الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

ردك على هذا الموضوع

في قضايا الفساد ومؤثراته المختلفة

مازن مرسول محمد

 مفهوم الفساد

لقد طرحت العديد من الاشتقاقات المهمة في تعريف الفساد، حيث عرفه البعض كلاً حسب اختصاصه وهناك من اتفق على تعريف محدد له، ومع ذلك سنطرح وجهات النظر المختلفة في إيضاح مفهوم الفساد.

يكاد مفهوم الفساد يرتبط في الأذهان بمفهوم الشر، ويعد من التعريفات الواضحة للفساد هو التعريف الذي يشير إليه بأنه إساءة استخدام السلطة لتحقيق كسب خاص (1).

في حين ينظر علم الاجتماع إلى الفساد بأنه (علاقة اجتماعية) تتمثل في انتهاك قواعد السلوك الاجتماعي في ما يتعلق بالمصلحة العامة (2).

وحقيقة أن ممارسة الفساد مرجعها إلى عدم استقامة ذاتية للشخص الذي يمارسه وبالتالي فهو انتهاك لقيمه وقيم المجتمع الذي يمارس ضده هذا السلوك.

أما أصحاب القانون والاتجاه القانوني فيعدون الفساد انحرافاً في الالتزام بالقواعد القانونية، وهناك إجماع على أن للفساد أثرا مدمراً على القانون وعلى القضاء عندما يطاله ويشمله بمؤثراته المهلكة (3).

وقد اختارت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد للعام 2003 ألا تعرف الفساد تعريفاً فلسفياً أو وصفياً، بل انصرفت إلى تعريفه من خلال الإشارة إلى الحالات التي يترجم فيها الفساد إلى ممارسات فعلية على أرض الواقع ومن ثم القيام بتجريم هذه الممارسات وهي الرشوة بجميع وجوهها وفي القطاعين العام والخاص والاختلاس بجميع وجوهه والمتاجرة بالنقود وإساءة استغلال الوظيفة وتبييض الأموال والثراء غير المشروع وغيرها من اوجه الفساد الأخرى (4).

إن الفساد يحدث عندما يقوم موظف بقبول رشوة أو ابتزاز لتسهيل عقد أو إجراء طرح لمناقصة عامة، كما يتم عندما يقوم وكلاء أو وسطاء لشركات أو أعمال خاصة بتقديم رشاوى للاستفادة من سياسات أو إجراءات عامة للتغلب على منافس وتحقيق أرباح خارج إطار القوانين المرعية، كما قد يحدث الفساد بأوجه أخرى كاللجوء في تعيين الأقارب إلى المحسوبية وكذلك سرقة أموال الدولة بطرق متعددة (5).

وصندوق النقد الدولي (imf) له مفهومه الخاص للفساد، حيث يراه بأنه (علاقة الأيدي الطويلة المتعمدة التي تهدف لاستنتاج الفوائد من هذا السلوك لشخص واحد أو لمجموعة ذات علاقة بالآخرين) (6).

 ويمكن التمييز بين حالتين من الفساد، الأولى تتم بقبض الرشوة عند تقديم الخدمة الاعتيادية المشروعة والمقررة، أما الحالة الثانية فتتمثل بقيام الموظف بتأمين خدمات غير شرعية وغير منصوص عليها ومخالفة للقانون مقابل تقاضي الرشوة، كإفشاء معلومات سرية أو إعطاء تراخيص غير مبررة أو القيام بتسهيلات ضريبية وإتمام صفقات غير شرعية وغيرها (7)، من التعاملات غير القانونية التي يحصل مقابلها المرتشي على مبالغ ومردودات مادية مقابل تسهيلاته التي يقدمها وتضر قواعد العمل التي من المفروض أن يكون ملتزماً بها.

إن الفساد جريمة مبنية على التفكير والحساب والتخطيط وليس على العاطفة، وعليه فهو من الجرائم التي تزيد التراكمات المادية غير الشرعية (8)، والمخالفة للقوانين والمؤثرة تأثيراً سلبياً في بنية المجتمع واقتصاده.

وعليه فالفساد عموماً هو عكس الاستقامة والنزاهة والإيجابية والبناء، وهو ممارسة وسلوك لتغليب المنفعة الشخصية على المنفعة العامة واستغلال المصلحة العامة لتحقيق المنافع الشخصية دون النظر إلى المنفعة العامة (9).

من جميع هذه الاشتقاقات يمكن الإشارة إلى الفساد بأنه سوء سلوك ذاتي ينعكس على الآخرين وما قد يجنيه الشخص من ذلك السلوك من تحقيق أرباح مادية طائلة، إلا أنها تكون على حساب المجتمع المحيط به وما قد يلحق ذلك من آثار سلبية في المجتمع، والتي تتجسد في ازدياد صور الانحراف وامتدادها عبر شبكات تتاجر وتقامر باقتصاد ومقومات البلد من خلال إضعافه داخلياً للانتقال إلى المتاجرة بمقدراته خارجياً، إضافة إلى غرس صفات الابتزاز والجشع والاحتيال والنصب، نتيجة لوجود نفوس ضعيفة تمارس الفساد بأوجهه أطره المختلفة.

وعليه فالفساد يمكن النظر إليه بمثابة الداء المعدي الذي يبدأ من الفرد أو بعض الأفراد ليعم ضرره على المجتمع كافة.

أنواع الفساد

يظهر الفساد من ناحية التصنيف على نوعين (10):

النوع الأول هو الفساد العادي (الصغير): ويتمثل هذا النوع بالرشاوى الصغيرة التي يتقاضاها الموظفون الصغار وبعض المسؤولين الحكوميين من ذوي الرواتب المحدودة نتيجة القيام بتسهيلات غير مشروعة.

أما النوع الثاني فهو الفساد الشامل (الكبير): والذي يتمثل بقيام بعض القادة السياسيين وكبار المسؤولين بتخصيص الأموال العامة للاستخدام الخاص وكذلك اختلاس الأموال وتلقي الرشاوى، وإبرام العقود والصفقات التي يكون رأسمالها من مقدرات الدولة مقابل تحويل أرصدة منافعها إلى جيوب هؤلاء المسؤولين والقادة.

إن التفرقة بين الفساد الصغير والفساد الكبير ليست تفرقة في الحجم، فالفساد الصغير يتعلق بإتمام إجراءات روتينية على وجه السرعة أو عدم إجرائها أصلا، مثل ما يقوم به بعض موظفي الهجرة والجمارك وغيرهم، بينما الفساد الشامل أو الكبير يتعلق بالتأثير على اتخاذ القرارات مثل قرارات إنشاء المشروعات الاقتصادية وترسية العطاءات والمناقصات وعقد الصفقات الكبيرة وفي مختلف المجالات (11).

كما يزداد الفساد الشامل عندما تنهار رقابة الحكومة المركزية، وأيضا عندما تنهار الدولة في مواجهة الأزمات وتحل محلها الجريمة المنظمة، كما هو الحال بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وأيضا يحدث الفساد الشامل عندما تنتقل الوظائف الفيدرالية إلى المحليات والبلديات (12).

ومهما كان الأمر من ناحية إعطاء أهمية للفساد الصغير أو الكبير، فكلاً منهما وعلى حدة ممكن أن يؤدي إلى انهيار كلي في مرتكزات الدولة وأسسها البنيوية، فقد يستشري الفساد الصغير إلى الدرجة التي لا يمكن السيطرة عليه، وقد يبقى كداء خفي وربما غير معروف لعدم وضوحه بشكل مباشر، إلا أن أثره فتاك من خلال التلاعب بالقواعد الشرعية والتي يجب انتهاجها والسير وفقها، أما الفساد الكبير فهو يقضي على المجتمع بأكمله لان جميع مقدرات المجتمع بيد من يتحكمون فيه من الذين امتهنوا الفساد لمصالح شخصية تؤدي إلى إفقار المجتمع وتعطيل قدراته وتعود به إلى التأخر والانحطاط.

في مسببات الفساد

هناك العديد من الأسباب التي تدفع إلى ممارسة هذا السلوك، وهذه الأسباب قد تكون خفية وأخرى ظاهرة، فالخفية قد تعود إلى الشخص نفسه وتتعلق بطبيعته وتكوينه وصفاته الخلقية، والظاهرة قد تعود إلى الظروف المجتمعية التي تدفع بالبعض إلى ممارسة الفساد.

فالفساد بات آفة سلوكية ترمي بظلالها على جميع المجتمعات دون استثناء ولكن بدرجات متفاوتة على اختلاف نظمها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حيث يظهر في كلا نصفي العالم الشمال والجنوب، وتتفاوت تلك المجتمعات في تحليل مفهوم الفساد وما هي أسباب ظهوره واستشرائه (13).

فقد تكون من الأسباب الدافعة للفساد هي وجود خلل في شخصية الممارس لسلوك الفساد وقصور في صفاته الأخلاقية، كأن تكون صفة الطمع لديه متأصلة على الرغم من تمتعه بمستوى مادي قد لا يدفعه إلى ممارسة هذا السلوك، إلا أنه يقدم عليه، أي انه مصاب بحب الاستغلال وجمع الأموال والابتزاز بأية طريقة.

وقد يكون السبب هو انخفاض أجور الموظفين الحكوميين، إذ أن ذلك قد يغري بالفساد من أجل زيادة رواتبهم (14)، وتحسين أحوالهم المعاشية فيحاولون تعويض ذلك بتقبل الرشاوى وتسهيل بعض التعاملات غير المشروعة، وعلى الرغم من الحاجة إلى تلك الأموال إلا أن البعض رغم حاجته لا يتسم بسلوك المفسد، وذلك يعود لدوافع أخلاقية في ذات الشخص.

وأيضا من أسباب الفساد العدد المتزايد من القرارات التي تتخذ في القطاع العام، واللامركزية الإدارية التي تزيد من مصادر اتخاذ القرار (15)، حيث أن عدم وضوح المركزية يؤدي إلى خلخلة التعامل مع ما يصدر من قرارات بشكلٍ صحيح، كما أن عدم تحديد الجهة الرئيسية في اتخاذ القرارات يؤدي إلى حالات فساد متعمدة لوجود تعدد في الجهات التي تصدر القرارات، إضافة إلى ذلك عدم وضوح النظام الضريبي وعدم كفاية شفافية القوانين والإجراءات الضريبية، وإعطاء صلاحيات كبيرة لمحصلي الضرائب مع غياب الرقابة، وكبر حجم بعض مشاريع القطاع العام وصرف مبالغ طائلة عليها والتي تغري بعض الموظفين الطامعين إلى جني أرباح طائلة، وأيضا عدم استقرار البيئة القانونية والتشريعية التي تحكم المؤسسات الحكومية، وعدم شفافية القوانين والتشريعات المرتبطة بالفساد، حيث تغيب هذه السمة لدى العديد من الدول وعلى الأخص في بلدان العالم الثالث؛ الأمر الذي يجعل من القوانين غير واضحة وقابلة للتفسير بصورة خاطئة، إضافة إلى عدم الإعلان المناسب عن أية تغييرات على هذه القوانين مما يفقدها فاعليتها وتصبح أداة فعالة لانتشار الفساد واستشرائه (16).

فتعثر نظام الدولة في ضبط الإجراءات القانونية التي تتعلق ببنية واقتصاد البلد، إضافة إلى ترك ثغرات كبيرة تشجع المستعدين لممارسة الفساد إلى الدخول فيها، من قبيل مثلاً قلة أجور الموظفين وعدم المركزية في القرار وغيرها من الثغرات الأخرى، جميعها تساعد على انتشار الفساد وغرس جذوره في المجتمع وممارسة دوره بإنهاك مؤسسات المجتمع المختلفة وتعطيل إمكانياتها.

إضافة إلى هذه الأسباب يمكن إدراج سبب آخر وجوهري في تركز الفساد وحتى في انتشاره، وهو ما لعبته الثورة الثقافية من خلال وسائلها الإتصالاتية السريعة والمتعددة، حيث أن هذه الثورة قد فتحت عقول الكثير من الأفراد من مواطني الدول الفقيرة على مستويات ووضعيات معيشة عالية، ومن هنا تبدأ المقارنة بين أوضاعهم وأوضاع الآخرين ومحاولة الوصول إليها برغم ضعف الإمكانيات، والتي قد تؤدي بالتالي إلى حالات فساد متعددة لغرض الوصول إلى مستويات الرفاهية عند الآخرين (17). وهذه مسألة خطيرة إذ أن جل سلبيات الثورة المعرفية المعلوماتية تتمثل بأنها خلقت حالة من الانبهار بأوضاع الآخرين ومحاولة الوصول إلى مستويات معيشتهم، وحتى وان كان ذلك بالطرق غير المشروعة، وعليه فممارسة البعض للفساد ربما يكون بدافع ما جاءت به هذه الثورة المعرفية، وذلك كفيل بالاستخدام غير المناسب لآليات هذه الثورة وكيفية التعامل معها، فإن ما سبق لا يعني أن جميع من تأثر بثورة المعلومات ربما قد انحرف إلى جادة الفساد لردم الهوة بين واقعهم والواقع الآخر عبر هذه الآليات، فذلك رهن بمستوى التعامل المنطقي معها، إضافة إلى ضرورة امتلاك الفرد المتعامل مع ثورة المعلومات لخاصية التحكم بها دون أن تتحكم هي به وتدفعه إلى الانحراف في الفساد.

في ما ينجم عن الفساد من مؤثرات

لعل مؤثرات الفساد التي تنخر في جسم المجتمع عديدة وسنحددها حسب تأثيرها في جوانب المجتمع المختلفة.

فمساوئ الفساد لا تقتصر على جانب معين وإنما تكاد تطال جميع جوانب المجتمع الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والسياسية (18).

فعلى الجانب الاجتماعي يكاد الفساد أن يشوه البنى الاجتماطبقية والنسيج الاجتماعي، لغرض أن تصعد النخب الأقلية ويجري دفع الأكثرية إلى القاع الاجتماعي، كما أن مواصلة إنتاج الفساد فهو انعكاس لسوء توزيع الثروة توزيعاً عادلاً وبقاء تطبيق القرارات أسير البرقرطة وبقاؤها في إدراج المكاتب (19).

إن اقتصاد الفساد يؤدي إلى توزيع الدخول بشكل غير متكافئ ومشروع، ويحدث تحولات سريعة ومفاجئة في التركيبة الاجتماعية؛ الأمر الذي يكرس التفاوت الاجتماعي واحتمالات زيادة التوتر وعدم الاستقرار السياسي (20). فتركز الموارد بأيدي ممارسي الفساد يؤدي إلى اختلال التوازن في المجتمع وصعود هذه الفئة مع انخفاض فئة الأكثرية الفقيرة إلى مستوى التدهور.

إن الفساد يزيد من الإفقار وتراجع العدالة الاجتماعية نتيجة تركز الثروات والسلطات وسوء توزيع الدخول والقروض والخدمات في المجتمع وانعدام ظاهرة التكافؤ الاجتماعي والاقتصادي وتدني المستوى المعيشي لطبقات كثيرة في المجتمع (21)، وما قد ينجم عن ذلك الإفقار من ملابسات كثيرة قد تؤدي بهذه الفئات المسحوقة إلى ارتكاب الرذائل وبالتالي تعطيل قوة فاعلة في المجتمع ممكن الاستفادة منها لو احسن التعامل معها.

ولعل اخطر ما ينتج عن داء الفساد هو ذلك الخلل الذي يصيب أخلاقيات العمل والقيم الاجتماعية؛ الأمر الذي يؤدي إلى شيوع حالة ذهنية تسبغ على الفرد ما يبرر الفساد والقيام به (22)، حيث يغير الفساد من سلوك الفرد الذي يمارسه، ويجره للتعامل مع الآخرين بدافع المادية والمصلحة الذاتية، دون مراعاةٍ لقيم المجتمع والتي تتطلب منه النظر للمصلحة العامة، إضافة إلى الإخلال بكل قواعد العمل وقيمه.

وإضافة إلى تأثير الفساد بقيم العمل، فقد يؤدي إلى إلغاء أو أضعاف مفعول الحوافز الموضوعية العادلة، حيث انه بطبيعته الديناميكية القاتلة يثبط عزيمة المنتجين والعاملين الجادين، ويجعل اغلب الإدارات متثاقلة واقل فعالية (23)، في منح الحوافز، نتيجة تغلغل الفساد فيها والذي يلغي معه الجدية في العمل.

إن إضرار الفساد بتوزيع الدخول وتهشيم النسيج الاجتماعي وخلق طبقة فقيرة جداً وطبقة غنية بالانتفاع من موارد الفقراء، بالتأكيد سيكون له دوره في زعزعة أسس بناءات المجتمع وتفكيكه.

أما مؤثرات الفساد في الجانب الاقتصادي، فيمكن القول أن اكثر ما يغرسه الفساد من سموم هو في الجانب الاقتصادي، لان المحصلة النهائية للفساد هي الحصول على الأرباح المادية، وما يمكن أن يلعبه الاقتصاد وبشكلٍ أساس من دورٍ فعال في حياة المجتمع واستقراره.

فالفساد يؤثر على أداء الاقتصاد الوطني ويضعف النمو الاقتصادي، حيث يؤثر في استقرار البيئة الاستثمارية ويؤدي إلى زيادة تكلفة المشاريع ويهدد نقل التكنولوجيا ويضعف الأثر الإيجابي لحوافز الاستثمار بالنسبة للمشاريع المحلية والأجنبية، وخاصةً عندما تطلب الرشاوى من أصحاب المشاريع لتسهيل قبول مشاريعهم، أو يطلب الموظفون المرتشون حصة من العائد الاستثماري (24).

إن المبلغ الذي يدفعه رجل الأعمال كرشوة للموظف لغرض الحصول على تسهيل معين، مثلاً الحصول على أذن باستيراد سلع معينة من الخارج أو الحصول على مناقصة أو عطاء أو المتاجرة بأشياء ذات ضريبة عالية، لن يتحمل ذلك المبلغ رجل الأعمال، وإنما يتم نقل عبئه إلى طرف ثالث قد يكون المستهلك أو الاقتصاد القومي ككل أو كليهما معاً، حيث يقوم رجل الأعمال برفع سعر السلعة التي استوردها من الخارج، أو رفع تكلفة المناقصة أو العطاء، لغرض تعويض ما دفعه من رشوة، والمستهلك الذي يشتري هذه السلع هو الذي يتحمل سعرها المرتفع دون غيره، أو قد تتحملها ميزانية الدولة إذا كانت الحكومة هي التي تشتري السلعة، إضافة إلى ذلك قد يؤدي استيراد هذه السلعة إلى زيادة الطلب على العملة الأجنبية؛ الأمر الذي يضعف من قوة العملة المحلية وينقص قيمتها، وذلك له مؤثراته على الاقتصاد القومي (25). فكثيراً ما نلاحظ أن ارتفاع أثمان السلع في السوق، قد لا يعود إلى ارتفاع تكلفتها الإنشائية، وإنما يعود إلى ملابسات من هذا النوع والمتمثلة بدفع رشاوى لنقل واستيراد هذه السلع والتعويض عن ما دفع عنها برفع أثمانها على المستهلك؛ الأمر الذي يؤدي إلى أحداث ضغط كبير على ميزانية ذوي الدخول المحدودة؛ مما يزيد من العوز وعدم المقدرة على مواجهة أمور الحياة.

كما أن الفساد يغير المعايير التي تحكم إبرام العقود، حيث أن التكلفة والجودة وموعد التسليم وغيرها من المعايير المشروعة هي التي تحكم إبرام العقود في الظروف الاعتيادية، ولكن في ظل الفساد يصبح المكسب الشخصي لكبار المسؤولين عاملاً هاماً في إبرام العقود، ويقلل من أهمية المعايير الأخرى كالتكلفة والجودة وموعد التسليم، وهذا يؤدي إلى اختيار موردين أو مقاولين اقل كفاءة وشراء سلع أقل جودة (26).

 ويؤدي الفساد إلى إضعاف جودة البنى التحتية والخدمات العامة، ويدفع بذوي النفوس الضعيفة إلى السعي إلى الربح غير المشروع عن طريق الرشاوى دون المشاركة في الأنشطة الإنتاجية، والحد من قدرة الدولة على زيادة الإيرادات والإفضاء إلى معدلات ضريبية متزايدة تجبى من عدد متناقص من دافعي الضرائب، وذلك بدوره يقلل من قدرة الدولة على توفير الخدمات الأساسية لأفراد المجتمع (27).

وفي الوقت ذاته قد يؤدي الفساد إلى تبديد الموارد القومية ويجعل مساهمتها في التنمية الاقتصادية للدولة هامشية، وتصبح القضية صعبة عندما توضع مقدرات الدولة الاقتصادية بيد مجموعة من المرتشين (28)، من الذين لا يعباؤن بالدولة والمجتمع ومصالحهما، فالمهم في القضية هو الإثراء الشخصي على حساب الآخرين حتى وان كان ذلك يهدد بنسف اقتصاد البلد بأكمله.

ومن مؤثرات الفساد أيضا في الجانب الاقتصادي، إنه يؤدي إلى رصد أموال طائلة وتحديد الميزانيات لمشاريع أو شراء سلع غير ضرورية أو غير ذات فائدة أو أنها قليلة الأهمية، وذلك ما يلاحظ من خلال إعطاء تسهيلات وقروض لمشاريع بناء مدن ترفيهية وسياحية وملاهي وملاعب الجولف في دول نامية تعاني الفقر وأزمة إسكان، أو شراء معدات عسكرية وإبرام الاتفاقيات العسكرية التي تفوق قدرة وحاجة البلد إليها (29)، وأيضا إنفاق الأموال على قضايا غير ذات أولوية في مجتمعات تعاني الفقر، مثلاً رصد المبالغ الكبيرة لإقامة المعسكرات الرياضية في الدول الأوربية، والتي تتطلب إيرادات كبيرة، في حين أن هناك مشاريع كثيرة في تلك الدول بحاجة إلى هذه الأموال والتي لو صرفت عليها لسدت الحاجة إليها بشكلٍ كبير وزاد عدد المنتفعين منها دون تبذيرها وهدرها في قضايا لا مبرر لها، إلا لاستفادةٍ خاصة من ورائها التي تذهب إلى جيوب القلة دون الأكثرية، إضافة إلى هدر الأموال الضخمة دون توظيفها لقطاعات مجتمع ما كالتعليم والصحة وغيرها، الذي قد يبقى فقيراً في دولٍ بحاجة إلى تطوير.

وفي الجانب القانوني فللفساد مؤثرات بالغة الأثر، تبدأ من أن الفساد في أحد أوجهه هو مخالفة للقانون ومخالفة للقواعد الشرعية القانونية التي تسير عليها أنظمة المجتمع.

فالفساد يؤدي إلى إفقاد القانون هيبته، لان المفسدين يملكون خاصية تعطيل القانون، وقتل القرارات التنظيمية في المهد، والمواطن عندما يتأكد له من أن القانون مهزوز في قراراته وفي سبات عميق، وان الجزاءات واللوائح لا تطبق ضد المخالفة والمخالفين لأنظمة وقواعد الدولة ؛ فالأمر يؤدي بذلك المواطن إلى فقدان ثقته بهيبة القانون في المجتمع وسلطانه، وتصبح مخالفته للقانون هي الأصل والتعدي عليه مباح، واحترام القانون هو الاستثناء وغير ذات أهمية (30). ومن ذلك نرى التجاوز الصريح على القانون وعدم احترامه، وكأن القوانين لا تمثل سطوة على الأفراد وغير فعالة، فيلجأ الأفراد إلى الانحرافات والجريمة، ومنها ممارسة الفساد وعدم الاكتراث لسلطة القانون.

ولما كان الفساد يضعف ثقة الأفراد في الحكومة ومؤسساتها وخاصةً عندما تكون للفساد مساحة واسعة في الدولة، فإن ذلك يمهد وبشكلٍ كبير لكل حالات الفوضى والانفلات (31)، والتعدي الواضح على حرمة القوانين.

إن من الأمور الخطرة التي يمكن أن تحطم المجتمع، هي تهشم الصلة بين الفرد والدولة، حيث من المعروف ان هناك علاقة تعاونية بين الفرد والدولة تتمثل بصيغة الحقوق والواجبات، فعندما يلاحظ الفرد استشراء الفساد في مؤسسات الدولة وحتى في أركانها، فقد لا يعير أهمية لما يصدر عنها من قرارات ولا ينظر لها نظرة احترام بل ويخالفها لعدم جدواها في محاربة الفساد، وربما تكون هي منغمسة فيه وممهدةً له، وتلك الوضعية ربما تشجع البعض على الانغماس في ممارسة الفساد ليقينٍ منهم بعدم جدوى القانون في معاقبة المخالفين، واطمئنانهم بعدم وقوعهم تحت طائلة القانون لضعفه وتهاونه في هذه المسألة.

وتبرز مؤثرات الفساد في البيئة بشكلٍ واضح من خلال قيام المسؤولين المفسدين في العديد من الدول النامية بتقاضي الرشاوى والعمولات مقابل تسهيلات يقدمونها للدول الصناعية، والقاضية بدفن النفايات الصناعية بكل ما تحمله من مواد سامة في أراضيهم، حيث توجد ضوابط أقل صرامة من ناحية شروط المعالجة والتعبئة والدفن وأقل تكلفة بالمقارنة مع الدول الصناعية نفسها، فتلجأ الدول الصناعية إلى اختيار المفسدين في الدول النامية لاستخدام أراضيهم لهذا الغرض (32).

إن من الملاحظ أن أكثر الدول النامية تعاني أمراضا كثيرة وفتاكة، منها ما هو ناجم عن إشعاعات ومواد سامة ساهمت بها إضافة إلى الحرب دفن هذه النفايات الصناعية بمؤثراتها المختلفة على بيئة البلد الذي تدفن فيه من ناحية الغازات السامة المنبعثة منها إلى الهواء وتسربها إلى ماء الشرب وغيرها من المؤثرات التي من الممكن إن تؤدي إلى كارثة بيئية في هذه البلدان.

إضافة إلى ذلك فإن أعمال الفساد في ثورة المعلومات تساهم أيضا في كوارث إنسانية وبيئية من خلال ما تقوم به من عدة اختراقات في نظم محطات نووية، والتي قد تؤدي إلى كوارث بيئية مدمرة (33). فالتقنية المعلوماتية الآن تتحكم بكل شيء وبمجرد كبسة أزرار معينة على هذه الآليات تتغير الكثير من الأمور ومنها القضايا التي تتعلق بالبيئة، كاستخدام المتفجرات بالتقنية الحديثة والسيطرة عن بعد، ونقل المواد السامة في رؤوس الصواريخ الحاملة لها وتفجيرها عن بعد، وجميع هذه بالتالي سيكون مردودها آثاراً سلبية للبيئة تلحق ضرراً في الاختلافات الولادية للإنسان واستفحال وتمركز الأمراض المعدية والفتاكة في البلدان المتضررة بيئياً وخاصةً تلك المبتلية بوجود مفسدين فيها يقومون بتسهيلات مقابل عمولات لاستغلال أراضيهم كمناطق طمر غير شرعية.

وعلى الرغم من كل هذه المؤثرات إلا انه يمكن القول أن مؤثراً واحداً إذا انفرد بالمجتمع وبناءاته ممكن أن يحطمه، فالمسألة باتت تتعلق بكل ما له صلة بالإنسان من ناحية ازدياد الإفقار المجتمعي وتركز الثروة بأيدي المفسدين واختلال في نظم المجتمع وفقدان الهيبة الحقيقية للدولة والحكومة، إضافة إلى مؤثرات كثيرة يساهم الفساد وبشكلٍ فعال في استفحالها في المجتمعات المريضة به.

 

في مساهمة الدول المتقدمة في تحفيز

 الفساد في الدول النامية

هل تساهم الدول المتقدمة فعلاً في تحفيز الفساد في الدول النامية؟

وإذا كان الأمر كذلك، هل تعد ما تقوم به بأنه فساد وتشارك فيه في الدول النامية؟

من المعروف أن رشوة المسؤولين داخل أنظمة كل دول العالم تعد جريمة يعاقب عليها القانون، إلا أن الدول المتقدمة لا تعد رشوة مسؤول أجنبي خارج الدولة جريمة، أصبحت هناك مقولة شائعة في الدول المتقدمة مفادها انه يجب عند التعامل مع الدول النامية أن نتبع طريقها في إتمام الصفقات، حيث أن الرشوة هي جزء من ثقافتها (34).

فالدول المتقدمة تعد الرشاوى التي تدفع لمسؤوليين خارج البلد بمثابة مصروفات تحددها الدولة لتسهيل أمورها خارج البلد ولا تعدها رشوة يعاقب عليها القانون، وتقوم بخصم هذه المصروفات من الضرائب التي تدفعها الشركات والأفراد للحكومة، وذلك يعني بصريح العبارة إن الدول المتقدمة هي التي تدعم الفساد وتغذيه في البلدان النامية، ومعنى ذلك أن الرشوة والفساد هما جزءاً من ثقافة وقوانين هذه الدول وليست جزءاً من ثقافة الدول النامية (35). فالبلدان النامية ومنها العربية لا تبرر الفساد خارج الدول بأنه عملية تسهيل أمور الدولة من خلال دفع عمولات لمسؤولين من الخارج ورصد الميزانيات الخاصة لذلك، فتلك مبادرة خارجية أقدمت الدول المتقدمة عليها.

أوجه الفساد العالمية والجريمة المنظمة

لا يقتصر الفساد على الأوجه الداخلية للبلدان، فهو يتجاوز حدود هذه الدول ويصبح عالمياً وله علاقة وثيقة بالجريمة المنظمة.

لقد عرفت الجريمة المنظمة على أنها ( الاتفاق مع شخص آخر أو اكثر على ارتكاب جريمة خطيرة، لغرض له صلة مباشرة أو غير مباشرة بالحصول على منفعة مالية أو منفعة مادية أخرى( (36).

إن الجريمة المنظمة عبر الحدود هي التي يقوم بها مجموعة من الأفراد الذين يرتبطون ببنيان منتظم، وتكون دوافعها الجشع وتتوسل العنف والرشوة للحصول على المال والنفع المادي وبأية طريقة غير مشروعة أخرى (37). فشبكات الجريمة المنظمة تمتلك قواعد داخلية وأطر عمل منتظمة، مع تحديد ما تنوي الحصول عليه، وتعقد الاتفاقيات والصفقات مع شبكات أخرى ومع العديد من الأنظمة الفاسدة في الدول.

وتعد الجريمة المنظمة دولية حسب تعريف اتفاقية الأمم المتحدة لها إذا ما توفرت فيها الشروط الآتية (38):

1-   أن يكون الفعل الجرمي قد وقع في أكثر من دولة.

2-   أو قد يكون الفعل الجرمي قد وقع في دولة معينة ولكن التخطيط لهذا الفعل ينظم ويحضر له في دولة أخرى.

3-   عندما يكون الفعل الجرمي قد وقع في دولة معينة لكن الفاعل أو الفاعلين مرتبطون بمنظمة إجرامية تعمل في اكثر من دولة.

4-   أو عندما يكون الفعل الجرمي قد وقع في دولة معينة لكن له آثار كبيرة في دولة أخرى.

إن الجريمة المنظمة التي تدخل في إطار الفساد قد ساعدت العولمة وآلياتها المختلفة في تطورها وانتشارها بشكلٍ كبير (39). فالعولمة لعبت دوراً كبيراً في سن وإعادة صياغة معنى الجريمة المنظمة من جديد، من خلال جعل العالم ساحة صغيرة تنتقل فيها الشبكات الإجرامية المنظمة بسهولة ويسر، وتقوم بكل جرائمها عبر آلياتها المختلفة.

ويتجلى الفساد العالمي المرتبط بالجريمة المنظمة بعدة صور منها:

التجارة بالإنسان: تمثل التجارة بالإنسان إحدى نشاطات شبكات الجريمة المنظمة، حيث أن جني الأرباح الطائلة من هذه التجارة وعدم وجود الردع الفعلي في إنزال العقوبات بهؤلاء المتاجرين، قد جذبت تلك الشبكات الإجرامية إلى القيام بهذه الأعمال الفاسدة (40).

إن هذه التجارة تتعامل بما يسمى (الرقيق الأبيض) من خلال بيع مجاميع كبيرة من النساء إلى جهات وشبكات أخرى تبيعها بمعرفتها لدولٍ أخرى بدافع الربح مقابل المتاجرة بأجسادهن بأعمال لا أخلاقية، إضافة إلى المتاجرة بالأطفال القاصرين في تجارة الجنس من خلال بيعهم وتقاضي الأموال غير المشروعة عنهم. إن اخطر ما يواجه البشرية هو البيع والشراء بأجساد البشر لأغراض لا تمت للحياء بصلةٍ، إلا أن وجود العديد من ممتهني الفساد من الذين لا يعبأون لكرامة الإنسان وحاجته، قد يؤدي إلى انتشار مثل تلك الأفعال الإجرامية. فالحاجة والفقر قد تدفع العديد من النساء والأطفال إلى بيع أجسادهم للمتاجرة الرخيصة بها، فيجد هؤلاء المفسدون فيهم ربحاً طائلاً وغير مشروع، فيقدمون على استغلاله وترويجه على مختلف الدول.

تجارة المخدرات: لقد باتت تجارة المخدرات عملية مربحة ولزيادة الثراء عند العديد من المفسدين، أو لسد العجز المالي في موازنات بعض الدول، وتتمثل التجارة بالمخدرات على المستوى الداخلي بالذين يزرعون المواد المخدرة، والذين يقومون بتسويقها على المستوى المحلي، أما على المستوى الدولي الخارجي فتشمل قيام منظمات وبعض مؤسسات الدولة بعملية المتاجرة بالمخدرات مع العديد من الشبكات الإجرامية المنظمة (41).

ولقد شهدت الكثير من دول العالم النامي نمو هذه التجارة بشكلٍ مروع، وما قد ينتج عنها من تكديس الأموال الطائلة في خزانات من يروج لهذه التجارة، مع ضعف واضح في معاقبة المخالفين سواء من قبل الدولة أو حتى من قبل المنظمات الدولية في العالم، إضافة إلى مؤثرات هذه التجارة على الدخل اليومي للفرد من خلال تعاطي المخدرات وكذلك انهيار منظومة القيم الاجتماعية للمجتمعات التي تعاني من مرض المخدرات.

تجارة السلاح: إن التجارة بالسلاح تمثل نشاطاً واسعاً من أنشطة شبكات الجريمة المنظمة، إذ أن نشوء الحروب والنزاعات محلية كانت أم دولية قد شجعت وبشكلٍ كبير على وجود أسواق كبيرة وضخمة للتجارة بالسلاح، من خلال عمليات البيع والشراء للأسلحة وبمختلف الأنواع، وتقوم شبكات الجريمة المنظمة بتشجيع بعض الجهات بإقامة الحروب والنزاعات من أجل زيادة الطلب على الأسلحة، إضافة إلى عقد الاتفاقيات بين بعض البلدان وتجار السلاح (42). إن اغلب النزاعات وبقاء الفوضى في بعض البلدان، تغذى وتشجع من قبل أطراف شبكات الجريمة المنظمة المتاجرة بالسلاح لغرض تصريف كميات كبيرة من السلاح، إضافة إلى قيام هذه الشبكات بتهريب الأسلحة دون علم بعض الحكومات إلى المتمردين في داخلها من أجل أحداث قلاقل في تلك الدول، إلا أن همها الأول هو تصريف بضاعتها من السلاح.

ويمكن أن تحصل التجارة بالسلاح بثلاثة أشكال (43):

الأول بين الحكومات الرسمية للدول، ولا يعد هذا الشكل من التجارة بالسلاح مخالفاً للقانون، والشكل الثاني من التجارة يتم فيه انتقال الأسلحة من بعض الحكومات الرسمية إلى ثوار أو متمردين على الحكم في دول أخرى، وهناك تحفظات كثيرة حول شرعية هذا الشكل، والشكل الثالث هو الذي تلعب فيه شبكات الجريمة المنظمة دوراً كبيراً من خلال ترويجه بين البائع والمستهلك، ولا يتمتع هذا الشكل بأية صفة قانونية وشرعية.

والملاحظ أن الكثير من الدول الآن تشجع قيام الاضطرابات والنزاعات في العديد من الدول، لأغراض سياسية غير معروفة، فتمول بعض المتمردين في دول أخرى بالسلاح لاستمرار اضطراب الوضع الداخلي لتلك الدول، إضافة إلى استعانة بعض الدول بشبكات الجريمة المنظمة لإيصال الأسلحة إلى جهات معينة ترغب في وصول السلاح إليها.

التجارة بالأموال القذرة: لقد انتشرت جريمة غسل الأموال القذرة أو تبييض الأموال بشكلٍ كبير وواسع بحيث أصبحت ظاهرة تؤخذ بالحسبان، لما لها من آثار سلبية كبيرة على اقتصاديات الدول، لذلك اهتمت الكثير من المنظمات الحكومية وغير الحكومية بهذه الجريمة وعدتها من أهم صور الجريمة المنظمة (44).

وغسيل الأموال هو نشاط إجرامي تعاوني تتلاقى فيه وتتحد الجهود الشريرة لخبراء المال والمصارف وخبراء التقنية– في حالات غسيل الأموال بالطرق الإلكترونية وجهود اقتصاديي الاستثمار المالي، إلى جانب جهود غير الخبراء من المجرمين، ولهذا تتطلب مثل هذه الجرائم دراية ومعرفة من قبل مرتكبيها وعملاً وتعاوناً يتجاوز الحدود الجغرافية؛ الأمر الذي جعل منها جريمة عابرة للحدود وجريمة منظمة ذات سمات عالية (45).

إن كل ذلك يؤدي إلى انتشار الجرائم وزيادة عدد المجرمين بسبب التحالفات التي تخلقها هذه العمليات بين العصابات الإجرامية في البلاد الذي تنتشر فيه عمليات تبييض المال الحرام (46)، حيث أن هذه الشبكات تحاول كلاً منها الظفر بالتعاقدات التي تقيمها مع مرتكبي عمليات غسيل الأموال، وتنشأ على أثر ذلك عدة شبكات إجرامية لهذا الغرض.

كما أن عمليات غسيل الأموال تتم في العادة خارج حدود البلد الذي أخذت منه، خشية انكشاف أمرها ومصادرتها في الداخل، وهو ما يؤدي في النهاية إلى إخراج الأموال الطائلة، ومن ثم حرمان البلد وأهله منها (47).

وأيضا تؤدي هذه العمليات إلى إثراء المجرمين وجعلهم أصحاب رؤوس أموال طائلة يسخرونها في العمليات الإجرامية وفي السلوك المنحرف الخارج على القانون (48).

 إن من يدفع ضريبة غسيل الأموال القذرة هو الفرد في البلد الذي تؤخذ منه هذه الأموال، والتي هي من الممكن أن تسد الكثير من الثغرات الموجودة في هذا البلد من ناحية تطوير المرافق الحياتية والاهتمام بدخول الأفراد وإنشاء مشاريع ذات أهمية ونفع للبلد. ونلاحظ أن هناك الكثير من البلدان التي تتمتع بثروات كبيرة، ألا أن ما يتمتع به الفرد في داخلها لا يكاد يسد رمق عيشه، فبالإضافة إلى عمليات نهب الثروات من هذه البلدان المختلفة، تساهم عمليات غسيل الأموال في استنزاف هذه الثروات الهائلة وتسخيرها لصالح جهات قامت بإخراجها على أنها أموال مشروعة، وذلك كفيل بزيادة واستشراء عدد المجرمين الذين ينعمون بأموال هي ملك للجميع وقد حصلوا عليها بهذه الطريقة غير المشروعة.

 انتشار عمليات الاحتيال والنصب والتزوير عن طريق آليات ثورة المعلومات: لقد ساعدت ثورة المعلومات وبشكلٍ مذهل وكبير على انتشار أشكال الفساد وبأوجهه المختلفة، حيث تتم عن طريق آليات المعلوماتية عمليات التزوير والتصرف ببطاقات الائتمان (قبل أن يعلم صاحب البطاقة أن بطاقته يتم استعمالها) (49)، اضافة إلى عمليات القرصنة والدخول على الملفات الشخصية، وعملية التلاعب بالأرصدة والحسابات الموجودة في البنوك العالمية من خلال عمليات التحويل المباشر عن طريق هذه الآليات، وعقد الصفقات الوهمية مع جهات أخرى عن طريق الاحتيال والنصب، وكذلك بيع الوثائق المزورة على شبكة الانترنيت والشهادات الجامعية والمتاجرة بالأعضاء البشرية وما إلى ذلك.

تصدير الإرهاب عبر شبكات الجريمة المنظمة: قد تقوم العديد من الدول وبالتعاون مع شبكات إجرامية بتصدير الإرهاب ونقله إلى أماكن معينة في العالم، من خلال دفع الإرهابيين والمرتزقة إلى القيام بأعمالٍ تخريبية وفوضوية في مناطق مختلفة من العالم، مقابل تعويضهم ودفع عمولات خاصة لهم، وتلعب الشبكات الإجرامية في ذلك دوراً كبيراً من خلال تنظيم المجموعات الإرهابية والتعاقد مع الجهة التي تشتري خدماتها مقابل دفع المبالغ المتفق عليها بينهم ؛ وبالتالي فذلك من شأنه أن يزيد العالم اضطراباً وعدم استقرار وجره إلى ويلات الحروب والنزاعات التي تبقى مستمرة ومؤثرة بشكلٍ كبير.

خطوات استراتيجية لمكافحة الفساد

إن قضية الفساد تحتاج إلى اكثر من جهدٍ واستراتيجيات عمل لتوضيح الخطوط الرئيسية التي من الممكن من خلالها السير في مكافحة الفساد، ورغم خطورة الفساد واستشرائه، مع صعوبة وضع خطوات محددة لمكافحته والتيقن بأنها ستقضي عليه، إلا أن المسألة لا تبدو مستحيلة، ولا يجب علينا إزاءه إلا وضع ما نجده فعالاً حقيقياً في مكافحته لو اتبع وبطريقة منطقية وعقلانية.

تبدأ جهود الدول في العادة لمكافحة الفساد، برفع الوعي بضرورة محاربة الفساد والقضاء عليه، ومن ثم إجراء تغييرات بجعل الحكومة اقل قابلية للفساد، ثم التصدي لمشكلة الأنظمة الفاسدة (50).

وتقوم مكافحة الفساد على طريقتين، الأولى على أساس العقاب والثانية على أساس الوقاية، وهناك تكامل بين الطرفين، ودرجت الدول النامية على تطبيق العقاب دون التطرق لأصول وجذور المشكلة (51).

ولمكافحة الفساد يجب إتباع ما يلي:

1-   معاقبة بعض كبار المخالفين، إذ أن من الاستراتيجيات الناجحة هو (قلي قليل من السمك الكبير)، فعندما تكون هناك مشاركة كبيرة في أعمال الفساد مع الإفلات من العقاب يكون الحل الوحيد هو إدانة ومعاقبة عدد من كبار الشخصيات الفاسدة، ويبقى للحكومة أن تكشف وبسرعة عن بعض المتهربين من الضرائب ومانحي الرشاوى الكبيرة ومتعاطي الرشوة على المستوى الداخلي والخارجي في الحكومة، وعليه فربما تكون أول سمكة يتم قليها تكون من الحزب الحاكم في السلطة (52).

2-   اختيار الموظفين من ذوي الكفاءات المهنية والاختصاص (53).

3-   وضع نظام عصري وعادل لتقييم أداء الموظفين (54).

4-   إصلاح الحوافز: حيث تكون معدلات الأجور في القطاع العام منخفضة في العديد من الدول، إلى الحد الذي لا يستطيع معه الموظف من إعالة أسرته دون العوز، اضافة إلى أن القطاع العام يفتقر إلى مقياس النجاح، فما يتقاضاه الموظف لا علاقة له بما ينتجه (55).

5-   ضرورة تطبيق أسس العقلانية الإدارية والتي من شأنها أن تلغي المحسوبية والرشوة وما إلى ذلك.

6-   تعزيز أجهزة مكافحة التهرب الضريبي والتهريب الجمركي بالكفاءات العالية والأجهزة، وهذا يتطلب وجود إدارة ضريبية على درجة عالية من الكفاءة (56).

7-   التعريف بعقوبات التهرب الضريبي والتهريب الجمركي بشكل واضح، باعتبار ذلك أحد وسائل الردع.

8-   التركيز على الفساد الموجود في القطاع الخاص، حيث درجت العادة بالاعتقاد بأن الفساد خلق في رحم القطاع العام وخرج إلى النور من مشاكله، إلا أن الفساد في القطاع الخاص ليس اقل حجماً وأثراً، لذلك يجب مكافحته (57).

9-   إقامة لجان نزاهة من كفاءات معروفة لمراقبة سير العمل الوظيفي في مؤسسات الدولة، ويشمل ذلك حتى المسؤولين الكبار في الدولة.

10- إشراك المواطنين في تشخيص الأنظمة الفاسدة، حيث يتمثل ذلك بإقامة الحملات الناجحة ضد الفساد ومشاركة المواطنين فيها، حيث انهم خير دليل للكشف عن مواقع الفساد وحدوثه (58).

11- يجب أن تتخذ الحكومات دوراً فعالاً في الحد من الفساد، وذلك من خلال إرساء دعائم الديمقراطية وزيادة مشاركة المواطنين في المساءلة العامة والرقابة لإجراءات وأعمال الحكومة، وذلك بدوره يؤدي إلى تلافي الفساد والوقاية منه (59).

12- اعتماد الشفافية في تعامل الشعب مع الحكومة والمنظمات والأحزاب، ليكونوا على علم تام بما تقوم به هذه الجماعات، وذلك لغرض إتاحة الفرصة للجماهير لمساءلة كل من يسيء لها وتعويدهم على الأسلوب الحضاري في المحاسبة ؛ مما يؤدي إلى اجتثاث الفساد (60).

13- تفعيل دور منظمات المجتمع المدني في المساهمة بالحد من الفساد وبأشكاله المختلفة.

14- تفعيل الجهاز الإعلامي لما له من اثر كبير في الكشف عن عمليات الفساد الصغيرة والكبيرة، ودوره في توجيه الجماهير نحو محاربة الفساد والتعريف بمؤثراته وما ينجم عنه من أضرار.

15- تعزيز الاتفاقيات الدولية التي من شأنها أن تكافح الفساد العالمي والجريمة المنظمة وتوفيق التشريع الوطني بما ينسجم معها (61).

16- ضرورة قيام تحالفات دولية بين بعض الدول والدول المجاورة لها لمراقبة الفساد عبر الحدود الدولية وضبطه.

17- إقامة المؤتمرات وإعداد البحوث والدراسات بشكل مكثف لتسليط الضوء وبشكل واسع على الفساد وآثاره المختلفة، لغرض تطويقه ووضع الآليات المناسبة للحد منه.

الخاتمة

إن الفساد بأوجهه المختلفة المحلية والعالمية هو آفة ما تلبث أن تفتك بالمجتمعات التي تنتشر فيها، وما ازدياد الأزمات والتقلبات في اقتصاديات الدول وازدياد الفقر والعوز، إلا وكان الفساد أحد أسبابها المباشرة، فالقضاء على الفساد الصغير غير مجدي مع بقاء الفساد الكبير، فالعملية تستوجب القضاء على كليهما، كما إن المسألة هي ليست المناداة بالقضاء على الفساد دون وضع الأسس العقلانية والممهدة فعلياً للقضاء عليه، فلا ننادي بضرورة القضاء على الفساد في الدولة دون وضع السبل الكفيلة في بادئ الأمر للوقاية منه، فبقاء الفساد وتوسعه معناه وقوع المجتمع في الفقر والتعرض للاضطرابات التي لا تنفك عنه إلا وتحيله حطاماً.


الهوامش:

1- مغاوري شلبي، الفساد مارد يهدد التنمية، مقال منشور على موقع إسلام أو لاين على الانترنيت:

www.islam-online.net

2-   داود خير الله، الفساد كظاهرة عالمية وآليات ضبطها، مجلة المستقبل العربي، السنة 27، العدد 309، بيروت، 2004 م، ص67.

3-   نفس المصدر السابق، ص67.

4-   عادل عبد اللطيف، الفساد كظاهرة عربية وآليات ضبطها: اطار لفهم الفساد في الوطن العربي ومعالجته، مجلة المستقبل العربي، السنة 27، العدد 309، بيروت، 2004م، ص95.

5-   محمود عبد الفضيل، مفهوم الفساد ومعاييره، مجلة المستقبل العربي، السنة 27، العدد 309، بيروت، 2004م، ص34-35.

6-   عماد صلاح، الفساد والإصلاح، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003م، ص32.

7-   د. نوزاد عبد الرحمن، الفساد والتنمية: التحدي والاستجابة، مجلة الإداري، السنة 23، العدد 86، 2001م، ص80.

8-   نفس المصدر السابق، ص80.

9-   سلام إبراهيم، الفساد والافساد في العراق: من يدفع الثمن، مقال منشور في جريدة المدى على الانترنيت:

 www.rezgar.com

10- د. نوزاد عبد الرحمن، مصدر سابق، ص81.

11- مغاوري شلبي، مصدر سابق.

12- د. نوزاد عبد الرحمن، مصدر سابق، ص81.

13- عماد صلاح، مصدر سابق، ص66.

14- د. نوزاد عبد الرحمن، مصدر سابق، ص83.

15- نفس المصدر السابق، ص83.

16- نفس المصدر السابق، ص83.

17- عماد صلاح، مصدر سابق، ص115.

18- داود خير الله، مصدر سابق، ص66.

19- سلام ابراهيم، مصدر سابق.

20- محمود عبد الفضيل، مصدر سابق، ص38.

21- د. نوزاد عبد الرحمن، مصدر سابق، ص86.

22- محمود عبد الفضيل، مصدر سابق، ص37.

23- د. نوزاد عبد الرحمن، مصدر سابق، ص85.

24- نفس المصدر السابق، ص84.

25- مغاوري شلبي، مصدر سابق.

26- نفس المصدر السابق.

27- د. نوزاد عبد الرحمن، مصدر سابق، ص85.

28- نفس المصدر السابق، ص85.

29- مغاوري شلبي، مصدر سابق.

30- محمود عبد الفضيل، مصدر سابق، ص37.

31- د. نوزاد عبد الرحمن، مصدر سابق، ص85.

32- نفس المصدر السابق، ص86.

33- عماد صلاح، مصدر سابق، ص123.

34- مغاوري شلبي، مصدر سابق.

35- نفس المصدر السابق.

36- الجريمة المنظمة والإرهاب نحو مقاربة شمولية، مداخلة معدة من قبل منظمة المؤتمر الاسلامي للمساهمة في اعمال المؤتمر الدولي لمكافحة الارهاب، الرياض، 2005، منشورة على الانترنيت:

www.oic-oci.org/arabic

37- داود خير الله، مصدر سابق، ص69.

38- نفس المصدر السابق، ص69.

39- نفس المصدر السابق، ص69.

40- نفس المصدر السابق، ص75.

41- نفس المصدر السابق، ص71.

42- نفس المصدر السابق، ص80.

43- نفس المصدر السابق، ص78.

44- عماد صلاح، مصدر سابق، ص 87.

45- يونس عرب، جرائم غسيل الأموال، دراسة منشورة على الانترنيت:

www.arablaw.org

46- د. عباس احمد الباز، غسل المال الحرام.... رؤية إسلامية، مقال منشور على موقع إسلام أون لاين على الانترنيت:

www.islamonline.net/arabic

47- نفس المصدر السابق.

48- نفس المصدر السابق.

49- عماد صلاح، مصدر سابق، ص117.

50- د. نوزاد عبد الرحمن، مصدر سابق، ص92.

51- د. صخر عبد الله الجنيدي، مكافحة الفساد الضريبي في الأردن، مقال منشور على الانترنيت:

www.arabtimes.com/mixed6/doc54.html-45k.

52- د. نوزاد عبد الرحمن، مصدر سابق، ص 93.

53- سوسن قاسم المياوي، خطوات على طريق معالجة الفساد الإداري، مقال منشور في صحيفة المدى على الانترنيت:

www.almadapaper.com

54- د. صخر عبد الله الجنيدي، مصدر سابق.

55- د. نوزاد عبد الرحمن، مصدر سابق، ص94.

56- د. صخر عبد الله الجنيدي، مصدر سابق.

57- زياد غصن، مكافحة الفساد في المؤسسات الخاصة، مقال منشور على موقع أخبار الشرق، على الانترنيت:

www. Thisissyria.net

58- د. نوزاد عبد الرحمن، مصدر سابق، ص93.

59- سالم بولص، دور الديمقراطية في مكافحة ظواهر الفساد، مقال منشور في جريدة الصباح على الانترنيت:

www.alsabaah.com/20040228/world-24k.

60- عبد الاخوة مسلم التميمي.

61- د. صخر عبد الله الجنيدي، مصدر سابق.

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا