للغة دور عظيم في عملية البناء الثقافي
والاجتماعي ومن هنا فإن إطار اللغة المعينة المتداولة تكتسب طابعين
فردي واجتماعي فهي أداة التفاهم المثلى عند بني البشر الذي تكال لهم
هذه الميزة من بين بقية المخلوقات واختيار المرء من مفردات اللغة في
ظرف سياسي حالك مع مناوئه الأقوى قد يودي بحياته كما نقلت الأخبار ذلك.
واللغة تحتاج إلى إدارة ذاتية تجاه المحيط
الاجتماعي وهي تتغير من حيث النوع – كما يفترض ذلك بما ينسجم واستيعاب
الآخر فالكلام مع الأطفال هو غير الكلام مع الكبار والكلام مع النساء
ينبغي أن يصاحبه شيء من الأدب الجمّ أكثر كما أن الكلام مع الصديق هو
غير الكلام مع العدو – إن وجد – والكلام مع الزميل يختلف مع تداول
الغريب وهكذا فجذر (الميانة) يقف متصدراً لتعين نوع الكلمات المتبادلة
بين اثنين أو أكثر. وعلى هذا فإن درجة من العلمية يفضل توفرها عند كل
متحاور في مجال اختيار المفردات المناسبة تجاه الآخر.
والحالة النفسية لها دور أيضاً في معرفة مستوى
المتكلم أو المتكلم معه لهذا ينقل لنا التراث العربي والإسلامي مقولة
تفيد بـ(أن الإنسان لا يؤخذ عند الغضب) أي أن المرء حين يكون غاضباً
فتفلت من لسانه كلمات حادة أو باطلة لا ينبغي موآخذته عليها لأنها ليست
نابعة من سكينة ذاته. ومما يمكن الإشارة إليه في هذا المقام أن لتربية
الشخص العائلية والدراسية والمجتمعية أثر كبير في لطافة أو جلافة
أسلوبه إذ أن تحفة الحس عند المتكلم يحددها نوع كلماته المنطوقة أو
المكتوبة.
واللغة متى ما أستعملت مفرداتها بشيء من نثر ود
معانيها على الآخرين فستكون أحد مصادر المسرة في نفسه وكم يلاحظ الناس
حين يلتقون بأحبة لهم تؤدي كلمات التحايا فيما بينهم إلى زيادة الآصرة
الشخصية. ومع زيادة احتكاك العلائق بين الناس يفترض أن يكون المنطق
موضوعياً في كل التداولات الفردية والاجتماعية فبذاك فقط فإن الإنسان
يشعر بإنسانيته عبر شذرات كلامه صحيح أن هناك إقرار غير معلن عن (طبقية
اللغة) إذا جاز التعبير بذلك فطبقة المثقفين يتداولون كلام يختلف في
مواضيع عبر نوع مفرداته عما تتناقله عند أولئك الذين يتداولون (لغة
سوقية) بصفتهم يمثلون طبقة اجتماعية ما. وبعبارة دقيقة أكثر فإن لكل
وسط اجتماعي مفرداته أيضاً فالوسط الثقافي الديني يمتاز بتداول مفردات
إيجابية من حيث الحوار والاستقبال والتوديع ما تختلف عن مفردات الوسط
الثقافي العلماني وربما كان في ذلك كله تمهيداً لتوسيع فلسفة اللغة إلى
آفاق لم ينتبه إليها الأكاديميون اللغويون.
ومع أن كلام الذي يصفه شطر من مثل قديم على أنه
مشبه بـ(الفضة) حيث يقف نقيضه (السكوت) ليوصفه الناس بـ(الذهب) إذ قال
القدماء: (إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب) فلنرى أعلمية
الغربيين في تداول لغاتهم كيف تتم؟.
فقبل فترة وجيزة نشرت دراسة اجتماعية في جنيف
لها علاقة في التداول اللغوي السائد في سويسرا ومعلوم أن اللغات
الرسمية في هذا البلد هي الألمانية والفرنسية والإيطالية إلا أن
انعكاسات هذا التنوع اللغوي قد خلق حالة من عدم الانسجام من حيث تقييم
(اللطافة) لدى كل تجمع ناطق بأي من تلك اللغات إذ قالت الدراسة التي
أعدها معهد (Gfs) السويسري: (أن (73%) من السويسرين الألمان وجدوا
نظرائهم الفرنسين (لطفاء) و(19%) ليسوا تماماً، (5%) مزعجون.. ويتقلص
اعتبار (اللطف) مع انخفاض مستوى التعليم... وثلثا الناطقين بالفرنسية
تقريباً (63%) لديهم انطباع أن نظراءهم الناطقين بالألمانية لا
يعيرونهم أهمية، على النقيض من ذلك فإن غالبية الألمان (82%) يشعرون أن
الفرنسيين يحسبون لهم حساباً، ما يقرب من نصف السويسريين (44%) يعتقدون
أن وحدة البلاد مهددة لكن هذه النسبة أكثر ارتفاعاً عند الناطقين
بالفرنسية (45%) عن نظرائهم الألمان (43%) طبقاً للإحصاء فإن الأشخاص
ذوي التعليم والدخل الجيد لديهم مخاوف أكثر على وحدة البلاد. ما يقرب
من ثلث الناطقين بالفرنسية (29%) لن يأسفوا إذا ما أنفصل الجزء الغربي
من سويسرا الناطق بالفرنسية عن الجزء الشمالي والشرقي والوسط الناطق
بالألمانية. هذه النسبة لم تتجاوز (17%) عند السويسريين الناطقين
بالألمانية. في خلاصة دراسته يعزي المعهد Gfs سبب عدم الرضى بين
السويسريين الناطقين بالفرنسية إلى مشاعرهم (20%) من سكان سويسرا سيطر
عليها من قبل الأغلبية (65%).
وهكذا.. فإذا كان لكل إنسان ذخيرة عددية من
المفردات اللغوية الخاصة بجمله وعباراته فإن اختياراته الأنسب منها هي
التي تدل على دقة الشخصي وتبقى مسألة ما يرتأيه من التوفيق في اختيارات
ألفاظه مع الآخرين هي البوصلة التي تنير له الرؤى الأفضل في عالم يعيش
الناس فيه على مزاجات مختلفة. ولا يغيب عن البال أن اللغة بقدر ما يمكن
أن تكون أداة بناءة من أجل تحقيق التواصل الإنساني فإنها يمكن أن تكون
وسيلة هدامة للباطل، فبين (الود) و(اللاود) مساحة في اللغة ينبغي معرفة
كيف يكون إشغالها الصحيح نطقاً أو كتابة. |