|
||||
ردك على هذا الموضوع | ||||
الثقافة العراقية وآفاق التنوع |
||||
صالح زامل | ||||
العراق المتنوع تعد الثقافة العراقية أرض خصبة للتنوع، وهي وريثة التنازع القديم بين المذاهب والجماعات، بدءا من الأثنيات (أنباط، عرب، سريان، فرس) قبل دخول الإسلام للعراق إلى الخوارج في خروجهم على إجماع أهل العراق، ثم فرق الإسلاميين من معتزلة وجبرية التي كان أول شروع لها من العراق، ونجد هذا التنوع في العلوم اللغوية أيضا، وما يتبعها من مدارس مثل المدرسة الكوفية والمدرسة البصرية، وقد أسهم هذا التنوع- الذي قد يصل حد التضاد- في صياغة خطاب يخفف من حدة التوتر أمام هذا التنوع الذي يبدو ضديا، فيما بين الفرق والجماعات المختلفة، فظهرت تيارات الوسطية، والمدرسة البغدادية في النحو التي نضعها بين المدرستين الكوفية والبصرية، هذا بين المتعاطين للثقافة، أما عموم الناس؛ فكان بين التجار والصناعيين السوق والتبادل، فضلا عن التنظيمات الحرفية والأصناف، أما من هم دون هؤلاء فكانت الحياة اليومية في الزواج أو الجوار هي الوشيجة، فكانت اللحمة تترابط في هذا النسيج. كما أن الوعي الثقافي المبكر بهذا التنوع صار إلى الاعتراف به، وخفف كل هذا من حدة الصدام وإن لم يمنعه في الأحيان القليلة، وتلك ظاهرة طبيعية إذ دائما غلبت الكفة العقلانية التي ترى في هذا التنوع مظهرا صحيا، وكلما ازداد عدد المهتمين بالثقافة أو من يحسبون عليها كلما ظهر التنوع للسطح على أنه سمة حضارية يحتفى بها عند الاستحضار، كما أن الثقافة التي كانت محتكرة لطبقة أو فئة معينة صارت متاحة للكثيرين، وقد ساعد في ذلك إلى حد ما انتشار التعليم والتصنيع وإن كان بشكل متفاوت، وهذا التفاوت إنما ينطلق من ركيزة كان اللاعب فيها الاصطفاف، والانقسام الطائفي، والمناطقي، فقد أهمل على مدى عقود التعليم في أجزاء مهمة من العراق هي ذات كثافة بشرية بحيث لا تجد تناسبا بين هذه الكثافة وما كان متاحا لها، وهذا يحد بالمحصلة من عدد المتعاطين مع الثقافة في تلك الأمكنة، ويؤخر انتاج التقاليد الثقافية متجددة فيها، وان كان لا يمنع أن يظهر فيها من المبدعين المهمين، ولكنه يضغط على هؤلاء المتنورين والمتعلمين ويسيطر عليهم هوس المركز، ولما برزت الحاجة للمتعلمين في عقد السبعينات من القرن الماضي بات من الضروري معالجة الأمية من خلال التعليم الإلزامي، إلا أن العناية بها تراجعت بشكل ملحوظ في السنوات القريبة وتحديدا من أواسط الثمانينات، لقد أسهم انتشار التعليم في السنوات المنصرمة في رفد الثقافة بفاعلين جدد على اختلاف مستوياتهم وباتجاهات جديدة، وإن لم يكن بشكل نوعي، فماذا اضافوا؟ ثقافة داخل ثقافة خارج * إن التنوع/ الانقسام السابق الذي حددناه لم يترك لطبيعته التي يتغذى منها وهي موزائيك التنوع الذي تفرضه الحياة، وإنما ظل يؤدلج في العقود الحديثة في تاريخ العراق القريب لكي يأخذ طابع الانقسام على أنه لا يلغي عراقية أحد الطرفين، ولكنه يصادره عندما يكون الإلغاء أحيانا من خلف المتاريس، مثلما شهدت حقب مثل الستينات أو السبعينات وما تلاها ليومنا هذا، محاولات متنوعة في كل مرة لإشهار ثقافة باتجاه واحد، ثقافة الذي يمتلك زمام السلطة، وآخر ينحّى بعيدا ليس عنها وحسب، ولكن يغيب ثقافيا أيضا بقسرية يشهد عليها العنف والدموية التي عولجت بها انتفاضات العراقيين وتغيب طقوسهم، فالانقسام لم يكن منشغلا بعد ذلك بثقافة شعبية وفلكلورية وأخرى حداثوية مثلا، بل كانت الثقافة تحت ضغط الايديولوجيا تتوجه نحو الشعبية واليومي، ومثالها الكتابة باللهجة الدارجة التي حرص الكثير من الكتاب تقديمها في الستينات في أوج الشعبوية، ومنهم شعراء مهمون في كتابة الشعر الحر. لقد كرس التغييب والإلغاء بعد ذلك عراقيين في الداخل وآخرين في الخارج، وهم أما عاطل الفعل وكان مغيبا إن كان في الداخل، أو كان متحركا تحت ظروف أخرى تتشكل في المنفى وتطرح نمطا عراقيا للثقافة في فسحة من الحرية، فضلا عن اغتناء بالتجارب العالمية من خلال المجاورة لتلك التجارب، أو الولوج في موضوعات كان من المستحيل فتحها في داخل الوطن بشكل علني آنذاك، كقضايا مثل الديمقراطية، وتداول السلطة، والحريات العامة، والمجتمع المدني، والطائفية والعرقيات، أو إبداع ينتقد السلطة ويدينها ويشير بإصبع الاتهام إلى ما جرته على البلاد من الخراب واستعباد العباد، الانقسام هنا أيضا كرس وجهة من الفاعلية نلمسها في الداخل بالسلبية التي ووجهت بها السلطة الكارثية عندما تركت لمصيرها قبل التاسع من نيسان في نزيف من هجرة المثقفين إلى بلاد مجاورة للعراق كسوريا والأردن، لقد ساعد الخروج من العراق على إنتاج نخبة جديدة تحاول التنظير في القضايا المختلفة ومنها الشأن العراقي، لذلك نلحظ غزارة الكتابات الفكرية والدراسات السياسية التي تحاول أن تنظر للعراق ليس بعين الشاعر كما كان ولكن بعين الناقد والمحلل، لقد ألهم البعد عن العراق انشغالا مهموما بالعراق وطنا، وكيف يجب أن يكون الآتي. وهنا يجب أن ينظر لهذه الثقافة على أنها مجال من مجالات التقليد والأخذ، وذلك أن ثقافة أي شعب إنما هي أمر متوارث على مر العصور، صالح للتبديل والتحويل قدر ما يتغير العرف والفكر، فإذا ما عرض لثقافة من الثقافات من المؤثرات ما هو صالح لأن يبدلها أو يعدلها، كان ما يلحقها من تبديل أو تعديل دليل حيوية ومرونة، لا يكون دليلا على خسة وركود. وبعد فهل يكون نسيج الثقافة العراقية في الخارج والداخل وهي بهذا الحجم من الانشغال بهم عراقي تصنف بأنها دون أو فوق أو هربية؟ إن هذه الثقافة (العراقية) سواء وجدت داخل العراق أو خارجه، إنما هي جزء من نسيجه لكنها محكومة بظروف متفاوتة بالتنوع هي نفسها قد تكون في الداخل، إذ ستظل تهيمن موضوعة مثل الاغتراب والإحباط على المثقف في المكانين، وهي من جانب آخر ثقافة عراقية تبحث عن قارئ عراقي في أول همومها أو وهي تنشغل بهم عراقي لافت في كتاباتها. إن من بين الاتجاهين السابقين نستطيع أن نميز قطاعا من الثقافة والمثقفين المهمشين لا يمكن تناسيه في هذا الموضع، وهو قطاع حرصت السلطة وضدها على دفعه بعيدا إلى الظل، لأن خطابه لا يخدم مصالحها إن لم يكن بالضد منها وهو بالرغم من سلبيته يمثل معارضة. الثقافة وشراء الذمم هل تكون الثقافة بعد ذلك متهمة بتكريس الانقسام الايديولوجي ويشار لها كلها بالتواطؤ مع الدكتاتورية؟ يعتقد البعض بأن الثقافة، وصمت المثقفين وهرب الآخر، أسهم بشكل فاعل في خلق الدكتاتور، وما تسمى بقادسية صدام وأم المعارك شواهد صارخة على إدانة المثقف الذي ظل يزين المأساة، ويلمع صورة الدكتاتور على حساب أشلاء الضحايا التي كانت قرابين من الذبح الذي قدمته الثقافة في قطاع كبير منها على أنه شهادة ونصر، يبتنى على ذل وخوف العراقيين والعراقيات البسطاء، كما تبرع- في الأمس واليوم- بعض المثقفين بالدم العراقي بحجة الدفاع عن البوابة الشرقية أو جهاد الأمريكان، هذه الجريمة لم تكن مقصورة على المثقف العراقي بل تتعداها إلى المثقف العربي الذي لا يعذر، إذا كان المثقف العراقي يدعي الخوف من السلطان أو الحاجة للمال، فالمثقف العربي ليس من حقه أن يبخس العراقيين حقهم بالحياة ليكرس الحاجة لان تموت الضحية العراقية لتنهض عنقاء الدكتاتور. لقد ظلت أموال الشعب العراقي لقمة سائغة للذمم التي اشترتها الدكتاتورية من صحفيين وكتاب عرب وأجانب، وهذا الاتهام صحيح في أحد وجوهه لكنه تجني عندما ينسى أن وجود صدام واستمراره كان مرتبطا بعوامل مختلفة لا تقف عند المثقف وحده وإنما يمتد إلى جملة أمور لعل من أهمها: 1- السبعينات التي يذكرها الكثير من العراقيين على أنها سنوات خير ورخاء مالي مرتبطة بارتفاع أسعار النفط التي وصلت أقصاها، فوفّرت سيولة أفادت منها السلطة في الإنفاق على خلق قاعدة اجتماعية للنظام، وهي سنوات برغم مأساويتها حيث كان يجزر فيها الألوف من العراقيين في السجون أو في جبهات الحرب فيما بعد مع إيران، التي ستفرخ فيما بعد العنف الصارخ وتظهر أقسى صوره، فيما يعرضه التلفاز من أشلاء الإنسان في الحرب على أنها انتصار (صور من المعركة بعد نشرة الأخبار الأولى لها موعد ثابت مساء) وصور احتفاء (الرئيس) على شاشة التلفاز بـ (أب) يقتل (ابنه) لأنه هارب من الجيش، ويكرمه على أنه مثال الأبوة والإخلاص للوطن، ونجدها تتسرب فيما بعد في القسوة في السلوك الآن. 2- الدعم الذي كان يحظى به النظام سواء كان عالميا أو عربيا، وهو مرتبط بمصالح يمثلها كونه سوقا لترويج الكثير من الأسلحة والآليات إلى المأكل والملبس المستورد، فضلا عن التقاطع في المصالح الذي يمثله اقتراب السلطة مع مشاريع دول الجوار ودول أخر في مصالح كثيرة خاصة فيما تمثله الحرب العراقية الإيرانية. 3- القوة العسكرية والمؤسسات الأمنية، المزودة بأحدث الأجهزة في مجال الملاحقة والاستجواب والتصفية، التي سخرها النظام ضد شعبه، وهذه طالت ليس داخل العراق وحده، وإنما لديها تسهيلات لدى دول أخرى؛ فسفارات العراق، ومنظمات السلطة المهنية في الخارج (كالاتحاد الوطني لطلبة العراق وغيره)، كانت تملك أدوات تعذيب وسجون داخل بناياتها كما كشف عن ذلك مؤخرا. الرهان على لبننة العراق تأسيسا على التنوع والاحتراب السابق يمر العراق منذ 9 / نيسان وسقوط صدام بشعارات طارئة ومخاوف حرب أهلية يهلل لها الكثير من دول الجوار، لذا يطلع علينا أحد المراقبين للحدث العراقي من العروبيين بقوله (إن العراق يجر للتلبنن ولبنان يتعرق)، وهذه الدعاوى تنسى أن نسيج العراق بالرغم من تنوعه، الذي يتبدى للرائي من خارجه بأنه يكرس الضدية، في حين هو يمثل نسيجا بلحمة واحدة، وتتبدى مظاهرها في عدم الانجرار للحرب الأهلية مع وجود فراغ مؤهل لها، كالتحديات المباشرة التي تواجهها طائفة معينة من العراقيين تستهدف من قبل عمليات الإرهاب بكل بشاعة، كمجزرة الحلة، والموصل، وقبلها كربلاء والنجف وبغداد، إذ نلاحظ عقلانية وحكمة متناهية تمثلها عدم الانجرار للرد بالمثل، مع سهولة ورعونة هذا الانجرار، إذ أن الإشكال الذي يقف مصدا لهذا الانجرار وراء لبننة العراق هو هاجس عراقي واعٍ يمتد لقرون طويلة يقف وعلى خلفيته الحاجة إلى العراق الواحد بنسيجه المتداخل؛ في الأعراق عربي وكردي وتركماني وكلدوآشوري، وفي الديانات مسلم ومسيحي وايزيدي وصابئي وفي المذاهب الإسلامية شيعي وسني، إنه نسيج غير منفصل عن عمقه الذي يمتد لحضارات قبل الميلاد، فهنا صنع الإنسان كل شيء. |
||||
|
||||
|