الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

ردك على هذا الموضوع

فكر سياسي

نحو صياغة نظرية للاستقرار السياسي في العراق

استراتيجية التكامل بين العناصر اللازمة على أرضية الوحدة الوطنية

سعد سلوم

يشكل التصدي لإشكالية الاستقرار السياسي لبلد مضطرب مثل العراق، تحديا في غاية التعقيد لكل باحث في مستقبل العراق، مما يستلزم التزود بمعرفة عميقة بتاريخ العراق المعاصر كما يتطلب استكمال عدة المرء وأدواته في سبر غور الذات العراقية المضفورة بتأثيرات عميقة يصل عمرها إلى آلاف الأعوام، والاهم من ذلك أن يمتلك المرء حسا استراتيجيا مؤسسا على نظرة تكاملية للإشكالية، وفي رأينا المتواضع- الذي نحسبه محاولة أولى لتأسيس نظرية متكاملة لدولة الاستقرار السياسي في العراق-فإن تناول الاستقرار السياسي في العراق يتطلب التصدي لبحث العناصر اللازمة لبلورة أرضية ملائمة لانطلاق استراتيجية الاستقرار، عبر الجمع بين ثلاثة مفاهيم متكاملة: الأول مفهوم سايكولوجي (الأمن)، والثاني مفهوم اقتصادي (التنمية) والثالث مفهوم قانوني (الشرعية). وإن التأسيس لتكامل هذه العناصر الثلاثة على أرضية من الوحدة الوطنية سيوفر المدخل الحقيقي لاستقرار البلاد- ذلك المطلب العميق الملح أمام العقل العراقي منذ وجد. وكنا قد ذهبنا في افتتاحيتنا للعدد الثاني من مجلتنا مسارات التي حملت عنوان (في التأسيس لما هو دائم) إلى تحليل جدل الدائم والمؤقت في العقل العراقي وأثر ذلك على نسج مفهوم الاستقرار داخل الذهنية العراقية، واستشهدنا ببصيرة عالم الآشوريات توركلد جاكوبسن الذي رأى أن العراقي القديم لو عاد إلى الحياة لما اضطرب كثيراً لمرأى آثاره وهي حطام لأنه كان دائماً يعرف معرفة عميقة بأن (الإنسان أيامه معدودة ومهما صنع فما هو إلا ريح تهب).

الكون العراقي كدولة

ويجد جاكوبسن في البيئة التي نمت فيها حضارة وادي الرافدين تفسيراً لنشوء الذهنية العراقية التي تكاد لا تؤمن بالراحة والاستقرار، فالبيئة العراقية تتميز بعنصر من القسر والعنف لم تعرفه المدنيات القديمة، فدجلة والفرات يفيضان على غير انتظار أو انتظام فيحطمان سدود الإنسان ويغرقان مزارعه. وهناك رياح لاهبة تخنق المرء بغبارها وأمطارها عاتية تحول الصلب من الأرض إلى بحر من الطين وتسلب الإنسان حرية الحركة. فهنا في العراق كما يشرح جاكوبسن لا تضبط الطبيعة نفسها. أنها ببطشها تتحكم بمشيئة الإنسان وتدفعه إلى الشعور بتفاهته ازائها. وتجربة الطبيعة التي أوجدت هذه الحالة الذهنية جاء التعبير المباشر عنها في فكرة الكون لدى سكان ما بين النهرين، فعلى الرغم من أنهم رأوا في الكون نظاماً لا فوضى غير أن ذلك النظام لم يكن أميناً يطمئنون إليه. لقد شعروا أن في تلافيفه حشداً من الإرادات الفردية المتنازعة إمكاناً، الملأى باحتمالات الفوضى. ويرى جاكوبسن انه بموجب هذا كان العراقي القديم يرى النظام الكوني متحققاً بجمع مستمر للارادات الكونية الفردية الكثيرة، كلها عاتٍ، وكلها رهيب. ولذلك جعل فهمه للكون يعبر عن نفسه في صورة الجمع والتوحيد بين الإرادات، أي رأى النظام الكوني نظاماً من الارادات– أي دولة. قد يبدو مما تقدم أن اللا وعي الجمعي للعراقيين قد أعدهم للتعامل مع عدم الاستقرار طوال تاريخهم المشحون بالعنف وجعلهم يغرمون منذ القدم بالدولة في نوع من الارتباط المازوخي. وإذا كانوا قديماً قد نظروا للكون بوصفه دولة تدار من قبل مجمع الآلهة فإنهم اليوم يتبعون حلما بأن تصبح دولتهم المعاصرة جزءاً صغيراً متوحداً ينساب في علاقات طبيعية ضمن سياق كون غامض.

جدل الدائم والمؤقت (لعنة التاريخ)

وحتى عندما مضى العراقيون اليوم قدماً في صنع وثيقة دائمة تعكس حقهم بدولة الاستقرار السياسي فإنهم ما يزالون يحملون الخوف القديم نفسه من أن يتعثروا مجدداً ويكتشفوا أن (الدائم) وهم ! لذا نجد لدى معظمنا نفوراً من كلمة (مؤقت) التي ارتبطت شرطياً في أذهاننا بعدم الاستقرار فتاريخنا السياسي الحديث خيم عليه شبح الدكتاتوريات العسكرية حتى نيسان 2004 وجاءت سلسلة من الدساتير المؤقتة سرعان ما كانت تركن على الرف لتمثل وضعاً مؤقتاً مشؤوماً. وحتى قانون إدارة الدولة لم يحمل الصفة المشؤومة (مؤقت) بل أطلقت عليه صفة (انتقالي) وليس (مؤقت) لتحاشي الانطباع القائم للمؤقت في الذاكرة الجمعية بل أذكر إنني شاهدت وجه أحد المتحدثين باسم أحد أعضاء مجلس الحكم يتشنج بالانفعال عندما تمت الإشارة إلى مجلس الحكم بصفة المؤقت وطالب بإسباغ صفة الانتقالي على المجلس بدلاً من المؤقت وكأن هذه الكلمة شتيمة وعار ينبغي أن لا تقترن بأي مؤسسة أو وثيقة رسمية. ولكن الحنين الثابت إلى رحم الاستقرار الأمومي يريد منا أن نبلغ العالم بأسره بأننا لن نكف عن استجماع قوانا للنهوض مجدداً ونؤسس دولة القانون (دولة الاستقرار السياسي) يقسر علينا وضعنا القلق سلسلة لا تنتهي من الاختيارات العشوائية. فما أحوجنا إلى نوع من الانتظام وبعض القدرة على توقع ما سيحدث وعلى أن يكف القائمون الدوليون بأمرنا عن النظر إلينا كما لو كنا فئران تجارب. يسألوننا في كل مكان ويحرجون العراقي في كل فرصة (وهم يضعون في أذهانهم النموذج اللبناني) ونحن لا نريد أن نقدم لأحد المعرفة السعيدة عما تعنيه الحياة في مكان لا يملك أحد فيه ما يكفي من السلطة ليحكم ! لكننا أيضا نريد أن نعلن لجميع المراقبين والمتشككين بأننا مثل جميع البشر في كل زمان ومكان، تتقاسمنا في آن واحد حاجة لا يمكن ردها إلى حد أدنى من النظام في الحياة وهذه الحاجة هي التي تقدم التبرير الأساسي لوجود الدولة ولتشريع القانون، ولتبرير حياتنا التي أصبحت وقودا للحروب والجرائم. 

ماهية الاستقرار الذي نحن بحاجة إليه؟

نحن بحاجة للدولة العصرية المؤهلة دون غيرها لضبط حدود الحريات والحقوق وتوازن المصالح في مناخ يتسم بالأمن الجماعي والاستقرار السياسي. وليس بجديد القول أن حياتنا لا تستقيم بدون الأمن والتنمية ولا تحسن أحوالنا بدون الاستقرار الذي هو نتاج الأمن والتنمية فتوفير الأمن والتنمية، أي الاستقرار يعني توفير شروط إنسانية الإنسان العراقي كما يعني بالنسبة لدولتنا توفير شروط استمرار ونجاح الدولة العصرية. وقد تميزت الدولة الراسخة في التصنيع والتقدم والتمدن العريق بنعمة الاستقرار السياسي التي يفتقر إليها عراقنا المحظوظ بالكثير من أسباب عدم الاستقرار السياسي: - تاريخية، اقتصادية، سياسية، اجتماعية، ثقافية، قانونية، ودولية. وقد جر ذلك علينا الاضطرابات السياسية العنيفة والقمع الوحشي وانعدام السلم الاجتماعي والمدني وتعدد الولاءات والقيم والمرجعيات الوطنية وكثرة الصراعات والتناقضات. وفي مناخ كهذا اختفى التسامح والحوار وحل محله التعصب والتطرف وتفاقمت ظاهرة التفكك السياسي والتحلل الاجتماعي وأصبحت أجهزة الدولة مشلولة أو ضعيفة مما رشح اللجوء إلى ممارسة العنف أو الحرب الأهلية وصاعد من تأثير عدم الاستقرار في توقف التنمية والحياة المدنية وغياب الشرعية وفقدان الأمل.

مطلب الأمن العسير المنال

 وقد كان الاستقرار في ظل النظام السابق يأخذ طابعاً بوليسياً مقيتاً وبعد إن انهارت القشرة الرقيقة لهذا الاستقرار المؤسس على توفير الأمن الكاذب لم يفعل غزو الولايات المتحدة للعراق شيئاً لاستعادة الاستقرار أو لتوفيره حيث حل العنف الطائش والعشوائي والتفجيرات الانتحارية واستحالة التنبؤ بيوم غد محل القمع الشمولي. وبدت ثمار الحرية التي قطفناها مرة وجافة في أفواهنا العطشة لما هو راسخ وحي من المؤسسات التي تشكل دولة الرفاه والقانون والحرية.

يشير كل من ستيفان هالبر وجوناثان كلارك في كتابهما المهم التفرد الأمريكي- المحافظون الجدد والنظام العالمي2004 إلى كيفية استيلاء المحافظين الجدد على صناعة القرار بشأن العراق مما أدى إلى استبعاد مشروع وزارة الخارجية لمستقبل العراق، فالإدارة الأمريكية كان لديها بالفعل خطة لعراق ما بعد الحرب حيث قامت وزارة الخارجية وسبع عشرة هيئة فيدرالية بجهد هائل يدعى (مشروع مستقبل العراق) شمل مئات العراقيين المنتمين إلى الفئات الأثنية والدينية العديدة في البلد ومجموعات عمل في موضوعات تمتد من الاقتصاد والزراعة إلى الهياكل الحكومية. وظهر في نهاية الأمر تقرير من ثلاثة عشر مجلدا. وقد توقع المشاركون العديد من المشاكل التي حلت في النهاية في عراق بعد الحرب، وعملوا على خطط لملء الفراغ الأمني واستعادة الخدمات وتهيئة المرحلة الانتقالية نحو الديمقراطية. ووضع المشروع استراتيجيات لكسب قلوب العراقيين وعقولهم عن طريق تحسين الظروف الحياتية وتأمينها كما شدد على التعاون مع التكنوقراط الموجودين في العراق لضمان تدفق الماء والكهرباء بدون انقطاع. ويشدد المؤلفان على تعمد وكيل وزارة الدفاع لشؤون السياسات في البنتاغون (دوغلاس فيث) وهو أحد المحافظين الجدد، وموظفيه، تجاهل خطة عمل وزارة الخارجية في العراق بعد الحرب التي استغرق أعدادها عاما كاملا وحالوا دون السماح لكبير المخططين في وزارة الخارجية توماس وأريك بالتوجه إلى العراق. وأشار المؤلفان إلى أن أريك كان قد وظف نحو 240 عراقيا في أوربا وأمريكا ممن لديهم خبرات في مجالات القانون الجنائي والاقتصاد والنفط وكانوا قد أعدوا مسودات لكل ناحية من نواحي إعادة الأعمار لكن قيادة المحافظين الجدد في البنتاغون فرقت عقدهم.

المرحلة صفر وانهيار مشروع الدولة

وقد نتج عن الصراع بين البنتاغون والخارجية الأمريكية الذي أصبح العراق ساحة خلفية له أن انتصر نهج البنتاغون وهكذا وبعد تدمير ما تبقى من البنية التحتية المدمرة أصلا صدرت القرارات الخاطئة بحل الجيش ومؤسسات الدولة وصولا إلى ما يسمى بالمرحلة صفر أو تجسيد حقيقي لسياسة الأرض المحروقة مما أدى إلى انهيار مشروع بناء الدولة لصالح بناء مشروع جديد مغاير نوعيا ولكن بدلا من مشروع دولة تأخذ الحكومة فيها بيد الشعب والأرض لبناء شكل معاصر لدولتنا الحديثة انفرط العقد الاجتماعي وطفت إلى سطح العراق التاريخي دويلات جديدة وكأن ذلك التاريخ العظيم والحاضر المشترك محض تصميغ لأفكار متناحرة على لوحة صدف أن رسمت صورة الحضارة الأولى على سطحها، مما يدفع البلاد في ظل التحديات الهائلة التي تواجهها للانزلاق نحو الحرب الأهلية. وهكذا فإن تاريخ جيشنا الممتد إلى أكثر من (80) عاماً تداعى بعد أن حول السيد بريمر عصاه السحرية لتحل هذه المؤسسة العراقية وبعد مرور (30) يوماً بالتمام اخرج قراراً آخر من صندوق العجائب يقضي بتأليف الجيش العراقي الجديد. وقد أدى هذا الفعل إلى إثارة التساؤل عما إذا كان ذلك يخل بالاستقرار أم لا للدور الذي يمكن أن يضطلع به الجيش في عملية الاستقرار أثناء الاحتلال أو بعده أم إن هذه خطوة محمودة لاسيما وان إخراج العسكريين من مجال الأمن الداخلي ضرورة لحفظ الاستقرار. مهما تكن مسوغات هذا القرار فقد ترك أثاره على استقرار البلاد ذلك إن الجيوش المسرحة تحولت إلى جيوش من العاطلين، مما أدى إلى انضمام العديد منهم (مع ما يحملونه من نقمة) إلى صفوف القائمين بالعمليات المسلحة ضد قوات الاحتلال أو اللجوء إلى استخدام العنف لتحصيل قوتهم في أفضل الأحوال مما جعل منهم أرضية صالحة لتزويد بنية العنف المتصاعد بوقود جديد. أما عملية تكوين الجيش الجديد وطبيعتها فلا تنبئ عن أكثر من تشكيل جيش صغير تكون له أدوار بسيطة أو ملحقة لما تؤديه قوات التحالف في العراق وهو ما يجعل حدود العراق الطويلة مع دول الجوار مفتوحة على مصراعيها لتسرب الإرهابيين الذين عاثوا فساداً في طول البلاد وعرضها وجعلوا عملية الاستقرار مطلباً بعيد المنال. والذي تكشفه يوميا الإحصائيات عن ضحايا موجة التقتيل والعنف التي تشهدها المدن العراقية بسبب حرب التدمير الشاملة ضد الإرهاب الدولي التي تجري على أرضها دونما حساب للعواقب الإنسانية يدفع المرء للصراخ. والأمر المرعب حقا أنها لا تستهدف النخب العراقية وعناصر القوات العسكرية والأمنية والشرطة فحسب بل أصبحت تنصب بلا تمييز وتأخذ طابعا اعتباطيا رهيبا وقد ذهب انتوني كوردسمان في دراسته عن طبيعة المقاومة المتطورة في العراق نشرت ترجمة لأهم أجزائه في مجلة المستقبل العربي إلى أن (استهداف مجموعات أخرى كالشيعة والأكراد باستخدام السيارات المفخخة لغرض إيقاع قتلى بالجملة وتوجيه الضربات إلى أماكن العبادة والاحتفالات يجبر القوات الأمنية على التفرق ويجعل مناطق الهجمات غير آمنة ويقوض جهود الحكم ويقدم إمكانية استخدام الحرب الأهلية كوسيلة لإلحاق الهزيمة بجهود التحالف والحكومة الانتقالية العراقية لبناء الدولة)

 وإذ نلاحظ أن جميع المناطق والمدن العراقية قد أخذت حصتها من وباء التفخيخ-باستثناء كردستان- يضحى من الواضح جدا أن جميع الأماكن تتصف بعدم الأمان، وإذا كانت قوات الأمن بحاجة للحماية فمن يحمي المدنيين إذا من الأساليب والتكتيكات المرعبة المرتبطة بالحرب النفسية والسياسية والمعلوماتية التي يشنها الإرهابيون داخل البلاد إلى الحد الذي اختطفوا مدنا كاملة بسكانها وتعين على سكانها الأبرياء أن يدفعوا الثمن بين مطرقة الاحتلال الأمريكي الذي يتصف باللامبالاة إزاء أرواحهم وسندان الإرهاب المتوحش الذي لا يعطي الحياة قيمة إلا من خلال الموت. وبالتالي فإن عملية حفظ الأمن التي قد تضطلع بها قواتنا الوطنية هي أمر أوسع من حدود قدراته الحالية ولن يستقيم حالنا بدون أن يصبح جيشنا جاهز عملياتيا. وعن منشأ هذه المسؤولية لا يمكن لكل مراقب ذي حس سليم أن يغفل أنه عند استقرار القوات الأمريكية في البلاد تركت الحدود العراقية مفتوحة لتسلل الإرهابيين المريضين بداء الكره لها وجعلت من ارض العراق منطقة رخوة لتصفيتهم وساحة تحقق الصيد السهل لهم بعيدا عن أراضيها ودفع المدنيون العراقيون ثانية ضريبة الدم نيابة عن شعوب أخرى فضلا عن مواصلة فلول النظام المقبور تعنتها واستخدام المدنيين دروعا بشرية ومعاملتهم كأرقام مهملة يسهل طرحها من معادلة الثأر وكشوفات تصفية الحساب السياسية الرخيصة. وقد رقصت دول الجوار الجغرافي على أصوات الانفجارات التي أودت بأرواح الآلاف من العراقيين فما أسهل التخلص من هؤلاء برميهم في طريق الجنة الذي يبدأ من أرض العراق!

إن أحداث الفوضى أو السماح بإغراق البلاد فيها هو نهج استراتيجي معروف يغذي هدفا واضحا لإحلال قوة الاحتلال محل أية مرجعية شرعية للاحتكام بحال الأمن أو التنمية أو كل ما يتعلق بمستقبل البلاد بل ومستقبل الوحدة الوطنية للبلد فبعد أن كان النظام البعثي يحتفظ بوحدة البلاد بفضل آلته القمعية الرهيبة لا يجد المرء سوى الاحتكام لمنطق القوة من أجل سحق شبح الحرب الأهلية الطائفية والعرقية فيصبح وجود البلاد ووحدتها مرتبطا بإغراء القوة الماحقة للدولة العظمى التي هي صمام آمان أخير وهاد لاختلاطنا وفوضانا واحترابنا. وإذا أردنا حقا أن نؤسس لدولة الاستقرار السياسي في العراق فلنبدأ إذن بالأمن وليكن بناء جيش الأمن الوطني غايتنا بدل تمزق الرايات (عبر تعدد الميليشيات التي ترجع في المحصلة النهائية إلى مرجعيتها الطائفية أو العرقية) أو الارتكان إلى لامبالاة المحتل أو إلى ديكور القوات متعددة الجنسية. ويجب الضغط باتجاه دول الجوار الجغرافي للقضاء على وباء الإرهاب وذلك بدلا من التضحية باستقرار العراق وذلك عبر عقد اتفاقات ثنائية ملزمة للطرفين وفتح مجال التعاون في المجالات العسكرية والأمنية أن لم أقل بناء نواة لقوة إقليمية ملتزمة باتفاقية دفاع مشترك ضد الإرهاب الذي يقع على أي من الدول الأعضاء في الاتفاقية طبقا لحق الدفاع عن النفس المقر في المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة على أن يتضافر مع ذلك الجهد عقد مؤتمر للمصالحة الوطنية تشرف عليه الأمم المتحدة وبمشاركة من دول الجوار نفسها ذلك أن المصالحة مع مكونات الشعب العراقي ونخبه قد أصبحت ضرورة ملحة كما أنها قد أخذت طابعا إقليميا في ضوء الدور العربي اللامبالي والمتواطىء في أحيان كثيرة، غير مبال بأن النار هذه المرة، قد تنتشر من جحيم العراق إلى فردوسه الكارتوني الهش.

 (الأمن هو التنمية): تساوي طرفي معادلة الاستقرار

ولعل عملية بناء العراق (بالمعنى الواسع للكلمة) لا تستقيم بدون أرضية الأمن الفاعل، أي ذلك الأمن الذي بفضل مجهود التنمية يرتكز بالأساس على منع أسباب ومظاهر العنف، وقد ربط (روبرت ماكنمارا) وهو وزير دفاع أمريكي سابق ورئيس سابق للبنك الدولي، بين تحقيق الأمن وقدرة الدولة على النهوض بأعباء التنمية، حيث يقول في كتابه (جوهر الأمن) لا يمكن للدولة أن تحقق أمنها إلا إذا ضمنت حداً أدنى من الاستقرار الداخلي، الأمر الذي لا يمكن تحقيقه إلا بتوفر حد أدنى من التنمية على المستوى الوطني، لذا فقد عرف ماكنمارا الأمن بقوله: الأمن يعني التنمية فالأمن ليس تراكم السلاح وليس هو النشاط العسكري التقليدي، إن الأمن هو التنمية ومن دون التنمية فلا مجال للحديث عن الأمن، وقياساً على ذلك لا يمكن في بلدنا تناول الأمن بنجاح دون توفير تصور مستقبلي عن التنمية أو بناء ستراتيجية إنمائية وهو ما يتطلب انطلاقنا من تشخيص مصادر الإخفاق السابقة وعوائقها الحالية، وقد كان للتصلب الأيديولوجي الذي عرفه العراق في ظل النظام الشمولي السابق الأثر في تحويل المجتمع إلى أداة أصبحت معها التنمية فعلاً دعائياً للسلطة والى الهياكل التي تعزز هيمنتها وليست فعلا يلبي طموح الإنسان العراقي وحاجاته، وقد تركزت عوائق المرحلة الانتقالية في إشكالية التناقض بين أهداف التنمية (ذات الأجل الطويل) ومرامي التواجد الأمريكي (ذي الرؤية المصلحية الضيقة- الأجل القصير) وقد يذهب البعض إلى أن بناء ستراتيجية التنمية يتطلب بالضرورة إزالة تدريجية للتواجد العسكري لقوات التحالف فهي ببساطة لا تستطيع أن تتعايش معه، فأحدهما (التواجد العسكري الأمريكي والتنمية) ينفي الآخر ما لم تنسق بين الاثنين عملية استعانة معينة. وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار العلاقة التكاملية بين الأمن والتنمية فإن الإطار المؤسسي لهما، (الجيش/ بالنسبة للأمن) و (صناعة النفط/ بالنسبة للتنمية)، في تاريخ العراق السياسي الحديث قد جددا شخصية البلد ومصائره ووضعاه على مفترق الطرق لأكثر من مرة وان شكل الاهتمام الحالي بهما ومداه قد ينقلان حلمنا بدولة الاستقرار السياسي إلى مستوى جديد، لاسيما في ضوء الاتجاه إلى خصخصة قطاع النفط وعدم إعطاء وزن ذي بال للمؤسسة العسكرية للمساهمة في استقرار البلاد.

ليس من العسير علينا أن ندرك حاجتنا إلى دعم الأمن لتوظيف صحي للتنمية، ونقصد بالأخيرة أن نفهم التنمية كبرنامج يؤدي إلى خلق الإنسان العراقي الواعي المبدع والذي يؤثر بصورة فعالة في تحقيق تقدم مجتمعه، بمعنى أن التنمية التي نحن بحاجة لها هي حراك اجتماعي من وضعنا المأزوم إلى وضع أفضل منه تعزز فيه كرامة الفرد كانسان وتتوفر فيه متطلبات حرية التفكير بما يجعله فاعلاً لا منفعلاً بالأحداث وإيجابياً لا سلبياً أو لا منتمياً إلى محيطه ومعنى ذلك أن هنالك ارتباطاً صميمياً بين التنمية ومشاركة الإنسان العراقي في تحقيقها. ليس أقل من ثورة جديدة يستلزمها الأمر لنقل هذه الرؤية إلى أرض الواقع الصلبة، أي يتطلب ذلك تغييراً جذريا وثورياً شاملاً ومخططاً في العلاقات الاقتصادية القائمة، في القاعدة الاقتصادية والبنى الفوقية، في هيكل اقتصادنا المشوه وفي التركيب الطبقي لمجتمع عملية إقامة بناء اقتصاد عراقي متوازن فيه تعتمد على الإمكانات والقدرات الفعلية الكامنة في الاقتصاد والمجتمع وتفيد من العلاقات الاقتصادية والدولية إلى أقصى حد ممكن. وليس لدينا شك في أن توفير متطلبات التنمية هو خير وسيلة لبناء الاستقرار داخل الإنسان العراقي وجعل الانقسامات بين مكونات الشعب إلى عناصر تكامل وذلك متى ما تصبح التنمية عملية تبدأ من داخل الإنسان العراقي ومن خلالها وإليه. إنها بعبارة واحدة إعادة خلق العراق داخل الإنسان العراقي.

نحو صياغة استراتيجية إنمائية

ينبغي أن لا نغفل عن دور الأمم المتحدة في دعم عملية التنمية في العراق وأهميته منذ إصدار مجلس الأمن قراره ذي الرقم 1483 (2003) الذي أقر من خلاله إقامة صندوق التنمية للعراق لتلبية الحاجات الإنسانية للشعب العراقي وتمويل إعادة البنية التحتية للعراق، هذا وفي الوقت الذي يعد الصندوق حافظ عائدات العراق فإن نفقاته كان يجري إداراتها بواسطة مكتب مراجعة البرنامج (PRB) الذي صممه وألفه أعضاء عينتهم سلطة التحالف المؤقتة ولم يكن بينهم سوى عراقي واحد ولكن قرار مجلس الأمن 1546/ الصادر بتاريخ 8 حزيران 2004 نوه أنه بعد حل سلطة التحالف المؤقتة فإن التصرف في أموال صندوق التنمية للعراق مرهون على وجه الحصر بتوجيهات الحكومة العراقية كما قرر مجلس الأمن استخدام صندوق التنمية بطريقة شفافة ومنصفة ومن خلال الميزانية العراقية وذلك بعد الانتقادات التي وجهت للصندوق بوصفه آلية تمويل لا تتسم بالكفاية والشفافية في المساءلة، وإذا ما رجعنا إلى القرار 1483 تجد أنه قد أقام المجلس الدولي للمشورة والمراقبة لمعالجة العلاقة بين الأمم المتحدة وقوات التحالف وكان هذا المجلس هو الوسيلة الأولية لضمان الشفافية لصندوق التنمية ولتأمين أن تستخدم أمواله بشكل ملائم، وكان المجلس يضم أربعة أعضاء يمثلون الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والصندوق العربي للتنمية الاجتماعية والاقتصادية وهو حسب وصف البعض يقوم بوظيفة (عيون وأذان) مجلس الأمن على صندوق التنمية للعراق، وقد نص قرار مجلس الأمن 1546 على أن يواصل المجلس الدولي للمشورة والرصد أنشطته في رصد صندوق التنمية وأن يضم فرداً مؤهلاً حسب الأصول تسميه الحكومة العراقية ليكون عضواً إضافيا به يتمتع بكامل حق التصويت. ولكن في الحقيقة ليست هناك معلومات كافية يستطيع أن يبني المرء عليها تقييما لطريقة التصرف بأموال صندوق التنمية للعراق وما تزال مسألة الشفافية في إدارة الصندوق مطروحة بشدة في خضم الفوضى التي نعانيها الآن وتعدد المراكز وبالتالي إفلات الكثيرين من تحمل المسؤولية جراء الفساد المالي وتحمل عواقب القرارات الخاطئة. وقد يعترض البعض بدعوى أننا لسنا بحاجة إلى الأمم المتحدة وأن بإمكاننا أن ننسى أمر صندوق التنمية للعراق والمجلس الدولي للمراقبة وأن وزارة عراقية للمالية وبنكاً مركزياً يدعمهما بالتساوي: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي يمكن أن يقوما بالمهمة على أكمل وجه، لكننا ننبه إلى أن المجلس الدولي ليس سوى هيئة مؤقتة كان لا بد أن يحل محلها ويتولى دورها ممثلون عراقيون عند قيام حكومتنا المنتخبة انتخاباً دستورياً ولكن ضرورتها المرحلية كانت قائمة في إضفاء الشرعية والشفافية على عملية إدارة موارد العراق وأن هذه الحاجة للشفافية نود أن تلحق عملية توظيف أموال الدولة المانحة إلى العراق توظيفها يسهم في دعم تنمية العراق بعد أن أصبحت هذه الأموال مجرد قصة يوتوبية تستخدم للاستهلاك المحلي وكنا ندعو الله ألا يصيبنا (الحظ السعيد) الذي غالباً ما يصيب دول العالم النامية حيث تستخدم أموال من هذا القبيل في دفع رواتب الخبراء (وهم غالباً شخصيات جاهلة تصدر قرارات خاطئة في شراء البضائع من الدول المانحة بأثمان باهظة وفي ترويض جزء من النخبة السياسية) لكننا أصبحنا نسمع بالدول المانحة وهي كائنات أسطورية تظهر بقوة في المؤتمرات لكنها تتراجع إلى الظل اللامبالي بعد انتهاء الاجتماعات الرسمية. وبرغم القدر الكبير من التبسيط والتعميم في تناولنا الموضوع إلا أننا لا نتراجع عن التأكيد مجدداً عن حاجاتنا لبناء استراتيجية إنمائية تطلق إمكانيات العراق البشرية وتوسع خياراتهم التي ضيقت طوال الثلاثين عاماً المنصرمة، وهذه الاستراتيجية لا بد أن تضع في الاعتبار أن التنمية تبدأ بالناس وإنها لا يمكن أن تحدث إلا عندما يكون الناس مسؤولين عن توفير شروطها وعلى ذلك فهي نتاج أشكال العمل الجماعي التي تقوم على الإرادة الطوعية لا القسر من جهة ومن جهة أخرى فإنها تتطلب وجود نظام سياسي يعي التخلف كمشكلة ويدرك أسبابها ولا يمتلك إرادة حرة ومستقلة في اتخاذ قراراته مع توفير الولاء الوطني ونقصد بذلك أنه يرفع عراقية العراق فوق كل توجه طائفي أو عرقي أو مصلحي في سبيل استقرار البلاد.

 (التكامل مع عنصر الشرعية): معادلة ثالوث الاستقرار

 ويعكس توفير الأمن من قبل الدولة شرعية وجودها واستمرارها، والشرعية هنا لا تخرج عن كونها التوافق مع المعايير الأسمى وهي أيضا توافق أعمال الدولة مع الدستور والقانون وكل ذلك مما يؤكد الشروط الضرورية لتوفير الاستقرار. لذا فإن تطبيق القانون من قبل الدولة يوفر الأمن للجميع لممارسة حرياتهم وخلاف ذلك- أي في ظل غياب القانون- يغيب الأمن وتداس الحريات ولا يبقى للحقوق أي معنى. والمجتمع الحر هو المجتمع الآمن، وهذا ما جعل كل الدساتير في الدول العصرية والمتحضرة تعطي الأولوية لصون الأمن الوطني على الحريات الفردية. ومن المهم أن نلاحظ أنه في بلداننا العربية هناك ضرورة لتوفر عنصر الرضا الشعبي العام لان عدم توفر هذا الرضا عن الحكومة يتسبب في الإخلال بالأمن وهز الاستقرار وذلك على خلاف المجتمعات المدنية الغربية (بريطانيا على سبيل المثال) حيث أن أقصى ما يسببه عدم الرضا العام على الدولة هو التصويت العقابي في انتخابات مجلس العموم حيث يفقد حزب المحافظين (مثلا) الأغلبية فتسقط حكومته ويصبح حزب العمال أغلبية فيشكل الحكومة الجديدة ببرنامج حكومي جديد.

إن المدخل لتحقيق استقرار العراق يكمن في تحقيق إصلاحات سياسية واقتصادية عن طريق عملية متعددة الأطراف وشفافية يكون فيها للأمم المتحدة، الدور القيادي والأمم المتحدة مدعوة لإضفاء طابع شرعي في إعادة بناء العراق فالطموح البروميثي الأمريكي الذي يتمثل بمنحة الديمقراطية للعراق اثبت انه عملية معقدة حتى بالنسبة لدولة عظمى وكان على الأمم المتحدة واجب تزويد العراقيين بالخبرات التي يحتاجونها في صياغة دستورهم الدائم وتنظيم عملية تسجيل الناخبين وتنظيم الانتخابات وإجراء تعداد سكاني وطني واستفتاء شعبي وهو ما لم تقم به الأمم المتحدة على أي نحو فعال وقد ذهبت مجموعة الأزمات الدولية في تقرير نشر مؤخرا إلى أن الدستور العراقي الذي جرت صياغته على عجل زاد من حدة الخلافات بين مختلف المجموعات وسيزيد من حدة الحركة المسلحة ويسرع تقسيم البلاد ورأت المجموعة أن العراق يتجه على ما يبدو إلى تقسيم بحكم الأمر الواقع وحرب أهلية على نطاق واسع إذا لم تقم الولايات المتحدة برعاية تسوية حقيقة بين الشيعة والأكراد والسنة.

ومن هنا ما الذي يمكن للأمم المتحدة ممثلة الشرعية الدولية تقديمه للبلاد؟ صحيح أن قرار مجلس الأمن رقم 1511 لم يحقق أي شيء يذكر لدعم شرعية وسلطات مجلس الحكم الانتقالي أو لنقل السلطة أو تحديد برنامج زمني واقعي للعملية الدستورية وهي المراحل المهمة لتدعيم الاستقرار في الفترة الحرجة من تاريخ العراق المعاصر، فإن قراره المرقم 1546ـ2004 كان أكثر إيجابية فأقره من خلال تشكيل حكومة ذات سيادة للعراق تتولى كامل المسؤولية والسلطة بحلول 30 حزيران 2004 لحكم العراق مع الامتناع عن اتخاذ أية إجراءات تؤثر على مصير العراق فيما يتجاوز الفترة المؤقتة المحدودة إلى أن تتولى حكومة انتقالية منتخبة مقاليد الحكم وذلك وفقا للجدول الزمني المقر للانتقال السياسي للعراق إلى الحكم الديمقراطي الوارد في الفقرة (4) من القرار والذي ينتهي بإجراء انتخابات ديمقراطية مباشرة بحلول 31 كانون الأول 2004 إذا أمكن أو في موعد لا يتجاوز بأي حال من الأحوال 31 كانون الثاني 2005 لتشكيل جمعية وطنية انتقالية تتولى جملة مسؤوليات منها: تشكيل حكومة انتقالية للعراق وصياغة دستور دائم تمهيدا لقيام حكومة منتخبة انتخابا دستوريا بحلول 31 كانون الأول 2005، وعلى الرغم من النجاح في هذه الخطوات إلا أنه سيكون من قبيل الخيال المراهنة على الأمم المتحدة في الوقت الذي تئن فيه تحت وطأة الفساد الإداري والحاجة للإصلاح والتهميش من قبل الولايات المتحدة ولا أقول من أن نلاحظ أنه على الرغم من اقتراب موعد الاستفتاء الشعبي فقد تأخر طبع الدستور وتوزيعه على أبناء الشعب العراقي وهي المهمة التي أشيع أن الأمم المتحدة ستتكفل بها في وقت يتلاءم مع موعد الاستفتاء.

 استراتيجية تكاملية على أرضية الوحدة الوطنية

يتضح من جميع ما تقدم أننا نستطيع تحديد تعريف محدد للاستقرار السياسي عبر مقاربة العناصر الثلاث التي حددناها ومن ثم فإن دولة الاستقرار السياسي في العراق يمكن تحديدها بدولة الأمن الوطني أي: الدولة التي يتحقق فيها حالة غياب المخاطر عن حياة المجتمع وكيان الدولة واستمرار التنمية والاستقرار في سياق الشرعية. وإن جميع العناصر المذكورة في هذا التعريف: الأمن، التنمية، الشرعية تمثل شروطا موضوعية سابقة لبعضها كما تدخل هذه العناصر في جدلية العلاقة التي ينجم عن مخرجاتها في النهاية ما ندعوه بالاستقرار السياسي. ثالوث الأمن والتنمية والشرعية هو الطريق المتكامل لهندسة استراتيجية لدولة الاستقرار السياسي ولحم أضلاع هذا المثلث تكون بإعادة تأكيد السياسة والثقافة المرتبطة بالمواطنة في سياق رؤية ترفع عراقية العراق فوق كل توجه طائفي أو عرقي أو مصلحي فاستقرار العراق لا يمر من خلال ثالوث الشيعة، السنة، الأكراد، بل من خلال ثالوث الأمن، التنمية، الشرعية، عن طريق الوعي بأهمية خلق هوية عراقية جديدة وقوية وإحساس بمواطنة مشتركة وهو ما يتطلب مرحليا على الأقل، حكومة ذات بصيرة قوية وخيال سياسي عميق لتعبر بنا جحيم العنف والفوضى عبر مطهر الفترة الانتقالية إلى فردوس الاستقرار الموعود، حكومة ذات تقدير سليم للحدود والقوى التي تشكل الحاضر والميراث الكامل للماضي، لذا فإن المصالحة الوطنية التي تهيئ أرضية انطلاق دولة الاستقرار لا يمكن أن تنال النجاح دون تأسيسها على المصالحة التاريخية مع تراثنا الرافديني العظيم.

من المصالحة التاريخية إلى المصالحة الوطنية

ونقصد بالمصالحة التاريخية: الانفتاح على الاحتياط الحضاري العراقي وتجنب معاملة بعض أجزائه على أنها غريبة عن العقل العراقي بما يتضمنه ذلك من عنصري التفاعل والتعايش قوام الوحدة التاريخية لأرض حضارة ما بين النهرين والوحدة الوطنية للعراق المعاصر: لم يكن تاريخنا يوما، تاريخ إلغاء الآخر، ولم تقم منظومتنا الفكرية والعقيدية أبدا على محق الآخر وإحلال ارديتنا على جسمه؟ كما نقصد أيضا بالمصالحة التاريخية الجهد الواعي للاحتفاظ بصورة العراق التاريخي الذي ينبغي على مشروع الدولة أن يراعيه كما يتضمن الجهد الموضوعي للانفتاح النقدي الإبداعي على الآخر وهو مما يؤسس لبناء وولادة الدولة العراقية الجديدة على أسس تضع المواطنة الصالحة والكفاءة والنزاهة في قلب الحراك الاجتماعي لبناء الهوية العراقية وهو ما يتطلب من النخب السياسية جهودا استثنائية وتأسيسية تنبني على إجماع على صياغة عقد اجتماعي على تربة المشترك الإنساني وهو ما لا يتفق مع التجزيئية أو التقليصية للذات العراقية باتخاذ المحاصصة الطائفية والقومية والفئوية والعائلية كمرجعية للانطلاق بالمشروع السياسي للعراق المعاصر.فالاستقرار السياسي في المصلحة النهائية ما هو إلا نتيجة منطقية لتصالح العراق مع تاريخه وهويته ومحيطه الحضاري وتعامله الإيجابي مع بيئته الإقليمية والدولية.

*مدير مركز المشرق للدراسات الاستراتيجية.

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا