الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

ردك على هذا الموضوع

(سينما)

تاريخ و شخوص وأسئلة

في السينما الألمانية...

والعراقية أين هي؟!

مجلة النبأ: برلين/ ع.خ

السينما الألمانية وأسئلة التاريخ

يخطر لمتابع السينما الألمانية سيطرة (العصر النازي) على همومها وقضاياها، وكأن هذه السينما تحاول أن تجيب ألف مرة عن السؤال الذي دار حوله الفكر والأدب والفن الألماني بعد الحرب العالمية الثانية، وهو السؤال الصعب (كيف كانت جرائم الرايخ الثالث ممكنة ؟)، في السينما الأجوبة ليست ذات وجوه كما في الأدب، إنما الوجه المتعارف عليه (وجه جانوس) الضاحك أو الباكي، وأحيانا كلاهما معاً... ولكن من الظلم حقا محاولة تصوير السينما الألمانية وكأنها تعيش عقدة ذلك العصر، على الرغم من كثرة تناوله في السنوات الأخيرة. لقد قدمت هذه السينما بين حين وآخر وأحيانا دفعة واحدة أفلاما تحمل دوما خلفها وعيا سياسيا أو فكريا واجتماعيا وبطريقة فنية ناجحة حسب تقدير نقاد السينما، وآخرها مثلا فيلم (باي باي لينين) و(مارتن لوثر) وفيلم (السنوات السمينة قد مضت)، هذا إذا لم نضع في الاعتبار أفلام الأكشن والرعب التي تقلد فيها هذه السينما الأفلام الهوليودية في موضوعاتها وأشكالها.

بالنسبة للعصر النازي وعالم السينما الألمانية، لقد ظهرت في الأعوام 2004 - 2005 وبعد الضجة التي أثارها فيلم (السقوط) الذي تناول حياة هتلر (1) أفلام جديدة تتناول مرحلة النازية ولكن ليس عالم الجنرالات إنما عالم الشباب والمراهقة والمعارضة الشبابية في ذلك الزمن. الفلم الأول كان (نابولا، شباب للقائد) (2) والفلم الثاني (صوفيا شول، اللحظات الأخيرة) كلا الفلمين حاول أن يجيب على السؤال الصعب، الأول عبر الصدمة والثاني عبر جرعة الموت. ولكن هل جاءت الأجوبة المستحيلة هذه المرة من عالم الفتيان والصبايا؟ الأول قصة شاب طموح في زمن الوجود فيه للأقوى والأشرس، والثاني قصة شابة ترفع زهرة بيضاء في عصر الدم وتنتهي بالمقصلة. الأول قصة، ليس بالضرورة أن تكون أحداثها من الواقع، لكنها تصور واقعا مأساويا عاشته الأجيال الشابة في زمن هتلر، والثاني قصة حقيقية من ملفات البوليس السري، صوفي شول وهانس شول وحركة (الزهرة البيضاء) الحركة التي أزعجت ذات يوم مضاجع رجال الأمن والمخابرات في الزمن النازي، الأول لن نتطرق له، فقد نجح صنّاعه في تقديم صورة عن شباب ذلك العصر دون مبالغة أو تهويل للمعاناة أو للشخصيات، أما الثاني (صوفي شول الأيام الأخيرة) فسيكون مادة قراءتنا لوجود بعض الإشكاليات التاريخية التي تستحق الوقوف.

صوفي شول، بلا كدمات زرقاء

فيلم صوفي شول الأيام الأخيرة، قصة صوفي، الشابة الجامعية، إحدى أعضاء حركة (الزهرة البيضاء) المعارضة للحزب النازي، تلك الحركة التي تحولت مع أعضائها إلى رمز من رموز النضال السلمي ضد الدكتاتورية، والتي انتهى أمر أعضائها بالإعدام ومنهم صوفي وأخوها هانس. الفيلم يتناول (حركة الزهرة البيضاء) بصورة سريعة، ويرتكز مدخله على صوفي وهانس، اللذين يلقى القبض عليهما وهما يرميان منشورات الحركة في جامعة ميونخ، بعد الاعتقال يصور الفيلم اللحظات الأخيرة لصوفي شول، من التحقيق، إلى المحكمة، ثم انطفاء الأضواء على وجهها تحت المقصلة.

الفيلم يسرق المتفرج معه ويشده إلى ذلك العالم ويلعب بأنفاسه فتصعد وتهبط ويغضب ويشعر بفورة في داخله، يحزن، يفتخر... مع الأداء المتميز للممثلة الشابة يوليا نتش، وهي تقدم صوفي شول وكأنها قديسة قوة وضعف، إخراج مشوق منذ الدقائق الأولى، لقطات مثيرة وحوارات رائعة... في المحكمة مثلاً تقول صوفي للقاضي الذي حكم عليها بالإعدام وهي شبه خائفة ومضطربة وبجراءة يقرأها المتفرج على ملامح وجهها (سيأتي اليوم الذي تقف فيه في مكاني هذا) وتقصد طبعا قفص الاتهام، ومع منظر سريع لوجه القاضي المندهش والجنرالات قبالته في القاعة وهم لا يصدقون ما يسمعون، يعلن القاضي التحية الهتلرية فتهتز القاعة بصوت واحد جماعي (هاي هتلر)، وغيرها الكثير، وهنا أين مشكلة التاريخ مع فيلم مشوق مثل هذا؟ المشكلة هي وجود ملامح غير دقيقة أضعفت جانبا مهما في الفيلم وهو جانب المصداقية التاريخية، وهذا الجانب مهم جدا بما أن الفيلم تاريخي توثيقي يدور حول واقعة وحوادث وشخوص حقيقية. واحدة من نقاط الضعف هذه، كما نتصورها، هي حالة المبالغة الواضحة التي أطرت شخصية صوفي بحيث جعلتها أحيانا تكاد أن تكون غير واقعية مطلقا، ومنها تصوير صوفي ذات العمر العشريني وكأنها امرأة ذات تجارب جمة وبخبرة الثعالب، تلعب بعقل المحقق وتأثر فيه بحيث يتعاطف معها ويتأثر بأفكارها، فيجلس أمامها وكأنه مجرد تلميذ، وهي تردد بين حين وآخر (هتلر والنازية المدمرة)، متناسيا صانع الفيلم نوعية البشر الذين يصلون لدرجة محقق في دكتاتورية مثل النازية، ومتناسيا أيضا رد فعل المحقق عندما يسب أمامه شخص هتلر!. وقد يتجاوز المرء مثل هكذا هفوة، ويعتبرها (ربما) من الشواذ التي قد تحدث، ولكن الحلقة الغامضة التي تعيق تجاوز هذه الهفوة هي (الوثائق) التي اعتمدها الفيلم، هذه الوثائق التي عثر عليها في عام 1991 في أرشيف ألمانيا الشرقية، وفيها الشكل الرسمي للتحقيق الكامل مع صوفي شول، فماذا قدمت هذه الوثائق؟ يقف المتفرج أمام حالة غريبة قبالة كل ما دار في المعتقل، هل حقا كان هذا هو المعتقل في الزمن النازي؟ المحقق يتحدث مع صوفي بصيغة (حضرتك) وهي صيغة الكلام مع الغرباء أو الأكبر سناً وأحيانا للدلالة على الاحترام في اللغة الألمانية المقاربة (لحضرتك) في اللغة العربية، فلا كلمات نابية ولا ركلات وإهانة ولا هم يحزنون، هذه الوثائق التي اعتمد على جزء كبير منها الكاتب، فريد براينرسدورفر، في كتابة كتابه (صوفي شول الأيام الأخيرة) الذي اعتمده الفيلم، هل كانت حقا في خدمة الحقيقة التاريخية ومصداقية فيلم سينمائي؟ لم تتعرض صوفيا شول لصفعة واحدة ولا لكلمة نابية. فهل كان البوليس النازي يتعامل مع المعتقلين بطريقة (الدليل والمتهم بريء حتى تثبت إدانته)؟ هذا ما لم يدونه التاريخ، الذي دون لنا صورا عن القتل بالشبهة في هذا الزمن، وعن الجثث المطمورة في السجون والمعسكرات وعن 40 مليون ضحية.

إن الاعتماد الكبير على (وثائق التحقيق الرسمية) وكأنها حقيقة كاملة كانت واحدة من أكثر الأخطاء التي شوهت فيلم (الأيام الأخيرة)، لقد تناسى أو نسى الكاتب فريد والمخرج مارك روتموند وبقية صناع الفيلم إن وثائق التحقيق قد كُتبت بأيد نازية! وبأيدي من؟ رجال البوليس السري! فهل من المعقول أن نجد فيها عدد الصفعات والصدمات الكهربائية التي حصلت عليها صوفي أو عدد الكدمات الزرقاء على جسدها؟. في الفيلم الذي يستمر 110 دقيقة لم يسمع سوى مرة واحدة صوت صراخ خارج زنزانة صوفي يدل على التعذيب! ورغم هذا، يمكن الاحتفاء حقيقة بالممثلة يوليا نتش، التي لعبت دور صوفي بجدارة حقيقية ورفعت من مستوى الفيلم بعمومه وقدمتها بشكل مقنع حتى في حالات المبالغة نفسها.

أين هي السينما العراقية؟

(نحن لا نملك سينما ولا نملك سينمائيين، ولا متفرجين حتى) أيمكننا أن نقول هذا مستعيرين بتصرف كلمة الأديب والمفكر الألماني لسنج، أحد أهم أقطاب عصر التنوير، وهو ينتقد المسرح الألماني عام 1760 (نحن لا نملك مسرحا، نحن لا نملك ممثلين، نحن لا نملك متفرجين)، أتصور يمكننا قول ذلك، والسبب هو الكسل الذي يسيطر على السينما العراقية منذ بدء تاريخها إضافة لعدم استقلالها والفعاليات الإبداعية الأخرى من سيطرة المؤسسات الحزبية والحكومية، السينما العراقية سينما مازالت حقيقية غير موجودة بالمعنى الحرفي للكلمة، فالأفلام القليلة التي أخرجتها هذه السينما تعد على أصابع اليدين والمستوى الفني لأغلب هذه الأفلام لا تحسد عليه، حتى الفيلم التاريخي المشترك (القادسية) الذي أُنتج عراقيا في عصر الدكتاتورية (كغارة حربية سينمائية ضد إيران) في زمن حرب الثماني سنوات، ورغم الأموال الكثيرة التي صرفت لإنجاحه، كان مجرد فلمً يفتقد ليس للمصداقية التاريخية فقط إنما للمصداقية الفنية أيضا.

ما جعلنا نتطرق للسينما العراقية على الرغم من تناولنا السينما الألمانية وجديدها، هو تغير الظروف العراقية ودخول عصر جديد (الاحتلال) وربما ليس بعيداً قد يأتي (الاستقلال)، العصور الجديدة مرت بها الألمانية أيضا وهي عراقيا تحمل الكثير فالسؤال الذي لم يسأله الأدب والفكر والفن العراقي (لماذا كانت جرائم زمن البعث ممكنة؟) أصبح قريبا جدا... غربلة التاريخ والكشف عن أوراق الماضي، تحليل ما مضى، قراءته وإعادة صياغته، اكتشاف صمامات أمان ضد ما مضى من سوء، البحث عن أشكال إبداعية جديدة، كلها وغيرها مراحل قادمة حتما، وربما هذا ما يجعل السينما الألمانية والإبداع الألماني عموما بعد الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم نموذجاً مهما للعراقي، فالألمانية قد أجابتْ بمختلف الأشكال والطرق على هذه الأسئلة دون تردد رغم (الشعور بالذنب) الذي رافق هذه العملية، وأشعلت أسئلة أكثر، واستطاعت أجيالها الجديدة أن تحصد ثمار ما زُرع من الأسئلة، وها هي أعمال كثيرة تتناول ذاك العصر بمختلف الأشكال الإبداعية وبعمق أكبر وبدقة أحيانا، فلم يعد هتلر مجرد رجل كوميدي ومريض وأقرب للمهرج والوحش الخرافي إنما بشر من لحم ودم كما في فيلم (السقوط) أما ألمانيا بعد الوحدة ايجابياتها وسلبياتها، وبعمق ونقد اجتماعي ودون مشاعر ساذجة تحت مسمى (الوطنية) يشرح هذا الزمن في فيلم (باي باي لينين) وغيرها في الفن والمسرح والأدب والتلفاز ما لا يعد أو يحصى، والآن، كيف سيكون شكل صدام حسين في السينما العراقية؟ مجرد مجنون، والشعب ضحية فقط؟ وحش؟ بشر؟ أحمق؟ صادق؟ ما هو شكل جاري أو جارك البعثي؟ وهل ستجد السينما أبطالا من الأرض العراقية مثل صوفي شول وهانس في ألمانيا؟ كم جيفارا عراقي وجد في زمن صدام وذبح؟ وكيف ستكون حكايات الاعتقال والسجون والتعذيب؟ حركات المعارضة التي راح فيها شباب وشباب؟ الحروب؟ انتفاضة 1991؟ الجوع والحصار؟ الهجرة شمالا وجنوبا؟ وغيرها،   السينما العراقية أمامها مشوار طويل في التاريخ، التاريخ المكتوب والمحكي والذي لم تكشف ملفاته بعد، إضافة لحاجتها الحقيقية لأوراق مستقلة عن مؤسسات السلطة والأحزاب والحركات القومية أو الدينية والعشائرية، السينما الألمانية تمرغت كألمانيا بأكملها ذات يوم في وحل كبير حتى استطاعت أن تصل إلى مرحلة يمكن معها التصفيق من القلب، وما ستأتي به السينما العراقية يوماً سيكون تحت مشرح أجيال تتوخى الدقة التاريخية والفنية وخصوصا في الأعمال التي تتناول الزمن البعثي، لأن الأجيال القادمة تنتظر سينما عراقية صادقة تقول وتقدم فناً وتكشف حقائق وتشيد مع بقية الفعاليات الإبداعية أشكال زمن مخالف، أي تضع حجر الأساس لثقافة قادمة، ثقافة غير موغلة بالدماء والكذب، ثقافة لا يسيطر عليها أفلام مثل (الأيام الطويلة) و(الحدود الملتهبة) وبقية المخجلات، وهنا، هل يمكننا أن نحلمُ بهذا؟ لقد قلنا مازلنا لا نستطيع أن نتكلم بحق عن سينما عراقية، ولكننا على الأقل نستطيع أن نحلم بها.


الهوامش:

1- في العدد 73 من مجلة النبأ نشر عرضا تحليليا كاملا عن فيلم السقوط.

2- نابولا، هو اسم لمدارس نموذجية خاصة في زمن هتلر لإعداد الشباب المتميزين كي يكونوا فيما بعد من رجال الدولة والحزب والجيش، وقصة الفيلم تدور حول إحدى هذه المدارس وحياة الشباب داخل جدران المدرسة المغلقة.