الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

ردك على هذا الموضوع

من حاضر التطرف إلى مستقبل الاعتدال

صادق جواد سليمان*

يمكن أن يُستقرأ من العنوان أن حاضرنا مشحون بالتطرف، لكن، كسياق طبيعي، كل تطرف ينتهي إلى اعتدال، في هذا الاستقراء ركون إلى تلقائية الصيرورة من التطرف إلى الاعتدال، في هذا الاستقراء تعلق بأمل دون أن نبادر إلى عمل، أخيرا، يمكن أن يُستقرأ من العنوان أن حاضرنا مشحون بالتطرف، لكن ذلك يترتب عليه أن نعمل في اتجاه نبذ التطرف وانتهاج الاعتدال.

أنا مع هذا الاستقراء الأخير القائل بأن لا غنىً عن عمل جاد حثيث لأجل إزالة التطرف وإرساء الخطاب العالمي والخطاب الوطني معا على نهج الاعتدال. ذلك أن ليس من طبع التطرف أن يزول تلقاء نفسه، كما أنه لا يزول بمجرد أن نتمنى زواله إنه، عكس ذلك، يولد تطرفا مقابلا، وعند ذلك يغذي كل منهما الآخر ضمن حلقة مفرغة. عديدة هي الحالات في التاريخ، قديما وحديثا، تنبئ أنه عندما يترك التطرف في التعامل البشري دون صد، فإنه هكذا يتفاقم ويستفحل حتى يسري للوسط فيفتك به.

ما معنى التطرف، وأين نرصده؟ مع أن التطرف، كمسلك بشري غير حميد، نرصده في سلوك الأفراد والأمم عبر العالم، ممارسا ما بين الدول وما بين الديانات، ما بين الفئات ضمن الدولة الواحدة، وما بين المذاهب ضمن الدين الواحد، إلا أن تناولي للتطرف في هذا الحديث سيتناول في نسق ما نرصد منه في الواقع العربي الإسلامي بوجه عام، من منطلق أن استصلاح النفس مقدم على استصلاح غيرنا، بل أن استصلاح الغير لا يحمل مصداقية ولا ينشأ تكليفاً ما لم يقترن باستصلاح النفس كتكليف أول وأساس.

ابتداء سوف أعرف مصطلح التطرف، ومصطلحات مماثلة للتطرف في الدلالة، كالغلو والإفراط والتعصب. من المهم أن نتعرف على هذه المصطلحات ومدلولاتها كما هي في أدبيات الثقافة العربية الإسلامية، فذلك، أدعى لفهمنا مضامينها على نحو أعمق، ولمسنا لتأثيراتها في حياتنا على نحو أدق، بعد ذلك سوف أشخص مصادر التطرف، وما شابه التطرف، في الواقع العربي الإسلامي المعاش. أخيرا سأعرض لرؤيتي حول انتهاج الوسطية والاعتدال.

التطرف من الطرَف، والطرَف هو آخر الشيء، أكان من عاليه أو سافله أو جوانبه، كما في الآية: {أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها}... الدلالة هنا أن التناقص قد يبدأ من الأطراف، كما مثلا في التصحر. وقد يحدث التناقص هكذا في غير الأرض، كما في جسم حيوان عندما ينشأ مرض في طرف منه ثم يسري إلى الأعضاء الحيوية في وسط الجسم، فينهار الجسم كله.

التطرف، في النسق السياسي- الاجتماعي الذي نحن بصدده، يعني أخذ طرف محدد من قضية ما دون الاحتفاء بالقضية ككل، المتطرف من موقعه لا يستوعب القضية بكليتها، لذا لا يُعنى بها ككل. رؤيته مبتورة وهمه مختزل، وهو إذ يتصرف من هكذا رؤيةٍ ووهمٍ محدودين يغفل عما للقضية من أبعاد متشعبة واعتبارات شتى تستدعي أخذها مجتمعة بشكل موضوعي ومتوازن كي تتكامل المعالجة فلا يأتي الحل المنشود منقوصا ولا مُفرّطا في القضية من أي جانب هام.

الشيء يعرف بضده، ومن أضداد التطرف التوسطُ، أو الوسطية، الوسطية تعني التمحور وعياً في وسط القضية، حيث الرؤية عريضة، والفهم شامل، والواقع ملموس من مختلف أبعاده، وحيث الاهتمام بالقضية لا يأتي منصبا على جانب محدد منها مع إهمال جوانب أخرى هي الأهم.

الوسطية مفهوم قرآني يجدر ذكره، خاطب القرآن الأمة المسلمة الناهضة بقوله: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا... المعنى الموسَع هنا: بما بُصرتم به من رشدٍ واستقامة، وما عُلمتم من مبادئ صلاحٍ وقيمِ بناء، أصبحتم مستوعبين الشأن البشري عامة وصرتم على بينة من أسباب نهوض الأمم وارتكاسها، وبذلك أضحت لكم أهليةُ أن تشهدوا على سائرالأمم مدى التزامها بتلكم المبادئ والقيم، حثها عليها، وتنبيهها بالقصور إذا ما وقع منها قصور، طبعا لم تعد للأمة العربية أهلية هذا الدور الوسطيِّ في عصرنا، فهي، كما تعلمون جيدا، في نفسها قد ابتلت بأشد القصور.

في موقع آخر يصف القرآن شخصا أكثر عدالة بين قومه بأوسط قومه، يأتي المعنى في سياق قصة: أن قوما من قلة ثرية وكثرة فقيرة تعاونوا على استصلاح أرض وزرعها على أن يتقاسموا محصولها بالتساوي، قام الفقراء بجل الجهد في الحرث والزرع، لكن الأثرياء بيتوا غدرا، حين الحصاد، على غفلة من الفقراء، سارعوا لينهبوا المحصول كله، لكنهم وجدوا المزرعة خاوية قد أتلفتها ريح عاصف. فتحسروا وندموا على ما بيتوا من ظلم، هنا يروي القرآن: {قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون (لولا تمجدون الله فتعدلون)* قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين* فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون* قالوا ياويلنا إنا كنا طاغين* عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون}.

كما التضاد بين التطرف والتوسط، كذلك التضاد بين المغالاة والاعتدال، المغالاة هي المبالغة في قضية ما لدرجة إفقاد المغالي مصداقيته، فلا يعاد يعتد بقوله، وإفقاد القضية اعتبارها، فلا يعاد يلتفت لها بجد وإن كانت لها جدارة، المغالي، بذلك، يضر القضية من حيث يريد نفعها، وينفر الناس عنها من حيث يريد استمالتهم لها. لاحظ الإمام علي (ع) ظاهرة الغلو هذه فيمن أفرط في حبه من الناس وفيمن أفرط في بغضه، فقال بحكمته المعهودة: هلك فيّ رجلان: محب غال (مغالي) ومبغض قال (هاجر). وجاء القرآن الكريم ينهى عن الغلو في الدين في خطاب لأهل الكتاب: {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل}، أذكر أنني عندما استشهدت بهذه الآية في مؤتمر قبل سنوات، للتدليل على أن القرآن ينهى عن الغلو في الدين، رد علي أحد المشاركين أن هذا خطاب موجه إلى أهل الكتاب. فرددت: نعم، ولكن المسلمينَ غيرُ مستثنين. وأضفت أن من أدب القرآن قوله: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون}، وقلت أنه لا يأتي في القرآن ندب إلى صلاح أو زجر عن فساد إلا ويكون أفُقُه الناسَ أجمعين.

أما الاعتدال، فهو التمركز في العدل وللعدل وجوه ثلاثة: إستقامة في الذات، إنصاف الآخرين، ووضع الأشياء في مواضعها، ومسلك الاعتدال لا يحيد عن قول الصدق والأداء الأمين والتقدير الموضوعي للأمور. مسلك الاعتدال هو مسلك التعقل الذي لا يستحسن قبيحا ولا يستقبح حسنا ولايستعظم صغيرا ولا يستصغر عظيما، بل أنه يعطي كل ذي حق حقه. ثم أنه لا يفتعل حجة لنيل مأرب، ولا عذرا لنكث عهد، ولا مبررا لاسقاط واجب، إنه لا يقبل بمنطق أن الغاية تبرر الوسيلة في أيما أمر أو ظرف.

إلى جانب التضاد بين التطرف والتوسط، وبين الغلو والاعتدال، هناك التضاد بين الإفراط والاقتصاد، الإفراط هو إهدار المورد عبثيا لحد الإضرار بالنفس وبالآخرين. الاقتصاد هو صيانة المورد، إنماؤه، واستهلاكه على نحو رشيد. الإفراط يحدث عن جهالة أوحماقة أو بطر، أو بتلك مجتمعة، الاقتصاد يمارس بالتبصر في الأمور، يشير القرآن إلى ذلك بقوله: ولو أنهم أقاموا التوراة والأنجيل وما أنزل إليهم من ربهم (لو أنهم ساروا على سبل الصلاح المبينة لهم وحيا) لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم (لعمهم الرخاء)، منهم أمة مقتصدة (رشيدة في مسلكها) وكثير منهم ساء ما يعملون.

أخيرا، هناك التضاد بين التعصب والصفح. التعصب هو التحزم ضد الآخر، فردا أو جماعة، بمبرر أو بدون مبرر. الصفح هو التعامل مع الآخر بسماح حتى حيث يكون الآخر قد أخطأ أو أساء، في القرآن يُدعى النبي ليعفو ويصفح، ويُذكّر بأن الله يحب المحسنين، يقول القرآن: وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق، وإن الساعة لآتية، فاصفح الصفح الجميل. وينصح الأمام علي (ع) واليه على مصر بقوله: الناس صنفان، إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، نعم، لقد لاحظ ابن خلدون أن العصبية تمكن من استجماع القوة والاستيلاء على السلطة، نعم، لا يزال هذا صحيحا حيث القبلية تتنفذ أو الطائفية تسود، أما حيث تكون المواطنة هي الإطار الجامع على صعيد التكافؤ بين المواطنين، وتكون مبادئ العدل والمساواة وكرامة الإنسان هي المرتكز والمحتكم، فإن الأمة تقرر أمرها وتدير شأنها جماعياً من خلال مؤسساتها المنتخبة من المواطنين كافة، نساء ورجالا، دون غبن أو تمييز.

أين نرصد سلبيات التطرف والغلو والإفراط والتعصب في واقعنا العربي الإسلامي المعاش؟ نرصدها منشأً لدى مَصدريْها الأكبر: خطاب الدولة في غالبه من جانب، وخطاب الدين في غالبه من الجانب الآخر: منهما معا نرصد سريان هذه السلبيات طردا في مجتمعاتتا المعاصرة.

الدولة تتطرف حينما تتحدث باسم الوطن، وبمبرر ضمان أمنه واستقراره، وهو مبرر أصيل ووجيه في حد ذاته لكنه مستغل، يُعلي الرهطُ الحاكم في الدولة همَ بقائه في الحكم على مهمة ضمان سلامة الوطن وصيانة حقوق المواطنين على أساس التكافؤ أمام القانون. مدفوعاً بنزعة الاستئثار بالسلطة والاستدامة فيها يتطرف الرهطُ الحاكم فيَسُنُ امتيازات سياسية واجتماعية ومالية بناء على نسب وولاء. بذلك يُعطَل عاملُ الكفاءة ويُجحَف باستحقاقات المواطنة المتكافئة بين الناس. بذلك أيضا يوهن الوئام الاجتماعي ويُعطَب الاقتصاد.

عندما يغدو التشبثُ بالعرش، أو بكرسي الرئاسة، الأولويةَ الأولى لدى الرهط الحاكم، فإنه وطنيا يحيد عن الوسطية والاعتدال والاقتصاد والصفح. إنه يتطرف في هم البقاء في الحكم، إنه يغلو من حيث إعلاء قدر نفسه، دونما جدارة، على قدر سائر المواطنين. إنه يُفرط ويُفرّط في الأداء والإنفاق. وإنه يتعصب ضد كل من يعترض عليه، بذلك هو يخلق تطرفاً وغلواً وإفراطاً وتعصباً مقابلا لدى المعترضين. بالنتيجة، بين الحاكم المحتكر للسلطة، والخصم المحاول انتزاع السلطة منه بالعنف، تُهدر المصالح، تُبعثر الإمكانات، تُهمش المبادئ والقيم، وتُسام الأمة خسفاً في طموحها الحضاري.

المصدر الآخر للتطرف والغلو والإفراط والتعصب هو الخطاب الديني في غالبه، التطرف في غالب الخطاب الديني مسموع ومقروء، أصحاب هذا الخطاب قلما يرون جدارة للاجتهاد الإنساني في مجال تنظيم الشأن البشري وترشيده خارج ما ينظّرون ويعرضون حسب فهمهم للدين، إنهم يكادون لا يرون الأفق الجامع بين البشر بحكم الفطرة التي فطر الله الناسَ عليها أجمعين. إنهم لا يستوعبون، أو ربما يتجاهلون، أن الحال الجامع بين الناس أعمق وأعظم وأعم من الحالات المفارقة بينهم كالثقافة والدين والعرق والجنس والموطن.

من موقع التطرف ما عاد أصحاب مثل هذا الخطاب الديني يثمنون الخبرة الإنسانية المتطورة عبر الأجيال باطراد، والتي منها هم، كغيرهم من سائر الناس، مستفيدون بل وعليها معولون في أهم وأكثر احتياجات الحياة في هذا العصر. بذلك تراهم قد حادوا عن محور الوسطية الذي يفترض أن تُعنى منه الأمة المسلمة- والعرب بالأخص بصفتهم الأمة التي بعث فيها الأسلام - بالشأن البشري ككل. هذا إلى جانب كون الوسطية وحدها المؤهلة لأيما أمة بجدارة أن تشهد على سائر الأمم، ووحدها الممكنة لأيما أمة أن تسهم إسهاما مميزا في تطوير الحال الإنساني للأفضل: معرفةً ومعاشاً وتعزيزا لكرامة الإنسان واستمتاعاً بطيبات الحياة.

في الخطاب الديني في غالبه، إلى جانب التطرف، قدر من غلو وإفراط وتعصب: غلوٌ من حيث إعلاء ما يعرض في هذا الخطاب من فكرعلى ما يعرض في خطابات فكرية غيره، إعلاءً مطلقا في زعمه: إفراطٌ من حيث التركيز على صحة المقال الديني مطلقا لدرجة مطالبة إخضاع الاجتهاد الإنساني- بما في ذلك العلم المتبلور بالاجتهاد الإنساني - للتواؤم معه في جميع الأمور: تعصب من حيث التحزم المزمن ضد الآخرين، وكأننا في حرب مستديمة مع خصوم دائمين، أما استحقاقات الوسطية والاعتدال والاقتصاد والصفح، من حيث هي أضداد حماقات التطرف والغلو والإفراط والتعصب، فقليلا ما، بل نادرا ما، نلمس ندبا صادقا إليها، أو تأكيدا حقيقيا عليها، في غالب الخطاب الديني.

خطاب الدولة في غالبه، والخطاب الديني في غالبه، كلاهما، في قراءتي، مصدر قدر كبير من تطرف وغلو وإفراط وتعصب، ومنهما معا تسري هذه السببيات في واقعنا المُعاش، لذا، بنظري، كلا الخطابين يستدعي المراجعة والتقويم، بنظري أيضا، أن التقويم ينبغي أن ينطلق من منطلقات إنسانية حضارية، ومن فكر نير يعتمد في أدق وأعمق وأعم اجتهاداته المعرفة المحققة والمنطق العقلي والمعيار الخلقي في عملية تقرير وتنظيم كافة أمور هذه الحياة.

في عملية تقويم خطاب الدولة، إلى جانب تأكيد أهمية استتباب الأمن والاستقرار وبناء اليسر الاقتصادي، لابد من القول إنه إجحافٌ فاحش بحق الأمة، وهو ظلمٌ للنفس، أن يصر الرهطُ الحاكم في أوطاننا على احتكار السلطة مدى الحياة، ثم توريثها للأبناء والأحفاد، وكأن الأوطان تركة قابلة للتوريث، وكأن الأمة لا استحقاق لها في اختيار من توكل إليهم إدارة أمرها العام عن طريق انتخابات حرة شفافة.

في عملية تقويم الخطاب الديني، إلى جانب التأكيد أن الأمة الراجحة في عقلها الجماعي تثمن تراثها، تتبصر بخبراته، تستلهم حكمته، تتزود من عطاءاته، لا بد من القول أن الأمة لا ينبغي أن تعطل اجتهادها المعرفي ولا أن تقيد إمكانات الإبداع والتطوير التي أودعها الله في طياتها دون سقف. عكس ذلك، عليها أن تفعل تلك الإمكانات تفعيلا نيرا لتحيا بها حياة طيبة، لتستبق بها الخيرات، لترتقي بها صُعدا أرقى فأرقى بتنظيم دستوري سليم، بتقدم معرفي مطرد، بالتزام خلقي رصين، وبإنجاز عملي مبتكر، ولتتمكن بعطاءات كل ذلك من مساهمة بناءة متواصلة مع سائر الأمم في تحسين الحال البشري... جيلا تلو جيل. نعم، لنا أن نطمح في تجاوز التطرف إلى الوسطية، الغلو إلى الاعتدال، الإفراط إلى الاقتصاد، التعصب إلى الصفح... لكن لتحقيق ذلك لا بد من أن نسند طموحنا بعمل حضاري صائب ودائب. والله ولي التوفيق.

** سفير عربي سابق

* ندوة مركز الحوار العربي- الولايات المتحدة