|
||||
ردك على هذا الموضوع | ||||
ملف الفساد تفكيك ظاهرة الفساد |
||||
د. ناصر عبيد ناصر |
||||
- 1- دور الحكم الجيد في تفكيك ظاهرة الفساد يتعذر فض ظاهرة الفساد ووضعه تحت السيطرة على الصعيد المحلي من دون تفكيكه على الصعيد الإقليمي والدولي، ويمكن للبرلمانيين أن يلعبوا دوراً مهماً في مكافحة الفساد والسيطرة عليه، على الرغم مما تسبب فيه النظام الدولي المعولم من تهميش المؤسسات النيابية. وأداء دورها في خلق بيئة ديمقراطية نظيفة، تفسح المجال لمزيد من المشاركة الشعبية في صنع القرارات الاقتصادية والسياسية. والمساهمة في تفعيل دور الدولة في حياة المجتمع والحد من استطالتها الأفقية. فضلاً عن مساهمتها في تحقيق التوازن بين الدولة من جهة ومؤسسات المجتمع المدني من جهة أخرى. ومجابهة المؤثرات السلبية للعولمة والحد من مؤثراتها على القرار الوطني المستقل. إن بإمكان الحكم الجيد السيطرة على الفساد واجتثاثه من جذوره، من خلال تحسين نوعية الحكم الذي يُعد بحق المدخل الرئيس لقيام مؤسسات حاكمة وقادرة على مواجهة الفساد على الصعيدين المحلي والعالمي. والبرلمان بوصفه مؤسسة ديمقراطية، فإنه يحقق التواصل بين الدولة والمجتمع، من خلال النهوض بمهامه التشريعية والرقابية والتمثيلية، وبما يُسهم في ترسيخ أركان الحكم الجيد، والمتمثلة في المحاسبة والشفافية، ولا تستقيم المحاسبة إلا في حال التوازن السليم بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وبين مختلف مستويات الحكم، وفي حال اختلال هذه التوازنات سرعان ما تتزعزع أركان الحكم الجيد. كذلك تلعب الشفافية دوراً مهماً في ترسيخ الحكم الجيد، فهي تتيح تدفق المعلومات وتفتح الباب على مصراعيه للحوار البناء بين المواطنين ومؤسساتهم المدنية، والشفافية شرط لا غنى عنه في تطبيق المحاسبة (كون المعرفة بحد ذاتها تعني القوة) المقترنة بالمشاركة الشعبية في رسم سياسات الدولة. والمشاركة بمعناها الواسع تعني إشراك المواطنين في الحكم، بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والمذهبية والأثنية. والمشاركة بقدر ما هي حق للمواطن فإنها ترتب عليه مسؤولية المشاركة في صنع القرارات الاقتصادية والسياسة التي تتعلق بصياغة حاضر البلاد ومستقبلها. وإذا كان هذا هو حال الحكم الجيد فكيف لنا أن نميزه عن الحكم غير الجيد؟ إن الحكم غير الجيد هو الحكم غير المتوازن من حيث: 1- طغيان السلطة واحتواؤها المجتمع المدني، بل تحكم السلطة التنفيذية بالسلطتين التشريعية والقضائية، والسيطرة المطلقة للسلطة المركزية على السلطات المحلية. 2- إقصاء المواطنين عن المشاركة في صنع حاضرهم ومستقبلهم، ففي ظل غياب الشفافية، فإن السلطة التنفيذية تتحكم بالمعلومات وتتصرف بها كما تشاء لإحكام سيطرتها على المجتمع. 3- إن الحكم غير المتوازن يحول دون تمكين السلطة التشريعية من الاضطلاع بمهامها، وتهميشها، ويتحول أعضاء البرلمان إلى مجرد وسيط لتأدية الخدمات لناخبيهم، مما يهيئ المناخ لانتشار ظاهرة الفساد. 4- تتحول السلطة في ظل الحكم غير الجيد إلى مجرد شكل، فاقدة استقلاليتها، وفي إطاره يتم احتواء السلطة القضائية التي لا تقوى على فرض هيبة القانون وسطوته، فيتحول القضاة إلى مجرد موظفين، والمحاكم إلى دوائر تقع تحت سطوة السلطة التنفيذية، بل يصبح القضاة عرضة للنهب وتلقي الرشاوى. فتهتز ثقة المواطنين بالقضاء، وتعم أجواء اللا شرعية، الأمر الذي يمهد الطريق لتفشي ظاهرة الفساد الذي يتهدد كيان المجتمع ويدمره على المدى الطويل. 5- إن المركزية المفرطة تُجسد طغيان السلطة التنفيذية وتحكمها بالسلطتين التشريعية والقضائية، ناهيك عن تحكمها بالسلطات المحلية وتكبيل حركتها، بل تهمش دور القضاء في مكافحة الفساد على المستوى المحلي. 6- تتوجه الأحزاب والحركات السياسية في ظل الحكم غير الجيد للحصول على الامتيازات والمنافع والغنائم، بدلاً من التنافس فيما بينها على تنفيذ برامجها الانتخابية، وغالباً ما يحصل في مرحلة الانتخابات صولات وجولات، تتوج في المحصلة باقتسام الثروة والسلطة. 7- يترافق الحكم غير الجيد بإطلاق يد الأجهزة الرقابية من قبل السلطة التنفيذية، فتتحول مع مرور الزمن إلى محاكم تفتيش، تعيق حركة المجتمع وتطوره، بل تتسبب في رفع فاتورة الرشوة. 8- تغييب مؤسسات المجتمع المدني وتهميشها في ظل الحكم غير الجيد، وعندها تختفي الأصوات التي تطالب بمحاسبة الحكومة، وتتحول بمرور الزمن مؤسسات المجتمع المدني إلى توابع للحكومة، وقد تتحالف معها، وهذا هو حال المؤسسات الإعلامية التي تتحول إلى أبواق لتبرير أخطاء السلطة والإشادة بإنجازاتها حتى وإن كانت ضئيلة. دور البرلمانات في تعزيز الحكم الجيد: إن البرلمانات بوصفها مؤسسات للحكم الجيد يمكن لها أن تلعب دوراً مهماً في اتخاذ إجراءات عملية للنهوض بالمجتمع وإنقاذه من براثن الفساد وذلك من خلال: 1- إجراء تعديلات دستورية، تُسهم في تقوية مؤسسات الحكم الجيد وتعزيز دورها في حياة المجتمع، عبر إنهاء التشابكات بين السلطات الثلاث وتحقيق التوازنات المطلوبة بينها، مع ضمان استقلالية القضاء ونزاهته، وبما لا يؤدي إلى إضعاف السلطة التنفيذية وتهميش وظائفها، إذ إن الدولة بحاجة إلى حكومة قوية قادرة على إنجاز الأهداف المعلقة على الإصلاحات الاقتصادية والسياسية. وحتى يستقيم الحكم الجيد يفترض أن تكون المحاسبة صارمة والعقوبة زاجرة من جانب السلطة التشريعية للسلطة التنفيذية، مما يحول دون طغيان صلاحيات أي من السلطات الثلاث على المصلحة العليا للمجتمع. 2- تفعيل دور البرلمان في إعداد الموازنة العامة للدولة وإقرارها، وهذا يقتضي من اللجنة الدائمة في البرلمان التي تُعنى بشؤون الموازنة أن تتشاور مع شرائح وفئات وطبقات المجتمع كافة في مرحلة إعداد الموازنة، ثم تراقب تنفيذها بعد ذلك، علماً بأن إنضاج الموازنة وإشباعها نقاشاً، يفترض ضرورة وجود برلمانيين من ذوي الاختصاص والكفاءة التي تُمكنهم من معرفة مبادئ الموازنة العامة للدولة وإشكالاتها، ويفترض تقوية اللجان الدائمة بوصفها أداة مساءلة ومحاسبة لإرساء أسس الحكم الجيد. 3- تبني ميثاق شرف برلماني، يتم تطبيقه، بعيداً عن النزعات الحزبية، التي غالباً ما توظف الاتهامات بالفساد لخدمة أغراضها السياسية الضيقة، ويندرج في ميثاق الشرف البرلماني تمويل الحملات الانتخابية والحيلولة دون انتهاك السقوف المالية المخصصة لتنظيمها، وأن يضرب البرلمانيون القدوة الحسنة والمثل الأعلى في النزاهة والمصداقية والكفاءة في تحمل المسؤولية بما في ذلك تعميق ثقافة مكافحة الفساد، وترسيخ مرتكزات الحكم الجيد، ويتضمن ميثاق الشرف البرلماني ما يأتي: - لا يجوز أن يتدخل عضو البرلمان في تمكين شركة أو مؤسسة أو منظمة من الحصول على عقد أو تعهد حكومي، إذا كانت له مصلحة مباشرة أو غير مباشرة معها. - لا يجوز لعضو البرلمان أن يمنح وثيقة أو شهادة ليست مؤسسة على الحقائق. - لا يجوز لعضو البرلمان أن يؤجر أو يُحقق ربحاً من مسكن حكومي مخصص له. - لا يجوز لعضو البرلمان أن يمارس تأثيراً غير مقبول على الجهاز الحكومي عندما يكون للعضو مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في الموضوع. - يُمنع على عضو البرلمان أن يتقاضى من أي شخص أو منظمة تعويضاً بأي شكل من الأشكال، عن أي عمل يقترحه أو يرغب في عمله لذلك الشخص أو لتلك المنظمة. - لا ينبغي لعضو البرلمان اتخاذ الإجراءات نيابةً عن الأفراد بدائرته الانتخابية دون التأكد من الحقائق أولاً. - لا ينبغي لعضو البرلمان أن يكتب خطابات توصية أو يتوسط لدى المسؤولين الحكوميين حول وظائف وأعمال لأقربائه. 4- تكتسب العلاقة بين البرلمان ومؤسسات المجتمع المدني خصوصية، تزداد رسوخاً باعتماد لغة الحوار عبر عقد الندوات البرلمانية مع مؤسسات المجتمع المدني، فضلاً عن إعداد الدراسات اللازمة لتوصيل الخدمات للمواطنين بأيسر وأسهل السبل. 5- التواصل بين البرلمانات بإحداث شبكة اتصالات مع البرلمانات العربية والأجنبية. فالعلاقات البينية مع البرلمانات، تُسهم في تبادل الخبرة والمشورة، لاسيما في مجال التصدي لظاهرة الفساد وتفكيكها، عبر توسيع قاعدة المعلومات. وهكذا بوصف البرلمانات مؤسسات ديمقراطية، تحقق التواصل بين الدولة والمجتمع عبر القيام بدورها في إصدار التشريعات، التي تعزز من مصداقية الحكم الجيد، المتمثلة بالشفافية والعلانية والمساءلة والمحاسبة، وقد لا تتمكن البرلمانات أحياناً من أداء مهامها، جراء طغيان السلطة التنفيذية وتحكمها المستبد بالمجتمع، وحتى لا يتم تهميش دور البرلمانات تحت ضغوط المؤثرات السلبية للعولمة يُفترض التعاطي معها على قاعدة الإفادة من إيجابياتها إن وجدت والتصدي لسلبياتها. وتعزيز دور البرلمانات في حياة المجتمع، يستوجب بالضرورة الاتفاق على ميثاق شرف برلماني، يُسهم في تعزيز علاقة البرلمانات بمؤسسات المجتمع المدني. -2- دور البرلمانات في مكافحة الفساد تتصدى لمكافحة الفساد لجان وهيئات وطنية، أحدثت لهذا الغرض على الصعيد الوطني وعلى الصعيد الدولي، وأُبرمت اتفاقات لإحداث منظمات دولية تعنى بمكافحة الفساد على غرار (اتفاقية مكافحة ارتشاء المسؤولين الحكوميين الأجانب في المعاملات التجارية الدولية) وحتى تتسم السيطرة على الفساد، يُفترض أن يتسلح المواطنون بالمعرفة التي تؤهلهم لكشف ممارسات الحكومة الظاهرة والمخفية. ومحاربة الفساد عملية معقدة، وإن الجهود التي تبذل بهذا الصدد قد لا تحقق النجاحات المرجوة، ولا يمكن التصدي لظاهرة الفساد بحلول انفرادية وأحادية الجانب، بل تتطلب منظومة متكاملة من الإجراءات على الصعيدين الوطني والدولي، بما يحصن مؤسسات الحكم الجيد من تداعيات الفساد. وقد تقدم (البنك الدولي) بوصفة للسيطرة على الفساد ومحاصرته، من خلال ثلاث روافع هي: الرافعة الأولى: تشخيص ظاهرة الفساد وأسبابها وعواقبها. حيث تقف وراء تفشي ظاهرة الفساد مجموعة من الأسباب وفي مقدمتها: 1- ضعف مؤسسات المجتمع المدني. 2- تهميش دور المؤسسات الرقابية، وقد تكون تعاني من الفساد هي نفسها. 3- تهميش السلطتين التشريعية والقضائية. 4- وجود الدولة البيروقراطية وغياب الدولة الديمقراطية. 5- حصول فراغ في السلطة السياسية ناتج عن الصراع من أجل السيطرة على مؤسسات الدولة. 6- غياب مؤسسات المجتمع المدني أو تهميش دورها في حياة البلاد. 7- تحكم السلطة التنفيذية بالحياة السياسية والاقتصادية للبلاد. 8- غياب المنافسة السياسية الفعالة وانعدام الحريات الحزبية. 9- توفر البيئة التاريخية والاجتماعية والسياسية التي تنتج الفساد. الرافعة الثانية: إدخال إصلاحات على أنظمة الدولة، من النواحي التشريعية والإدارية والاقتصادية، وذلك للتقليل من فرص حدوث الفساد، وذلك من خلال تحسين نظام الحكم الجيد وترسيخ مؤسساته. الرافعة الثالثة: إشراك المجتمع المدني، والمنظمات غير الحكومية، ووسائل الإعلام وذلك من أجل تنظيم حملات تعميم ثقافة مكافحة الفساد، وتحديد الآليات اللازمة للسيطرة على الفساد ومكافحته. ووصفة (البنك الدولي) لمكافحة الفساد، ترى أن البيئة المنشئة للفساد تكمن في إشكالية النظام، وتشدد على ضرورة تفكيكه وتغيير بنيته، وليس تعقب الأفراد الفاسدين وتوجيه اللوم لهم. وبدون بناء القدرة المؤسساتية، يتعذر مكافحة الفساد، والنيات الحسنة لا تسهم في جلب النتائج الطيبة، وقد تتسبب ربما في فساد أكثر. ويفترض بالجهات التي تتولى مكافحة الفساد أن تُجري تقويما موضوعيا لمسببات الفساد ومصادره، ومن ثم تبني سياسات اقتصادية تُرفد بعوامل اجتماعية وثقافية، من أجل الحد من ظاهرة الفساد، لا سيما رصد الحوافز المادية والمعنوية، وزيادة فاعلية الحكم الجيد وشفافيته، وتمكين الأجهزة الرقابية من أداء مهامها. إن استراتيجيات مكافحة الفساد تتباين تبعاً للبيئة السياسية والاقتصادية التي أنتجت الفساد، وانطلاقاً من هذا المنظور أقدمت (منظمة الشفافية الدولية) بإعداد نموذج إصلاحي، تم التركيز فيه على أركان النزاهة وهي: (الإرادة السياسية– الإصلاح المؤسساتي– إشراك المجتمع المدني– إصلاحات إدارية– تفعيل المؤسسات الرقابية– السلطة التشريعية– السلطة القضائية– وسائل الإعلام– المجتمع المدني– القطاعين العام والخاص. وهذه الأركان تُشكل مجتمعة مكونات النزاهة وتمثل جزءاً لا يتجزء من الإصلاحات الاقتصادية والإدارية، ومن دونها يتعذر وضع استراتيجية لمكافحة الفساد، وهي تكمل بعضها بعضاً، وغياب أحدها أو إهماله يؤثر على الركن الآخر ويضعفه، وإذا اختفت أو ضعفت بعض هذه الأركان، فإن النظام يُصبح عرضة للانهيار مما ينعكس سلباً على التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة. إن مفتاح مكافحة الفساد يتمثل بالإرادة السياسية، والتي تعني فيما تعنيه (البيئة السياسية التطبيقية والرغبة الصادقة) لدى المسؤولين في مواجهة الفساد ومكافحته، باستئصال أسبابه ومسبباته وتصفية الآثار المترتبة عليه، مع الإشارة بأن دوائر الفساد تتكامل وتتقاطع مع بعضها بعضاً لتفشل وتحبط بدورها الإرادة السياسية ذاتها. وحيثما يكون الفساد متأصلاً في المجتمع ومزمناً، دل ذلك على ضعف الإرادة السياسية، والعكس الصحيح، إذا كان الفساد هامشياً ولا يتجاوز حقل الارتكابات الفردية البسيطة، دل ذلك على أن الإرادة السياسية القوية متوافرة، ومؤمنة بضرورات التمسك بالحكم الجيد، الذي يُؤمن رفعة الوطن وخير المواطن، وإيمان المسؤولين بالعمل كحاجة حيوية أولى، لمواجهة كل ما يُعكر صفو المجتمع وينتهك الحقوق والواجبات. أما الإرادة السياسية الضعيفة التي تتعايش مع الفساد، ولا تمتلك المبادرات لمكافحته فإنها حتى وإن أعلنت عن إصلاحات، فإنها تبقى من قبيل العبث، ويصبح من ثم وجود المصلحين من المسؤولين بلا معنى، حتى وإن توفرت لديهم الجدية والرغبة الصادقة في الإصلاح، وبدون الإرادة السياسية، فإن مواجهة الفساد ستقتصر على الشكل ليس إلا، ويبقى دور المصلحين مقتصراً على المناشدات والنداءات والتمنيات التي لا تغني ولا تُسمن من جوع، ولهذا يفترض أن تتعزز الإرادة السياسية، بالشفافية والمحاسبة، وإلا ستُستغل جهود المصلحين ومناصريهم ستاراً للاستمرار في إساءة استخدام السلطة، وعندها سيتهرب الناس بمحاولات الإصلاح والتصدي للفساد، ويستخفون ويهزأون بكل من ينادي بالإصلاح ويفكر في تطبيق القانون. والإرادة السياسية لا تعني بحال من الأحوال الوعود المعسولة والعهود المنقوضة والطموحات غير الواقعية، وإن التطرف والإكثار منها، يؤدي إلى إحباط جماهيري، وانفضاض الناس عن النظام وخيبة أملهم في الإصلاحات. وحتى لا يصاب المجتمع بخيبة الأمل واليأس في استحالة مكافحة الفساد، يُفترض تهيئة المناخ، وتنظيم حملات إعلامية مكثفة لتعميم ثقافة مكافحة الفساد في أوساط المجتمع، من خلال إشراك الجماهير عبر منظماتهم الشعبية ونقاباتهم المهنية ومؤسساتهم المدنية في حملة مكافحة الفساد. ومكافحة الفساد لا تستقيم بدون أن تقترن بإصلاحات سياسية، وفي مقدمتها إلغاء تعسف السلطة، وتبني قانون انتخابات شفافا وفعالا، ونظاما قضائيا مستقلا، ومجتمعا مدنيا قويا، وتطبيق نظام محاسبي صارم وعادل في آن واحد، وهذا يُعزز من المساندة الشعبية والالتفاف الجماهيري حول الإصلاحات، فالانفتاح السياسي يوفر الفرص كافة لتعزيز الحكم الجيد، الذي يفترض أن يحشد الموالين والمعارضين خلف برنامج الإصلاح الذي يستهدف استئصال الفساد برمته، وبدون إصلاحات مؤسساتية فإن مكافحة الفساد تُعد ضرباً من المستحيل، وأن التصدي للفساد يقتضي ضرورة الإقدام على إصلاحات إدارية جذرية وذات مغزى، تستهدف تفكيك البيروقراطية التي تمثل البيئة الخصبة لتوليد الفساد، والإصلاح الإداري يُفترض أن يتجه نحو إصدار تشريعات وقوانين صارمة لقطع الطريق على كل اجتهاد أو تأويل يرمي إلى الالتفاف عليها وخرقها لصالح مرتكبي الفساد، من جانب الموظفين البيروقراطيين، كذلك فإن الإصلاح الإداري مطالب بالحد من صلاحيات وتعسف وتسلط كبار الموظفين، تلك الصلاحيات التي لا تطالها المحاسبة، وفي الوقت الذي يرى فيه بعض المختصين بأن المركزية المفرطة في الإدارة تشكل بيئة خصبة لانتشار الفساد، فإن اللامركزية في الإدارة هي الأخرى لا تشكل ضمانة لانحسار الفساد، بل بالعكس فإن تقليص المركزية يمكن أن يفتح الباب على مصراعيه لاتساع نطاق الفساد، وعليه فإن أي إصلاح إداري يجب أن يتجه لإنجاز ثلاثة أهداف في آن واحد وهي: 1- إحداث مركز قوي يُعنى بصناعة القرارات الاقتصادية والسياسية وتنسيقها. 2- تشكيل منظومة متكاملة من الخدمات الحكومية وإيصالها إلى مستحقيها بكفاءة ونزاهة. 3- إعداد الكوادر وتأهيلها، وتمكينها من أداء مهامها على قاعدة التخصص والنزاهة والكفاءة. وحتى تحقق هذه المهام والأهداف المعلقة عليها يُستحسن أن تتزامن الإصلاحات الإدارية بإصلاح القطاع العام، من خلال إعداد موازنات حقيقية وتشديد المحاسبة والرقابة على الأداء، والتصدي للمحسوبية والمحاباة في تطبيق القوانين. وحتى ينجح الإصلاح الإداري ويحقق النتائج المعلقة عليه، لا بد من إعادة النظر في منظومة الأجور والرواتب والمكافآت، وأن يُعامل الموظفين الأكفاء والأمناء على المصلحة العامة معاملة متميزة، ومع الإقرار بأنه ليس من السهولة بمكان إنجاز مثل هذه الإصلاحات كونها قد تكون فوق طاقة الدولة، لأن مكافحة الفساد مكلفة الثمن من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، ولكن بالمقابل أيضاً استمرار الفساد هو الآخر يرتب على المجتمع تكاليف مالية باهظة الثمن. فأي إصلاح لا يستهدف إصلاح الإدارة المدنية سيكون الفشل نتيجته، واستئصال الفساد يتطلب الإقدام على إصلاح السلطة التشريعية والقضائية، إذ إن الحكم الجيد يشترط سيادة القانون، ولا يتسنى ذلك إذا كان المسؤولون في القضاء فاسدين، وحتى يتحرر الجهاز القضائي من الفساد يُفترض أن يكون مستقلاً عن نفوذ السلطتين التشريعية والتنفيذية، وأن تُقلع الدولة عن أسلوب تعيين القضاة، وتعتمد أسلوب الاختيار والانتقاء على قاعدتي النزاهة والكفاءة، ومنحهم رواتب مجزية تُحصنهم من الوقوع في الخطأ والخطيئة، وتمكنهم من أداء واجباتهم بطريقة مستقيمة، وعلى التوازي يُفترض تطوير وتحديث جهاز الأمن الداخلي ومراقبة تصرفاته وضبط سلوكياته للحد من تورط بعض العاملين في الأمن في فضائح الفساد، ويُفترض أيضاً أن يتحرر الجهاز القضائي من سطوة السلطة التنفيذية وفي غير ذلك يتحول إلى أداة لممارسة الفساد. ويُعد إصلاح السلطة التشريعية واستصدار قوانين رادعة للفساد، المدخل للحد من ميل الأفراد لارتكاب الفساد، ولهذا تعتمد معظم الدول القوانين العرفية، بالإضافة إلى القضاء العادي من أجل الحيلولة دون اتساع رقعة الفساد، وتتبنى استراتيجيات رادعة للفساد، وتسعى إلى تغليظ قانون العقوبات، ولكن مهما كانت القوانين صارمة فإن من المتعذر السيطرة على الفساد بدون جهاز قضائي قوي ومتماسك وقادر ومرن في آن واحد، وهذا يتطلب ما يأتي: 1- تشكيل لجان متخصصة بمكافحة الفساد، مستقلة عن الحكومة، وتتمتع بصلاحيات واسعة تؤهلها لمحاسبة الفاسدين والتحقيق معهم وإحالتهم إلى القضاء العادل، وأن تتبع هذه اللجان مباشرة لرئيس الوزراء أو لرئيس السلطة التشريعية، وهذا الأسلوب اعتمدته كل من: سنغافورة وأوغندا اللتين حققتا نجاحات غير مسبوقة على طريق مكافحة الفساد. 2- إحداث صناديق للشكاوى في الجهات الرسمية والميادين العامة لتلقي شكاوى المواطنين التي تحال إلى لجان المحققين الذين يخولون بصلاحية إحالة مرتكبي الفساد إلى النيابة العامة أو الشرطة. 3- تشكيل لجان رقابة ومحاسبة على مستوى الوحدات الإدارية، تتولى مهام الرصد المستمر للممارسات غير المشروعة، بهدف استئصال الفساد من جذوره. 4- نشر مخبرين سريين على مستوى الدولة، للإبلاغ عن مرتكبي الفساد، وحتى ينجزوا هذه المهمة يفترض منحهم مكافآت مجزية. ومن أجل استئصال الفساد من جذوره، لا بد من توفير الموارد المالية لتمويل نفقات مكافحته، وقد لا تتحقق النتائج المرجوة، في حال عدم توفر البيئة الاقتصادية والسياسية والمناخ الديمقراطي الذي يؤهل الدولة لمكافحة الفساد، وقد تكون النتائج عكسية وتتجه إلى غير ما يخطط لها صانع القرار، فتستفحل مشكلة الفساد وتستعصي على الحل. إذ قد يؤدي تغليظ العقوبة إلى رفع فاتورة الرشوة وإلى سوء استخدام السلطة وإلى القمع غير المبرر للسلطة بدعوى مكافحة الفساد. ولضبط آلية الاستخدام التعسفي للسلطة، يتوجب إشراك مؤسسات المجتمع المدني وتمكينها من الحصول على المعلومات التي تكشف الممارسات غير المسؤولة للسلطة، وبدون الدعم الجماهيري، وإشراكه في حملات التوعية ضد الفساد يتعذر إماطة اللثام عن ارتكابات المسؤولين الفاسدة ومكافحتهم، فعلى سبيل المثال لا الحصر تسعى (منظمة الشفافية الدولية) بفروعها السبعين المنتشرة في العديد من الدول إلى تعقب ظاهرة الفساد والحد منها محلياً وإقليمياً ودولياً، وتعمل على حشد جهود الجمعيات الأهلية والمؤسسات الحكومية للتحكم بالفساد والسيطرة عليه وذلك من خلال: 1- نشر التقارير المتعلقة بالفساد وفضح الجهات التي تمارسه سراً أو علانية. 2- رصد مكافآت مجزية لأفضل مقالة أو كاريكاتير يُعنى بسبل كشف الفساد وفضحه. 3- تزويد (السلطة الرابعة) بالمعلومات المتعلقة بظاهرة الفساد وتأهيل الصحفيين وإعدادهم لتعقب مرتكبي الفساد والكشف عن ممارساتهم الخاطئة. 4- إعداد دراسات ميدانية عن الفساد على مستوى الصحة والتربية والتعليم، والقضاء والشرطة. 5- عقد ندوات لمناقشة ظاهرة الفساد وسبل مواجهته على مستوى الجمعيات الأهلية، والمؤسسة البرلمانية، ووسائل الإعلام. 6- وضع خطط طويلة المدى لتأسيس لجان شعبية من ذوي الاهتمامات بالشأن العام لخلق إرادة سياسية قامعة للفساد. 7- تأسيس منابر حرة تتولى كشف ما هو مستور ومعلن من ممارسات فاسدة، وتوفير بيئة سياسية واقتصادية نظيفة، خالية من القمع والتسلط ومن الخوف والهلع. وعندها فإن بمقدور المجتمع المدني والصحافة الحرة أن تفعل فعلها في فضح ممارسات الفساد، وخلق إرادة سياسية معاندة للفساد. -3- دور البرلمانات في الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي بوصفها مدخلاً لمكافحة الفساد لقد ترتب على تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية للسكان، شيء ما من الفساد، تضيق مساحته وتتسع، تبعاً للدور الذي تحتله الدولة في اقتصاد البلاد، ولهذا راحت أصوات بعض المختصين تشيد بالليبرالية الاقتصادية، وتطالب بتقييد وظيفة الدولة والحد من تدخلها في الشأن الاقتصادي، من خلال مطالبتهم بالخصخصة، وتحرير التجارة الخارجية، وإطلاق يد اقتصاد السوق، للحد من ظاهرة الفساد وقمع سلوكيات الفاسدين، مع العلم بأن بلدان اقتصادات السوق ليست بمنأى عن الفساد، وأكبر مثال على ذلك عندما انتقلت دول المعسكر الاشتراكي سابقاً إلى اقتصاد السوق اتسعت دائرة الفساد، ويبررها البعض بغياب التقاليد المتعلقة باحترام سيادة القانون، وضعف أداء المجتمع المدني، والإبقاء على الجهاز الإداري القديم الفاسد، وليس ضرورة عندما يتغير النظام يتغير معه الفساد، إلا إذا تم اعتماد آليات جديدة قامعة للفساد، وحتى يتحقق الهدف المعلق على الإصلاح الاقتصادي في التخلص من الفساد، يفترض إصلاح الخطط والبرامج الحكومية وتطوير الخدمات العامة وتوفيرها لذوي الدخل المحدود من تربية وتعليم وصحة. والقول باستحالة مكافحة الفساد في الدول المتخلفة اقتصادياً لا يصمد طويلاً أمام النقد، صحيح قد يبقى الفساد في الدول الديمقراطية والمتقدمة اقتصادياً ضمن حقل الارتكابات الفردية ولا يتحول إلى ظاهرة، نتيجة وجود المنابر الحرة، وصحيح أن هناك ثمة علاقة بين مستوى التطور الاقتصادي ومستوى الفساد الإداري والمالي والسياسي، ولكن أيضاً من الصحيح أن استئصال الفساد ليس بالمعجزة فالدول تتفاوت فيما بينها في درجة الفساد، والعوامل التي تتسبب في الفساد في البلدان المختلفة، كثيرة ومتشعبة إلى درجة التعقيد، والفساد فيها محكوم بنوعية الحكم، ودرجة احترام حقوق الإنسان والحريات المدنية، ونجاعة السياسات الاقتصادية التي تطبقها. ويفترض عندما تكون الدولة متدخلة في الحياة الاقتصادية أن يوجد فيها الحكم الجيد، وأن تعكس في تدخلها مبادئ الحكم الرشيد، المتمثلة بالانفتاح والشراكة والمحاسبة والرقابة الصارمة، التي بمساعدتها يمكن تطويق الفساد وحصره في زاوية ضيقة، وبإمكان السلطة التشريعية والمجتمع المدني أن يُعين حدود تدخل الدولة في الحدود التي لا تنتقص من الحرية الاقتصادية. وهنا لا بد من حشد جهود القطاع الخاص وتسخير إمكاناته للسيطرة على الفساد الذي غالباً ما يعشعش في المفاصل التي تتقاطع فيها أنشطة الدولة مع أنشطة القطاع الخاص الذي يفترض إشراكه وتشجيعه على تأسيس الجمعيات الأهلية المناهضة للفساد، وبإمكان هذا القطاع أن يعتمد ميثاق شرف، يوقع عليه رجال الأعمال من أجل محاربة الرشوة والتدليس والمحسوبية، وأن تتم المناقصات والمزايدات في جو من الشفافية خال من الرشوة، وبمقدور القطاع الخاص أن يُعين مجالس إدارات للشركات، تتميز بالنزاهة والاستقامة، لتلعب دورها في تربية العاملين بروح المواطنة والحرص على الوطن، بعيداً عن الانغماس في الرذيلة والممارسات الفاسدة، فضلاً عن وضع ضوابط رادعة لممثلي الشركات الأجنبية، حتى يمتنعوا عن تقديم العمولات للمسؤولين في الدولة المضيفة، وأن يتقيدوا بالتعليمات والقوانين الناظمة فيها. -4- الآثار الاقتصادية والسياسية للفساد ينطوي الفساد على آثار بالغة الخطورة، مدمرة للمجتمع، وبوصف الفساد يمثل أحد أشكال السرقة العامة للثروة الوطنية، فإنه يتسبب في تسرب الأموال العامة بطرق غير مشروعة إلى جيوب مرتكبي الفساد، وغالباً ما تجد طريقها إلى الخارج، بدلاً من توظيفها داخل البلاد لجلب المنفعة العامة. والفساد كالجرثومة الخبيثة، تفترس الحكم الجيد، وتدمر الشرعية السياسية، وتغتصب المواطنين العاديين وتهمشهم في الحياة السياسية، بل يُسهم الفساد في تشويه القرار الاقتصادي والسياسي، فتكون الخيارات والقرارات خاطئة، فتسبب في تحويل الخدمات من الفئات التي هي بأمس الحاجة إليها إلى جماعات المصالح المكتسبة (حراس المصالح). وعندما يستشري الفساد في المجتمع ويتحكم به، تهتز أركان الحكم، وتنقص سيادة القانون، ويتمادى مرتكبو الفساد فيرفعون ثمن فاتورة الفساد، بل يتمادون في البحث عن وسائل جديدة للحصول على المزيد من الأموال، بطرائق غير مشروعة، وعندما يستحكم الفساد بالمجتمع، تدخل البلاد في دوامة (حلقة مفرغة) حيث يغذي الفساد في إطارها نفسه بنفسه، وعندها يتعذر السيطرة عليه. وفي ظل الفساد تتغير قواعد اللعبة السياسية، فتتحول الأحزاب من أحزاب تسعى إلى تطبيق برامجها السياسية والاقتصادية إلى أحزاب تتولى توفير الخدمات والمنافع والمكاسب لناخبيهم، بغض النظر عن المصلحة العامة للمجتمع، أي تتحول من أحزاب سياسية تناضل من أجل المبادئ إلى أحزاب بيروقراطية تسهر على مكتسبات ناخبيها الشخصية، وحالة كهذه ترفع من فاتورة الحملات الانتخابية، مما يظهر الأحزاب السياسية لأن تعتمد على الأثرياء في تمويل حملاتها الانتخابية، فترتهن ضرورة لمصالحهم، وحتى تكتسب الانتخابات مصداقية لدى المواطنين فإنها تتطلب: 1- تحديد نطاق الدوائر الانتخابية على نحو دقيق. 2- تشديد الرقابة على نزاهة الانتخابات من قبل المفوضية. 3- ضمان استقلال مفوضية الانتخابات عن السلطة التنفيذية. 4- التقيد بميثاق شرف الانتخابات وسلوكية ممارستها. 5- الإعلان عن نفقات الانتخابات والكشف عن مصادر التبرعات. 6- تطبيق تكنولوجيا الاقتراع الإلكتروني وبطاقات التعريف بالناخبين. 7- ضمان حياد الأجهزة الأمنية وغيرها من المؤسسات الرسمية. 8- تطبيق نظام متطور للاعتراض على نزاهة الانتخابات ومدى شفافيتها. يفترض بقانون الانتخابات أن يكون مواكباً للمتغيرات الاقتصادية والسياسية التي تطرأ على المجتمع، التي تفترض ضرورة إجراء مراجعة دورية للنظام الانتخابي على قاعدة (صوت واحد للناخب الواحد) دون التمييز في اللون أو العرق أو الدين أو العقيدة أو الجنس أو الطبقة الاجتماعية، وأن يراعى في نظام الانتخابات التوفير في النفقات وعدم زيادة عدد المراكز الانتخابية، وتوفير تمويل من الدولة للمرشحين حتى لا يتعرضوا للابتزاز والاختراقات من قوى داخلية أو خارجية، وتحديد الحد الأقصى للنفقات ليتماشى مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي. والفساد يشكل عقبة كأداء في طريق إنجاز المهام التي ينشدها المجتمع، كون الرشوة، تضيف أعباءً جديدة على كاهل المقاولين الصغار، وتتسبب في سوء توزيع الدخل القومي توزيعاً عادلاً بين أبناء المجتمع، والأكثر من ذلك عندما تتسع دائرة الفساد ويرتفع الطلب على الرشوة من المسؤولين الفاسدين، تتأثر سلباً على التنمية الاقتصادية برمتها، فتتراجع معدلات النمو وكفاية الإنتاج، كون الفساد، يشكل قيداً على حرية المنافسة، فيعمد إلى تقييدها، الأمر الذي يؤدي إلى تردي المستوى المعيشي للفقراء، وعندها تتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتتعمق ظاهرة الاستقطاب الاجتماعي وتتراجع الخدمات العامة (كالصحة والتربية والتعليم)، نتيجة إدارتها من قبل مدراء فاسدين، ينهبون القسم الأكبر من الأموال المخصصة للإنفاق العام. والبيئة الفاسدة تنطوي على أثارٍ سيكولوجية مدمرة للمجتمع، إذ يضعف الشعور بالمواطنة وتهتز ثقة الناس بالدولة ومؤسساتها، وإذا ما استمرت مشكلة الفساد طويلاً ربما تتسبب في انهيار الحكم الجيد، كونه يُمثل انتهاكاً صارخاً للحقوق والواجبات، فيؤدي إلى تآكل الرأسمال الاجتماعي، ويضعف من الدور الذي تلعبه القوانين والأنظمة النافذة في حياة البلاد، ناهيك عن انتهاك الشرعة السياسية، وعندها يصل المواطن إلى قناعة لا جدوى من محاربة الفساد سوى القبول به والتعايش معه، فتشهد البلاد نزوحاً غير مسبوق من الكفاءات والمؤهلات إلى الخارج. وهكذا فإن الفساد هو إساءة استخدام السلطة، من أجل تحقيق منافع شخصية لمصلحة شخص أو جماعة، والفساد يمارس باتجاهين يشتمل على القطاعين العام والخاص، ويشيع في ظل الحكم السيء، وحيثما تكون الأجهزة الرقابية مهمشة، في ظل الحكم الجيد فإن الفساد يتسبب في عجلة التنمية، ويحول دون جذب الاستثمارات الأجنبية إلى البلاد، والأكثر من ذلك يؤدي إلى تعميق الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتهميشهم، ويحجب عن الدولة المساعدات والمعونات الدولية. -5- دور البرلمانات في تجنب سلبيات الفساد المعولم إن الجهود المبذولة على الصعيد الوطني لمحاربة الفساد تبقى قاصرة إن لم تُرفد بإجراءات على المستوى الدولي، فالفساد المعولم يفترض تكامل أنشطة الهيئات الوطنية مع أنشطة المؤسسات الدولية التي تعنى بمكافحة الفساد على الصعيد الدولي، وهنا يمكن للبرلمانات أن تشارك في فعاليات (منظمة الشفافية الدولية) من أجل وضع معايير دقيقة لرصد الفساد ومحاربته من خلال: 1- التوقيع على ميثاق شرف عالمي، رادع لسلوك وتصرفات المسؤولين الحكوميين، ورجال الأعمال في القطاع الخاص. 2- إقامة علاقات توأمة بين البرلمانات تستهدف مكافحة الفساد دولياً. 3- تنسيق الأنظمة والقوانين الرادعة للفساد على المستوى الدولي وتحقيق الانسجام بينها. 4- عقد اتفاقات ومعاهدات إقليمية ودولية لمكافحة الفساد. 5- وضع قوانين تجيز الكشف عن حساب المسؤولين في المصارف الأجنبية بالإضافة إلى وضع قوانين دولية ناظمة ورادعة لعملية غسيل الأموال. ومن أجل إماطة اللثام عن علاقة الارتباط والسببية بين الفساد والعولمة، يفترض إعداد دراسات وبحوث حول العولمة ومنعكساتها على المجتمع، وتعزيز دور البرلمانات في التصدي لسلبيات العولمة. ووضع خطة شاملة للإفادة من إيجابيات العولمة إن وجدت ناهيك عن الاهتمام بتعزيز الانتماء والتمسك بالهوية الوطنية والقومية في مواجهة الغزو الثقافي للعولمة، وتشكيل شبكة من العلاقات مع المجتمع المدني الدولي والشعب البرلمانية الدولية، فضلاً عن تأسيس منظمة دولية تُعنى بتطبيق ميثاق الشرف البرلماني. وأن تسعى البرلمانات للتنسيق والتعاون مع (منظمة الشفافية الدولية) لوضع معايير ناظمة لمؤشرات الفساد، ومدى تقيد الدول بمحاربة الفساد. بالإضافة إلى التعاون مع الشبكة المصرفية الدولية من أجل الكشف عن الحسابات المملوكة للأشخاص الذين يمارسون الفساد، وفضح الذين يتعاطون الكسب غير المشروع. وإشراك القوى الحية في المجتمع في أنشطة اللجان التي تتولى التحقيق بالفساد. وأن تعتمد البرلمانات لتشكيل (لجنة وطنية لتطهير الفساد) ووضع تعريف محدد له. أضف إلى ذلك تأسيس (لجنة برلمانية دائمة تتولى مكافحة الفساد). ووضع تشريع ناظم لعمل (مُطلق الصفارة) أي الجهة التي تدق ناقوس الخطر الذي يتهدد البلاد. آلية التعاطي مع المؤسسات المالية الدولية: تقع على عاتق البرلمانات مسؤولية وطنية في طريقة تعاطي الدولة مع المؤسسات المالية الدولية، من حيث التحقق من سلامة الاتفاقات الدولية قبل توقيع السلطة التنفيذية عليها، وذلك من خلال تمثيل البرلمان بصفة المراقب في المباحثات والمفاوضات الدولية بين الحكومة والمؤسسات المالية الدولية، بالإضافة إلى إخضاع كل القروض الخارجية التي تعقدها الدولة لمصادقة السلطة التشريعية، فضلاً عن عقد اجتماعات دورية منتظمة مع الجهاز التنفيذي للتحقق من سلامة العلاقة مع المؤسسات المالية الدولية والتي يتوجب عليها أن تأخذ في الحسبان الخصائص الوطنية والقومية خلال التفاوض، وأن تتعاون مع اللجان البرلمانية بشفافية عندما تطلب تدقيق ومراقبة مثل هذه الاتفاقيات، وأن تقدم الدعم المادي والأدبي للجان البرلمانية في إجراء الأبحاث والدراسات المتصلة بآليات التعاطي مع (صندوق النقد الدولي) و (البنك الدولي). التعاون مع الشبكات البرلمانية: تُسهم الشبكات البرلمانية بوصفها وسيلة مهمة لقمع الفساد في تزويد البرلمانيين بالمعلومات وبالخبرات التي تمكنهم من استخلاص العبر والدروس التي تؤهلهم لتجنيب بلدانهم من الوقوع في مستنقع الفساد الذي وقعت به بعض الدول فلم يعد الفساد مجرد إشكالية وطنية صرفة، بل أصبح الفساد معولماً إلى درجة يتعذر معه مكافحة الصفقات التجارية المشبوهة ومقاومة تجارة المخدرات إلا بالتعاون والتنسيق بين الدول على الصعيدين الإقليمي والدولي. وبمقدور (منظمة التجارة العالمية) أن تساعد في صياغة السياسات المناهضة للفساد على المستوى الوطني، فضلاً عن مؤسسات أخرى مثل (الاتحاد البرلماني للكومنولث)، (الاتحاد الفرانكوفوني) وتشكل هذه المؤسسات فضاءً رحباً للبرلمانيين حتى يجتمعوا ويتبادلوا المعلومات ويتشاوروا في اتخاذ الوسائل الناجعة لمكافحة الفساد. وفي العصر الراهن تأسست (الجمعية البرلمانية للمنظمة الأوروبية للأمن والتعاون) وقد بادرت بعض الدول لتأسيس جمعيات على شاكلتها من أجل رصد أنشطة المنظمات الدولية مثل (صندوق النقد الدولي) (البنك الدولي)، (منظمة التجارة العالمية). إن من السهولة بمكان الدعوة لتأسيس (شبكة برلمانية دولية) ولكن الصعوبة تكمن من الناحية العملية، كيف تكون هذه الشبكة فعالة ومؤثرة؟، وحتى تكون كذلك يفترض ألا تكون دائرة تبادل المعلومات واسعة إلى درجة يتعذر السيطرة عليها، وأن تسعى إلى تزويد البرلمانيين بأفكار محددة تتصل بوقائع الحياة اليومية، وأن تشرف على هذه المؤسسة إدارة قوية، تقوى على حشد مشاركة واسعة للبرلمانات، وأن تسعى إلى قياس الأثر للمعلومات التي تقدمها الشبكة. أما على المستوى الوطني فيفترض أن يتواصل البرلمانيون مع بعضهم في إطار شبكة، معتمدين على فعاليات اللجان كأساس لتبادل المعلومات، فالشبكات على المستوى الداخلي، مطلوباً منها أن تتحول إلى منبر لتبادل المعلومات والخبرات المكتسبة، وأن تفيد من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في استثمار الموارد المتاحة على نحو أمثل، من خلال تمكين أعضاء البرلمان من الحصول على خدمات الانترنيت والبريد الإلكتروني، وتدريبهم على استخدامها، مما يؤهلهم للحصول على المعلومات التي تتصل بنشاطهم اليومي، ولتوفير المعلومات الغزيرة فإن من المفيد الدخول في شراكة مع الشبكات البرلمانية المماثلة والتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني ومع (منظمة الشفافية الدولية) وذلك من أجل الإفادة من خبرات الآخرين. وعليه فإن الشبكات البرلمانية لتبادل المعلومات، يمكن لها أن تلعب دوراً مؤثراً في التصدي للفساد المعولم، لاسيما في حال تواصل أعضاء البرلمانات ذوي الميول الإصلاحية مع بعضهم. لقد راحت المؤسسات المالية الدولية تؤدي مهمات كثيرة على طريق السيطرة على الفساد لاسيما في تشجيع قيام منظمات أهلية وتمويلها، من أجل مكافحة الفساد، بالإضافة إلى دخولها كشريكاً ولاعباً فاعلاً في منظمات النزاهة والشفافية، فالبنك الدولي أعرب في أكثر من مناسبة عن حرصه على مد يد العون والمساعدة للأنظمة النزيهة، وحجب التمويل والمساعدة عن الأنظمة الفاسدة وذلك عبر تبني استراتيجيات تشتمل على ما يأتي: - تمويل المشاريع الإنمائية التي تخلو من الفساد. - تبادل المعلومات المتعلقة بالفساد مع الدول التي يمولها البنك الدولي. - ربط برامج المعونة الدولية، بعدم وجود الفساد. - دعم الجهود الدولية ومساندة الدول التي تحارب الفساد. وفي ظل الفساد لا تُسخر المساعدات والإعانات الدولية في تحقيق النفع العام، بل تنحرف عن مسارها، ويجري الإعلان عن إقامة مشاريع وهمية على الورق، مما يزيد من عبء المديونية الخارجية وخدمة الدين العام، لتصل الدولة إلى مرحلة عدم القدرة على تسديد الديون، أي تُعلن إفلاسها، فتتردد المؤسسات المالية الدولية في إقراضها أو مساعدتها، الأمر الذي يضيف عبئا جديدا على التنمية. كذلك يتسبب الفساد في تراجع إيرادات الدولة من الضرائب والرسوم، نتيجة للتهرب الضريبي، فتسوء الخدمات العامة، وتتخلف البنية التحتية للبلاد. لقد أظهرت الدراسات بأن الدول التي تعاني من مشكلة الفساد، تواجه صعوبات جمة في جذب الاستثمارات الأجنبية إلى داخل البلاد، فالبيئة الفاسدة هي بيئة طاردة للاستثمارات، ومهما طورت من التشريعات، ومهما قدمت من الإغراءات، فإن رؤوس الأموال تحجم عن الاستثمار في الدولة التي تعاني من الفساد، لأن تكلفة الاستثمار غالباً ما تكون مرتفعة جداً قياساً بالبيئة النظيفة. ما الذي استجد على البرلمانات في ظل العولمة؟ لقد اتسعت في ظل العولمة الأسواق المالية، وتنوعت وسائل الاتصالات وتحررت إلى حد كبير السلع والخدمات، وتم تقييد دور الدولة في الحياة الاقتصادية، وتأسست شركات تجارية حديثة تخطى نشاطها الحدود الوطنية، ووجدت هذه التحولات انعكاساً لها على مجمل الاقتصاد العالمي الذي وضع الدول النامية أمام خيارات صعبة، وأمام ضغوط كثيرة، تمارسها المؤسسات المالية الدولية مثل (صندوق النقد الدولي) و (البنك الدولي). لقد مكنت ثورة المعلوماتية التي تعد أحد أبرز معالم العولمة، الجمهور من أن يكون أكثر دراية بالشأن العام، لاسيما ما يتعلق منه بالبرامج الانتخابية وما يكتنفها من حملات دعائية، وعدد المرشحين وعدد الناخبين، وعدد الدوائر الانتخابية وكل ما له علاقة بأمور الانتخابات البرلمانية وذلك نتيجة لغزارة المعلومات وتدفقها. وفي ظل العولمة تغيرت قواعد اللعبة السياسية، وتغيرت معها وبها قوى الضغط على الصعد المحلية والدولية، التي أضحت خارج نطاق السيطرة والتحكم، فالبيئة المعولمة أسهمت إلى حد كبير في تغيير مفهوم البرلمان، بوصفه حلقة وصل بين الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني، وتغيرت النظرة إلى عضو البرلمان، إذ بات عليه أن يؤمن الخدمات الأساسية، ويُحسن التعاطي مع المؤسسات التي تشكل الرأي العام، ويتعلم كيف يوظف المعلوماتية في خدمة ناخبيه. وعلى الرغم مما أحدثته العولمة من تغيير في عمل ونشاط البرلمانات، فلا تزال تلعب دور الجسر الذي يربط الدولة بالمجتمع، ولا تزال تلعب دوراً مهماً في الحكم الجيد، عبر محاسبة مؤسسات الدولة والمشاركة في صناعة قراراتها المتعلقة بالنواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وإن كانت العولمة أضحت سلاحاً ذا حدين فإما أن تُعلي من شأن البرلمانات وإما أن تخفت من صوتها. وتعزز من طغيان السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية. وللحد من المؤثرات السلبية للعولمة أقدمت بعض البرلمانات على سن تشريعات وقوانين من أجل السيطرة على الفساد، من خلال التركيز على مأسسة المجتمع بدلاً من الاعتماد على الأفراد، وبدون قيام دولة المؤسسات، (حتى في ظل التخطيط الجيد والسياسات المرسومة بعناية) قد تتفاقم ظاهرة الفساد، وأن التصدي له ومحاربته، قد يُسهم في إنجاز أهداف أخر من بينها تفعيل أداء الحكومة وتشديد الرقابة عليها. وهكذا من سياق ما ورد تلعب الإرادة السياسية دوراً مهماً في تفعيل أية مبادرة تستهدف مكافحة الفساد، وكذلك فإن الإصلاح السياسي، يُعزز من سيادة القانون ومن تفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني ومن دور البرلمانات، فضلاً عن ذلك فإن الإصلاح الإداري يُقلل من فرص ممارسة الفساد على المستوى الرسمي، وإذا ما تحقق التوازن بين تحديث القوانين وتطويرها، وبين تحسين نوعية الخدمات الحكومية، فإن بالإمكان تضييق مساحة الفساد في حدوده الدنيا، وبدورها الإصلاحات الاقتصادية إذا ما أخذت في الحسبان البيئة السياسية والاجتماعية، ولم تستخدم كيافطة للإتيان على الخدمات الحكومية وتقييد وظيفة الدولة، فإن بالإمكان أن تُسهم في الحد من ظاهرة الفساد، علماً أنه لا يمكن المراهنة فقط على تغليظ العقوبات لمكافحة الفساد، والمهم خلق ثقافة مقاومة للفساد، فالعقوبات الزجرية قد لا تأتي بالنتائج الطيبة، بل ترفع من فاتورة الرشوة، وتترتب عليها نتائج عكسية، وإذا ما تعاملت المؤسسات المالية الدولية مع الحكومات الوطنية على قاعدة الشراكة في مواجهة الفساد، فإن بالإمكان التحكم به والسيطرة عليه، وهذا يقتضي من الحكومات التعاون مع المؤسسات والهيئات الدولية لتطويق مشكلة الفساد. |
||||
|