بوصلة الربيع العربي الى اين تتجه؟

علي حسين/مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام

يخبرنا التأريخ بتبادل الامكنة بين القامع والمقموع، من دون أن يعترف القامع بما فعلته يداه وعقله، وعندما يتسلم المقموع زمام السلطة ويتربع على كرسي العرش، سرعان ما تصيبهُ لعنة السلطة وسحرها وامتيازاتها، فيتحول الى قامع لا يختلف عمَّن كان يقمعه سابقا.

هكذا تستمر دورة التأريخ السياسي العربي عبر قرون وعقود متتابعة، لتؤكد للمراقب والمختص، أن الاستفادة من التجارب والوقائع هي آخر ما يفكر فيها المقموع الذي أزاح القامع، فتحول بدوره الى قامع جديد وهكذا دواليك، إذ تؤكد وقائع الراهن العربي بعدما تمخضّ عنه الربيع العربي المزعوم، حيث الفوضى تعم كل شيء، وحيث تضيع بوصلة التوجيه الصحيح في خضّم الصراع الشرس بين مقموع الامس ومناوئيه بعد أن تحول الى قامع من طراز جديد، يستخدم جميع السبل المتاحة له من اجل اقصاء الآخرين.

مبتعدا في هذا عن جذوره وتأريخه وتجاربه ودينه ايضا، داخلا في صراع متجدد مع الصوت المعارض، ضاربا عرض الحائط حرية الناس وخياراتهم، هذا ما يحدث الان في مصر وتونس وغيرهما، حيث تسير قيادات الاخوان المسلمين والقوى المنضوية تحت مسمى الاسلام السياسي في دول عربية اخرى، في طريق الاقصاء والطغيان، دونما مراعاة لتجربة الماضي القريب عندما كانوا مكممين ومقصيين، وهكذا تحوّل الاخوان المقصيّون سابقا الى قامعين، بعد أن اصبحت السلطة رهن أيديهم وارادتهم، ودونما محاولة تفهّم الاسوة الحسنة الممثلة بقائد الدولة الاسلامية النبي محمد صلى الله عليه وآله.

يقول المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) في احدى كلماته القيّمة: إن (النبيّ صلى الله عليه وآله، مع غض النظر عن عصمته التي نعتقد نحن بواقعيتها، لن يمكن أن تنسب إليه صلى الله عليه وآله حتى حالة واحدة من الطغيان ولو قيد شعرة، وذلك لأنه كان كما وصفه القرآن الكريم: فبما رحمة من الله لنت لهم).

لماذا القمع والتسلط؟

هذا التساؤل يثيره المعنيون والمفكرون بالسياسة والثقافة والفن، بل يتداوله أغلب الناس، حتى البسطاء منهم، وهم غالبا يتساءلون: لماذا يتحول الثائر المعارض للسلطة، الى طاغية عندما يصل الى العرش؟ ولماذا ينسى المعارضون المعذبون المطارَدون ما فعل بهم طاغية الأمس، ثم كيف ينسون عذاب السجون والتشريد والملاحقة والتكميم والقهر الذي تعرضوا له، وبعد كل هذا عندما تصبح السلطة بأيديهم، يبدؤون جولة قمع جديدة ضد المعارضين لهم؟!.

أين تكمن الاسباب؟ هل العرب والمسلمين أمة تجهل التعامل مع الحرية، وهل الديمقراطية منهج حياة لا يتسق مع الشخصية العربية، وهل هناك جذور لا تزال عالقة في العقلية العربية تمنعها من التعامل السليم مع الفرص الثمينة التي تتاح لها، لبدء حياة سياسية معاصرة تليق بكرامة الانسان العربي؟؟. ثم هل هناك قسوة من طراز خاص في الشخصية العربية تدفعها الى القمع عندما تكون قادرة على فعل ذلك من موقع السلطة؟.

لاشك أن طبيعة الصحراء القاسية وسَمَتْ الشخصية العربية بشيء من القسوة، كما يرى البعض، ولكن ثمة في المقابل اسلوب اللّين الذي كان المرتكَز الاقوى لسياسة قائد الدولة الاسلامية محمد صلى الله عليه وآله، تُرى ما هو مصدر هذا الاسلوب المتحضّر الذي كان يراعي جميع الناس بمختلف اهواءهم وافكارهم ورغباتهم، ألم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابن الصحراء القاسية؟.

يقول سماحة المرجع الشيرازي: (إنّ لين النبيّ صلى الله عليه وآله في تعامله، سواء في أيام حكومته أو قبلها، هي من معاجزه الكبرى. والقرآن يقول: *لقد كان لكم في رسول الله اُسوة حسنة*. وهذا خطاب موجّه للبشرية كافّة وليس للمسلمين فقط، وبالأخصّ للحكّام).

إذن ثمة حاجة قصوى لاسلوب اللين، فلماذا يصرّ قادة (بعض الحركات الاسلامية) على استخدام العنف والاقصاء ضد مناوئيهم؟ ثم ماذا يتوقعون من نتائج سوى الفوضى التي عمَّت بلدانهم؟، والسؤال الأكثر حضورا هنا، ألم يدعوّا التمسك بسيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم؟ فأين هو تمسكهم، ولماذا تحولوا بين ليلة وضحاها الى طغاة يسعون الى تثبيت أنفسهم في السلطة وقمع الآخرين ورفض الافكار والآراء التي لا تلتقي مع أفكارهم ومعتقداتهم؟.

يقول احد الكتاب حول حاجة العرب لمنهج ديني مستنير ينسجم مع المرحلة الراهنة: (في خضم الأزمة المعقدة التي تمر بها الأقطار العربية بعد الربيع العربي، وإقحام السياسة على الدين، والتخوف من بوادر الانقسام الطائفي والمذهبي، بل الفئوي على خلفيات دينية، يصبح الفكر الديني المستنير مطلباً ملحاً، وضرورة قصوى، للخروج من أزمة تغذيها اسرائيل وقوى أخرى، وينميها الجهل وغياب الديموقراطية، وينشرها ضعف الأحزاب والقوى المدنية. لتعمل هذه الحالة على تفتيت الوحدة الداخلية للشعوب العربية).

لكن من الواضح أن مشكلة القمع والطغيان تظهر في الشخصية العربية، كلما أتيحت لها فرصة الجلوس على العرش وتسلم مقاليد السلطة، مع التحوّل الفوري من دور المقموع الى قامع، والثائر الى طاغية، والمعارض الى حاكم متغطرس، مع تفضيل الحكم على الاخلاق، الامر الذي يقود الحاكم ومعيته الى الاستبداد.

في هذا الجانب يقول سماحة المرجع الشيرازي: إن (تعامل النبيّ صلى الله عليه وآله يدلّ على العقل الكبير للنبيّ صلى الله عليه وآله. وهذه هي أخلاق النبيّ صلى الله عليه وآله، أي الأخلاق ثم الحكومة. وليس كما يقال: الحكومة ثم الأخلاق، أو الحكومة مطلقاً وبلا أخلاق. فنبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله جعل الأخلاق هي قيد الحكومة).

هكذا ينبغي ان تتقدم الاخلاق على الحكم، وأن يثبت الحاكم انه أهل للعفو كونه مصدر القوة دائما، وهنا يتساءل سماحة المرجع الشيرازي قائلا: (إنظروا إلى التاريخ وإلى دنيا اليوم، هل تجدون، ولو حاكماً واحداً، يتعرّض لمحاولة سوء ويقوم بالعفو عن صاحب المحاولة؟ أو لم يودعه السجن؟)، ويضيف سماحته قائلا: (إنّ هذا التعامل من النبيّ صلى الله عليه وآله ليس عيباً، بل بالقطع ان عدم العفو هو الأسوء والأعيب).

بوصلة الشورى متى تحضر؟

في ظل الفوضى التي تجتاح دول الربيع العربي، نتفق على غياب بوصلة التوجيه، التي تتضح بالخصوص في محاولات الحركات المسماة بالاسلامية في مصر وتونس وليبيا وسوريا وبلدان اخرى، والمستميتة لتكريس السلطة بأيديهم، وعلى مجافاتهم لمنهج التعاطف والتعاون واللين، وهي عناصر مهمة لإثبات منهجية متحررة تؤكد أن الحكم مع الشعب وليس بالضد منه كما يحدث الآن.

إذن هناك حاجة لإعادة بوصلة التوجيه للعمل وتحديد المسارات الصحيحة، إنها بوصلة الشورى والمنهج الديمقراطي الذي لا تُصادَر في ظله حريات الناس، وآراؤهم مهما اختلفت مع آراء الحزب الحاكم وحكومته.

يقول الامام الشيرازي، آية الله العظمى، محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيّم الموسوم بـ (الفقه: الشورى)، بهذا الخصوص: (كل شيء يرتبط بشؤون الأمـة لابـدّ مـن الاستشـارة فيه).

ومن المفارقات التي أفرزتها الوقائع، أن بعض الاسلاميين يتحدثون عن توحيد المسلمين، في الوقت الذي تعم بلدانهم فوضى لم تعشها من قبل، ولعل التناقض الحاد بين الاقوال والافعال، يكفي لبيان الاهداف الحقيقية التي يسعون لها، من اجل تكريس السلطة بأيديهم، لأن قضية (وحدة المسلمين) تبدو مجرد شعارا لا اكثر، في ظل الوقائع التي تدينهم ومن معهم، بعدم تطابق القول مع الفعل.

في هذا الصدد يتساءل سماحة المرجع الشيرازي: (أنا شخصياً ومنذ قرابة خمسين سنة أسمع بالوحدة الإسلامية وإلى يومنا هذا. ولكن لماذا لم تتحقّق ولم تتقدّم حتى خطوة واحدة؟).

من هنا على من يحاول أن يفرض القمع من جديد، أن يتذكر أوضاعه عندما كان مقموعا، وينبغي أن تُستثمر الفرصة المتاحة الآن لتوحيد المجتمعات العربية اكثر، وعدم تمزيقها لصالح أعدائها الذين يسعون الى تحقيق هذا الهدف، وليس هناك سوى الشورى بوصلة ومسارا للعرب، من اجل بناء الدولة الدستورية المدنية، القادرة على حماية حقوق وحريات الجميع دونما استثناء، لأن الناس بأشدّ الحاجة لتحقيق هذا الهدف. كما يؤكد الامام الشيرازي ذلك في قوله: (إنّ الاستشارية سواء في الحكومات الزمنية ـ مما تسمى بالديمقراطيةـ أو في الحكومة الإسلامية هي صمام الأمان).

* مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام

http://annabaa.org

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 13/شباط/2013 - 3/ربيع الثاني/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م