|
||||
ردك على هذا الموضوع | ||||
ظاهرة الفساد في العراق ظاهرة الفساد ومتغيرات الواقع بعد الاحتلال |
||||
علي وتوت |
||||
ظاهرة الفساد ومتغيرات الواقع بعد الاحتلال: يكاد يتفق عليها غالبية العلماء المختصين بتاريخ العراق القديم في العصر الحاضر إن السومريين سكان العراق الأصليين، ذوو الرؤوس السـود، كما تصفهم الكتابات المسمارية القديمة استوطنوا السهل الرسوبي الخصيب من وسط العراق إلى جنوبـه في أزمان لا تُعرف بداياتها، فكانوا يعرفون بأصحاب حضارة العبيد في وسط وجنوب العراق، وقد كانوا أول من أنشأ دولةً، واخترع رموزاً مسمارية للكتابة، وسنّ قانوناً، وصاغ ملحمةً، وترنّم بقصيدةٍ على أنغام القيثارة الذهبية وكانت أراضيهم تمتد جنوباً إلى جزيرة دلمون(البحرين في العصر الحاضر) قبل أن ترتفع مناسيب الخليج العربي ليصل إلى حدوده الحالية([1]). فهل يمكن اختصار هذا البلد بالأمكنة القليلة التي تعهدتها قوات الاحتلال بالحماية؟ هذا البلد العظيم الذي يمتد عمقه التاريخي والحضاري آلاف السنوات(ما يقارب خمسة آلاف عام) لا يختصر بجرة قلم من دكتاتور نزق، أو من قوة محتلة. فقد مرت الجيوش الغازية على هذه الأرض لكنها لم تلبث أن اندمجت مع أبناء هذه الأرض. إن العراق ذي الإرث التاريخي العملاق، لا يتمثل فقط بوزارة النفط ومقر السفارتين الأمريكية والبريطانية، حتى توفر القوات الأمريكية المحتلة للعراق- بحجة إسقاط النظام الدكتاتوري والبحث عن أسلحة الدمار الشامل– الحماية لهذه الأمكنة الثلاثة فقط. إن العراق أكبر وأكثر عمقاً من النفط والمصالح. لكن قوات الاحتلال عمدت إلى السماح لعصابات المجرمين والسرّاق والقتلة المحترفين، ومن لهم مصلحة في تخريب هذا الوطن إلى ارتكاب أفظع عمليات النهب والتخريب والحرق المتعمد لمختلف وزارات ودوائر الدولة ومؤسساتها الثقافية والعلمية، ومتاحفها وذاكرتها السياسية والأدبية والعلمية وتاريخها العريق، في أكبر عملية نهب وتخريب منظم في العالم لبلدٍ بهذا الغنى والعمق الحضاري كالعراق. كل هذا جرى تحت سمع وبصر قوات الاحتلال، ولا يود الباحث هنا إيراد الأخبار التي تؤكد أن قوات الاحتلال حرضت في أحيانٍ كثيرة على هذه الأعمال(6·)(2). لقد أسهم احتلال العراق في تعزيز الفساد بشكل كبير، وذلك لأن سلطات الاحتلال لم تتردد كثيراً في خرق قوانين المجتمع في العراق. وقد أوجد هذا الخرق اختلالات عدة في النسق الكلي(المجتمع). وعلى الرغم من أن الاحتلال أدخل تعديلات كبيرة وكثيرة في النسق الكلي تصب في مصلحته، لكن هذه التعديلات شابها خلل في أنساق عدة، وقد تمثلت فيما يأتي: 1) خلل في النسق السياسي: وتمثل بالمظاهر الآتية:- · الاحتلال وسيطرته على مقاليد ما تبقى من الدولة: إن مقولات الفكر السياسي وتنظيرات مفكري المجتمعات المتحضرة، تؤكد أن الأمن والسيادة صنوان، فكلاً منهما هو شرط للآخر. لكن واقع الأمر في الدولة العراقية هو على خلاف ذلك، فالأمن والسيادة ضدان. ومن الجلي أن العراقيين اليوم يتنازعهما هاجسا الأمن والسيادة، باعتبارهما متعارضين حد القطيعة، فتجد أن العراقيين يختلفون في وجهات نظرهم حول هذين المفهومين اختلافاً حاداً، حتى أنك لتجد من هو مستعد للتضحية بالسيادة في سبيل الأمن، ومن هو مستعد للتضحية بالأمن في سبيل السيادة. إن هذا التضاد للمفهومين في الواقع العراقي يثير تساؤلاً على قدر كبير من الأهمية، فإما أن تكون مقولات الفكر النظري وتجارب المجتمعات المتحضرة التي أنتجت هذه التنظيرات غير عقلانية، أو أن هناك ما هو غير عقلاني في الواقع العراقي، إلى حد تبدو معه السيادة والأمن ضدين متنافرين ومتنافيين. وإذ نفترض أن التقسيم (الطائفي/القومي) الذي أظهرته سلطات الاحتلال ومنظروها للعيان، هو الشرط غير العقلاني الذي يقلب جميع الموازين المنطقية، فإن وجود قوات الاحتلال في العراق والسلطة التي تمارسها هذه القوات على العراقيين يرتبطان أوثق ارتباط بهذا الشرط غير العقلاني، وينتجان من ثم هذا التعارض غير العقلاني أيضاً، إذ تبدو قوات الاحتلال في العراق الضمانة الوحيدة للأمن من جهة، والقوة التي تنتقص من سيادة الدولة العراقية من جهة أخرى. · تعسف سلطات الاحتلال في استخدام صلاحياتها: إن الفساد في العراق الجديد صارت لـه بعد الاحتلال أسسه القانونية، حيث منع العراقيين من التصرف بأموالهم حسب قرار مجلس الأمن رقم (1483)، والذي تم بموجبه تأسيس (صندوق تنمية العراق). وهذا الصندوق يستحق أن يسمّى (صندوق سرقة العراق)، لأنه ومن مجموع ما يقارب من (20) مليار دولار تم تحويلها إلى هذا الصندوق، لم يتبق سوى حوالي (900) مليون دولار عند استلام الحكومة العراقية المؤقتة للحكم في يونيو الماضي. ولا احد حتى الساعة يعرف إلى أين ذهبت هذه الأموال. إذ يقال بان مليارات خصصت لمشاريع خدمية (كالكهرباء والماء، ولازالت مدن كاملة تعيش في ظلام شبه دائم!، ومياه الشرب الملوثة تحصد أرواح الأطفال !!. كما أن أحداً من ضحايا جرائم صدام حسين لم يحصل على تعويضات من الأموال التي خصصت لهذا الشأن !. ولم يحصل العراقيون على فرص العمل التي وعدت سلطات الاحتلال بتوفيرها، فلم توفر هذه السلطات سوى (15000) فرصة بحسب التقارير المستقلة، بينما فقد مئات الألوف عملهم !!). فهل تستحق دولة غنية كالعراق أن يعانى أطفالها من سوء التغذية الذي تتحدث عنه تقارير الأمم المتحدة؟ وهل مستنقعات مياه المجارى هي المكان الملائم لعيش الإنسان العراقي؟ وما الذي حققته سلطات الاحتلال بعد أكثر من سنتين من الاحتلال؟ · ضعف الدولة وعدم سيطرتها على مؤسساتها: يمكن القول إن القوة والسيادة صنوان، وإن القوة والغلبة والقهر لا تزال تحدد العلاقات الاجتماعية والسياسية، لا في بلادنا فحسب، بل في كثير من دول العالم أيضاً، ولا تزال تحدد العلاقات بين الدول على صعيد العالم. (والمعنى الوحيد المعترف به عندنا للقوة هو "قوة الشوكة والغلبة" أو قوة العصبية، بحسب ابن خلدون، أي القوة العسكرية وما في حكمها، بلغة عصرنا). من البديهي إذن أن من يملك القوة يملك السيادة، بالمعنى المرادف لوصف (اسبينوزا) في مقالته(السياسات ما قبل المدنية) بأن "لكل من الحق بقدر ما له من القوة"، ولا أظن أن هناك قاعدة أخرى تضارع هذه القاعدة في قوة نفوذها عندنا، وهي القاعدة التي كانت ولا تزال تجعل السياسة تمارس على أنها حرب. ويبدو واضحاً أن الأقوى في عراق اليوم هو سلطة الاحتلال وأتباعها وحلفاؤها. وهكذا فإنه مع تغير خطط سلطات الاحتلال تغير حال العراق. فقد تغيرت خطط سلطات الاحتلال منذ 9 أبريل(نيسان) 2003، من تحرير العراق إلى احتلاله، ومن البحث عن أسلحة الدمار الشامل إلى تحرير العراقيين وضمان حقوق الإنسان، ومن(جي كارنر) الذي ظل مشرفاً لسنوات على التجربة الكردستانية في شمال العراق، فكان عرابها ومنسق خطواتها، إلى السفير(بول بريمر) الذي تغيرت معه الخطة الأمريكية في العراق تماماً، فكان أن تحولت من جعل العراق أنموذجاً في الديمقراطية والتعددية والرفاه الاقتصادي، إلى جعل العراق ساحة للحرب العالمية ضد الإرهاب(3). ومن قبول بريمر على مضض بمجلس للحكم كان يضم(25) خمسةً وعشرين عضواً، في تجربةٍ مشوهة عن المشاركة في الحكم، إلى حكومة ٍ انتقالية – يذاع عنها أنها استلمت السيادة – كانت خلطة متنافرة من الأسماء والتوجهات ضمت عدداً كبيراً من البعثيين الذين لم يألوا جهداً في إعادة كم كبير من أقرانهم إلى هرم السلطة وإلى المراكز الإدارية الحساسة فاخترقت الحواجز الأمنية للدولة العراقية المثخنة بالجراح. وصولاً إلى الانتخابات البرلمانية التي كانت للمرجعية الشيعية- ممثلة بالسيد علي السيستاني – الدور الأكبر في نجاحها في المنطقتين الوسطى والجنوبية من العراق، فيما كان للزخم القومي والاضطهاد الذي واجهه الأكراد طوال عمر الدولة العراقية الحديثة أثره الفاعل في نجاحها في المنطقة الشمالية. بعد كل هذا التنوع في المؤسسة السياسية وفي ظل ظروف الاحتلال، يبدو مشروع صناعة دولة مؤسسات، يسيطر عليها القانون، وتعتمد النظام الديمقراطي بعيداً عن التحقق، على الأقل في السنوات القليلة القادمة. إذ تبدو الدولة العراقية في ظل الاحتلال الأمريكي ضعيفةً إلى حد الضياع، ومخترقةً من الناحية الأمنية، مما يجعل مظاهر الفساد تنتشر بشكل مرعب ما دام الحساب والعقاب بعيداً عمن يرتكبون الفساد. · فقدان الشفافية: إن للشفافية ولسيادة القانون أهمية حاسمة في محاربة الفساد وتقليصه، فمن دون الشفافية والمساءلة القانونية يطول عمر الفساد ويصبح أكثر انتشاراً. وعليه فإن تحقيق النجاح في محاربة الفساد وتقليصه يتطلب من الحكومة اعتماد إجراءات إدارية جديدة، في عرض وكشف المعلومات، ومعايير موضوعية لتقييم الأداء في المؤسسات التابعة للقطاع العام وتلك التابعة للقطاع الخاص. لقد حدث الكثير مما حدث داخل أروقة الحكومات العراقية التي تعاقبت بعد الاحتلال (على تعددها وتنوعها: مجلس الحكم، الحكومة الانتقالية، الحكومة الحالية) في غرف مغلقة، وكانت القرارات الناتجة غير معروفة لغالبية أفراد المجتمع. أما القرارات المهمة جداً مثل (قانون الاستثمار الأجنبي) و(ميزانية الأعوام 2004 و2005)، و(تسليم السلطة)، و(إضافة يوم السبت إلى العطلة الأسبوعية مع يوم الجمعة)، وغيرها من القرارات التي تمت بدون علم غالبية أفراد المجتمع، واكتشفت من قبل بعض المتابعين، إن طريقة عمل الحكومات المتتالية منذ الاحتلال تبدو غير صحيحة أصلاً. إذ يتم تجاهل الرأي الآخر، المخالف أو المؤيد لهذه الأمور المهمة التي تهم جميع أفراد المجتمع في العراق، وهذا يضيّع المفهوم الأساسي للقضاء على الفساد، وهو الشفافية في عرض جميع الأمور على الجماهير. فالفساد بكافة مظاهره لا تتسع دائرته ولا تشابك حلقاته إلا في بيئة من التعتيم والتجهيل السياسي والإعلامي. وإن محاولات محاربته وتقليص حجمه لا تتم إلاّ من خلال نشر المعلومات بشفافية عالية، وبوجود أنظمة ثابتة للمقاولات وتقديم العطاءات. أما العمل بالعقود التي وقعتهـا الإدارة الأمريكية مع الشركات الأمريكية العاملة في العراق مثل(هالبرتن) و(KBR) و(بكتل) فإنها مثال واضح للفساد المالي. وقد أثارت فضائح مالية كبيرة في الولايات المتحدة. كما إن إصدار قرارات غير مدروسة مثل(سلم رواتب الموظفين)، أو مجحفة جداً مثل(سلم رواتب المتقاعدين) و(حل وزارات الدفاع والداخلية والإعلام) واستمرار(ارتفاع نسب البطالة) هي مشاكل كبرى أدت إلى انتشار مثل هذا الكم الكبير من الفساد. · حل وزارات الدفاع والداخلية والإعلام ومنظمات حزب البعث: لا شك أن القرار المتسرع لحل هذه الوزارات والذي لم يتم وفقاً للأصول القانونية والإدارية، قد أوجد حيزاً لعمليات كبرى من الفساد المالي والإداري، ولازالت تبعات هذا الأمر ماثلة للعيان حتى هذه الساعة، وتثار القضية في كل حديث من أحاديث السياسـة. ونقول أنه لم يتم وفقاً للصيغ القانونية وذلك لأنه تم بدون مشورة لأحد من العراقيين فيه، بما فيه مجلس الحكم فهو قرار سلطة الاحتلال ممثلة بالسفير(بريمر) فحسب، هذا من جهة ومن الجهة الأخرى فإن القرار كان يجب أن يصدر مثلاً بعد أن يتم استدعاء منتسبي هذه الوزارات، وفي حالة عـدم حضورهم يصدر القرار. أما مخالفة القرار للصيغ الإدارية فقد كان لصدوره بدون أن يتم جرد ممتلكات هذه الوزارات والمنظمات، فتركت ممتلكاتها وأموالها عرضةً للنهب والسلب والسرقة كما هي حال كل مؤسسات الدولة في العراق. والذي يجب تأكيده هنـا هو أننا نتحدث عن أملاك أكبر وزارتين، وهما الداخلية والدفاع، مثلما أن منظمات حزب البعث كانت موجودة في أبعد ركن في العراق. · فقدان المساءلة القانونية وضعف النظام القضائي وعدم أدائه لواجباته: وعلى الرغم من أن مجلس الحكم كان قد قـرر تشكيل هيئة لمكافحة الفساد الإداري في الوزارات في بداية ديسـمبر 2003، مثلما أن الحاكم المدني الأمريكي للاحتلال طلب في 11/1/2004، أن يتم تعيين مفتش عام لمحاربة الفسـاد الإداري. إلا أن مساءلات قانونية مكثفة لم تجر لتقلص من انتشار الفسـاد، وكان معظم المختصين بهذا الشـأن يتوقعون أن تسارع سلطات الاحتلال بمعونة الحكومة العراقية في إجراء مثل هذه المساءلات، لكن هذا لم يحدث، وخاصة بعد أن ارتفعت حدة الملف الأمني. وإذا ما استمر الحال على ما هو عليه فإن أكبر فضيحة للفساد كما توقع تقرير منظمة الشفافية العالمية العام الحالي ستكون نتيجة طبيعية لكل هذا التهاون. أما النظام القضائي الذي ارتبط مثل حال كل السـلطات في العراق بالوضع الأمني المتدهور، فلم تجر محاكمات لرموز الفساد، لحجج كثيرة، وإذا كانت محاكمة الإرهابيين الذين قتلوا عشرات الأبرياء من أبناء المجتمع في العراق لم تحصل من قبل السلطة القضائية بسبب عوامل عدة أولها الخوف من انتقام عصابات الغدر، فعلينا أن لا نتوقع الكثير في مجال محاسبة ومساءلة الفساد والمفسدين(4). 2) خلل في النسق الاقتصادي: وتمثل بالمظاهر الآتية:- · تدهور هيكل الأجور والرواتب: إن النظام الجديد للرواتب والذي بدأ بتطبيقه قبل عام ونصف تقريباً يتضمن إيجابيات عديدة، وأهمها تحسـين المستوى المعيشي للموظف الذي عانى الأمرين في العشرين سـنة الماضية. لكنه وبنفس الوقت يخلق البذرة الأولى(للفساد الإداري)، وبالذات في سـلم الدرجات العالية. فقد وضع فارقاً مالياً كبيراً بين المدير العام، وبين رئيس مهندسين أقدم مثلاً، أو رئيس أطباء مختص يصل إلى أكثر من(مليون دينار/الشهر)، عدا الميزات الأخرى مثل السـيارة والإيفادات. وعادة ما يتم ذلك بغض النظر عن الخدمة الفعلية أو الكفاءة. إن مثل هذا الوضع سيدخل حتماً(الفساد) في الترفيع، وسـتكون هناك المحسوبية أو صلة القربى، أو التقرب الحزبي أو الطائفي هي الوسـيلة للوصول إلى أن يكون الشخص مدير عام، ومهما برر ذلك بالقابليات أو الذرائع الأخرى. قد يصعد فعلاً بعض الموظفين الأكفاء، ولكن هنا الأمر سيكون ضمن الخصوص وليس العموم، ويتم ذلك فقط لتبيان أن هناك عدالة في الدولة. إضافة لذلك سيحاول الأدنى(والذي يريد الانتفاع أو يعتقد هو الأقدر) أن يجد ألف مثليه في الأعلى ليحل محله، وأخذ إمتيازاته الكبيرة جداً. كذلك سيجد الكثير من الجادين في العمل أنفسهم في موضع الشعور بالغبن، والذي سيؤدي إلى انخفاض إنتاجيتهم ويولد روح المشاكسة فيهم. إن أي نظام للرواتب في الدولة العراقية يكون فيه الفرق بين الحد الأدنى والحد الأعلى(1) إلى(50)، كما هو الحال عليه في النظام السائد، هو نظام يخلق الفساد الإداري أصلاً. علماً هذا الفرق يزداد لو أدخلنا الوزير أو نائبه في سلم الدرجات. ومن يعتقد أن هذا الأمر وضع ليقلل(الرشوة) أو(الاختلاس) عند الجهات العليا فهو مخطئ، إذ المفروض أصلاً أن أهم مقومات الترفيع هو الأمانة. أما الشخص المنتفع والذي يصل إلى منصب مدير عام فإن الـ(1500-2000) دولار في الشهر كراتب سوف لن تشفي غليله. · تدهور النظام المصرفي وتخلفه: كما إن النظام المصرفي العراقي غير قادر على أن يقوم بدوره خصوصاً في وضع تحتل فيه نسبة العملة المتداولة إلى إجمالي عرض النقد أهمية كبيرة، أي إن الأهمية النسبية للعملة المتداولة خارج الجهاز المصرفي هي اكبر من الأهمية النسبية لمبالغ الودائع من إجمالي عرض النقد، وذلك على عكس حال البلدان المتقدمة بحكم رسوخ نظمها المصرفية واستقرارها وتطور أسواقها المالية والنقدية وسائر الأجهزة المصرفية. هذا فضلاً عن أن كسب ثقة الناس في التعامل المصرفي، وإشاعة ثقافتها بينهم سوف يواجه صعوبة كبيرة بسبب إحساس الكثير منهم بعدم الثقة. · تدهور النظم الإدارية في معظم مؤسسات الدولة: على الرغم من إن مشكلة الفساد الإداري في العراق تأخذ أشكالاً متعددة. لكن يصعب تقديم إحصاءات تبين حجم المشكلة ودرجة خطورتها بسبب أنها تحدث في ظروف خفية عن أنظار المعنيين بها من مسؤولين عن الحكم والإدارة والأمن والضبط الاجتماعي. غير أن الشعور العام السائد بانتشار مظاهر المشكلة يدفع رجال السياسة والإداريين إلى الاهتمام بها وجعلها تأخذ موقع اهتمامهم إلى درجة أنها أصبحت عنواناً يتصدر برامج عملهم السياسية وخططهم الإدارية والتنظيمية، الأمر الذي يكشف عن حجم المشكلة وأهميتها. إن الفساد الإداري في العراق يبدأ بالتعيين وبتطوير الموظف وصعوده في السلم الوظيفي إلى قيادة الدائرة الحكومية. طبعاً المقصود عدا الوزير فالمفروض أن يكون منصبه سياسي وهذا أمر له وضعه الخاص في النظم الديمقراطية. · تدهور نظم الرقابة: إن وجود نظام قضائي عادل مستقل، مع وجود بنود واضحة في القوانين النافذة هو أحد الأمور الأساسية في الحد من هذه الظواهر. إضافة لذلك وللظروف الحالية يجب إبقاء عقوبة الإعدام، وتطبيقها مع غيرها من المواد الصارمة في حالات الفساد، وذلك حسب ما موجود في قانون العقوبات، ولاسيما ما يتعلق من هذا الفساد بقوت الناس أو أمن وسيادة الوطن، وخيانة الأمانة وسرقة الدولة على نطاق واسع. يجب أن نؤكد هنا أيضاً أن وجود صحافة حرة وضمن قانونها الواضح، وتنظيمات سياسية ونقابية فعالة عامل مهم آخر في الحد منها. والأهم من هذا هو وجود معارضة نشطة وضمن كيان الدولة العام، وليس خارجها، وذلك من خلال المجالس النيابية المختلفة. · صناعة سريعة لطبقة جديدة من أصحاب رؤوس الأموال: لا ينكر أن القطاع الخاص في العراق عانى من وطأة سيطرة الدولة ممثلةً بالنظام الدكتاتوري السابق عليه. ويمكن أن يكون هذا الأمر هو مبرر انتشار الفساد بين جنباته قبل الاحتلال. ولا شك أن الفساد في القطاع الخاص قد شهد تطوراً كبيراً منذ الاحتلال، إذ تخلص من سيطرة الدولة عليه، كما أنه انخرط في مشاريع إعادة إعمار العراق التي رفعت من كفاءته وأكسبته خبرةً ضرورية. لكن ذلك كله لا يبرر الانتشار الجنوني لمظاهر الفساد في القطاع الخاص بعد الاحتلال. فقد ارتفعت نسب الفساد و تركزت بخاصة في قطاعي المقاولات والبناء. ويبدو أن محاولات سلطات الاحتلال في خلق طبقة جديدة(موالية) من أصحاب رؤوس الأموال، معظمها من المقاولين والمترجمين، قد أسهم في انتشار الفساد في هذا القطاع كما هي عليه في الوقت الحاضر. فاللافت للنظر في هذه الطبقة هو أن معظم أفرادها وصلوا إلى ما وصلوا إليه بارتكاب مظاهر مختلفة للفساد. 3) خلل في النسق السوسيوثقافي: وتمثل بالمظاهر الآتية:- من الواضح أن الاحتلال خطط ونفذ ونجح في وضع مجتمع العراق في حلقات مفرغة ومتداخلة من المشاكل التي لها أول وليس لها آخر، فقائمة المشاكل في زمن الاحتلال لا تنتهي. ومع أن مشاكل الاحتلال لا حصر لها، إلا أن من الإنصاف القول أن بعضاً من الأفراد ساعد بشكل مباشر أو غير مباشر بتغذية هذه المشاكل، وذلك من خلال تحقيق مكاسب شخصية بغض النظر عن الأضرار التي تلحق بالمجتمع. لكننا يجب أن نتوقف أمام مظاهر عدم احترام المال العام والنظر إلى الوطن باعتباره مالاً سائباً، وليس باعتباره هو البيت. فنحن لا نشهد أي حرص على المال العام، ويتساوى في هذا الموظف في القطاع العام أو في القطاع الخاص، المثقف ورجل الشارع، المتعلم والأمي، الغني والفقير، الـ ...الخ. وفي هذه التصرفات لا نشاهد الإحساس بالوطن كـ(بيت)، والإنكليز يدعونه بيتاً(home). أما في العراق فلا زال الأفراد يسبون صداماً ونظامه لأنه قضى على الروح الوطنية والإحساس بها لدى الأفراد، لكن قلة من العراقيين هي من يحاول بناء مثل هذا الحس من جديد، فيما يعمل الآخرون على السير وفقاً لرؤى النظام السابق. وهكذا عندما تضيع الحدود الفاصلة بين(المال العام) و(المال الخاص)، يتم الخلط المتعمد بين(المصلحة العامة) و(المصلحة الخاصة)، تنهار كل الضوابط التي تحمي مسيرة المجتمع من الفساد، وتتآكل كل القيم التي تعلي من شأن الصالح العام. ولعل أخطر ما ينتج عن ممارسات الفساد والإفساد هو ذلك الخلل الجسيم الذي يصيب أخلاقيات العمل وقيم المجتمع، مما يؤدي إلى شيوع حالة ذهنية لدى الأفراد تبرر الفساد وتجد لـه من الذرائع ما يبرر استمراره، ويساعد في اتساع نطاق مفعوله في الحياة اليومية. إذ نلاحظ أن(الرشوة) و(العمولة) و(السمسرة) أخذت تشكل تدريجياً مقومات نظام الحوافز الجديد في المعاملات اليومية، والذي لا يجاريه نظام آخر. وعندما تتفاقم(مضاعفات الفساد) مع مرور الزمن، وتصبح(الدخول الخفية) الناجمة عن الفساد والإفساد هي الدخول الأساسية التي تفوق أحياناً في قيمتها(الدخول الاسمية)، مما يجعل الفرد يفقد الثقة في قيمة(عمله الأصلي) وجدواه، وبالتالي يتقبل فكرة نفسياً فكرة التفريط التدريجي في معايير أداء الواجب الوظيفي والمهني والرقابي(5). [1]([1]) حسين محمد عجيل: رحلة في التاريخ الطويل، جنيف، الإنساني(دورية) تصدر عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر، العدد (25)، 2003، ص 16. (2) كما حدث ذلك مع السفارة الألمانية(التي تقع في محلة الكرادة خارج) والمركز الثقافي الفرنسي(الذي يقع في شارع أبي نواس) في بغداد، فالأفراد الذين وصلوا إلى المكانين كانوا يخشون قوات الاحتلال. لكن أفراد هذه الأخيرة أصدروا من الإشارات ما يفيد بالسماح للأفراد باقتحام المكانين ونهبهما. (ملاحظة للباحث). (3) يراجع بهذا الشأن خطابات الرئيس الأمريكي بوش، ووزراءه في الخارجية والدفاع منذ الإمساك بمقاليد الأمور في العراق منذ نهاية شهر يونيو 2003 تقريباً. (4) يراجع بهذا الشأن تصريح وزير العدل في حكومة السيد أياد علاوي، الدكتور مالك دوهان الحسن في السادس من شهر فبراير 2005 لصحيفة الصباح وفي مقابلة مع القناة الفضائية العراقية. (5) محمود عبد الفضيل: المصدر السابق، ص 37. |
||||
|