفرنسي (أرنا لديز) الذي وصفه مترجم
كتابات أركون إلى العربية (هاشم صالح) بأنه كان المختص الوحيد في
الإسلاميات من بين المشاركين في استماع محاضرة أركون، وقال موجهاً
كلامه لأركون: سأدافع ولو للحظة عن كل أولئك الفقهاء والعلماء
والمفسرين الذين طالما درستهم وعاشرت نصوصهم. سوف أذكر محمد أركون بأن
هؤلاء الفقهاء كانوا نشطين جداً، وأنهم حركوا النصوص القرآنية،
وأنعشوها بتفاسيرهم إلى درجة يصعب علينا اليوم، حتى باسم العلوم
الإنسانية العزيزة جداً عليك يا سيدي أركون، أن نجد فيها شيئاً آخر
جديداً غير الذي وجدوه.
والشاهد الثاني: هو ما تحدث به الدكتور (زكي
نجيب محمود) عن نفسه، بصدق ووضوح في مقدمة كتابه (تجديد الفكر العربي)،
حيث قال: بدأت بتعصب شديد لإجابة تقول إنه لا أمل في حياة فكرية معاصرة
إلا إذا بترنا التراث بتراً، وعشنا مع من يعيشون في عصرنا علماً وحضارة
ووجهة نظر إلى الإنسان والعالم، بل إنني تمنيت عندئذ أن نأكل كما
يأكلون، ونجد كما يجدون، ونلعب كما يلعبون، ونكتب من اليسار كما يكتبون.
على ظن مني آنئذ أن الحضارة وحدة لا تتجزأ، فأما أن نتقبلها من أصحابها
أبناء أوربا وأمريكا، وإمام نرفضها، وليس في الأمر خيار بحيث ننتقي
جانباً ونترك جانباً، كما دعا إلى ذلك الداعون إلى الاعتدال.
بدأت بتعصب شديد لهذه الإجابة السهلة، وربما كان
دافعي الخبئي إليها هو إلمامي بشيء من ثقافة أوروبا وأمريكا، وجهلي
بالتراث العربي جهلاً كاد أن يكون تاماً والناس -كما قيل بحق- أعداء ما
جهلوا.
وهناك شواهد كثيرة تؤكد على حقيقة إننا لم ننهض
باستكشاف فكرنا وتراثنا وتاريخنا من خلال حفريات معرفية مكثفة ومعمقة،
وبالاستفادة من منهجيات العلوم الإنسانية والاجتماعية. والقاعدة التي
ينبغي أن ننطلق منها هي أن نهضة أية أمة وتقدمها وتحضرها لا يتحقق إلا
من خلال الانتظام في تراثها وتاريخها وثقافتها، وليس بالخروج على ذلك
التراث والتاريخ والانقطاع عنهما أو إقصاءهما.
* (تعارف الحضارات) كنظرية
قرآنية، أليس من المفترض أن تلاقي -منك شخصياً- مزيداً من الاهتمام
لتطويرها والدفاع عنها والتأكيد عليها، وبالتحديد (في كتابٍ مستقل)،
عسى أن تجد لها آذاناً واعية؟
** هذه المقولة كانت بحاجة أولاً إلى اختبار
لقياس وجهات النظر حولها، واكتشاف قيمتها المعرفية، ومدى تقبلها
والاهتمام بها والتفاعل معها، تمهيداً لتطويرها وتنضيجها، وتحضيرها في
وقت لا حق في كتاب، هو حالياً في طور الإعداد، وسوف يضم مشاركات
لباحثين ومفكرين وأكاديميين من دول عربية مختلفة.
hahqa@yahoo.com
عن مجلة الحج والعمرة
|