الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

ردك على هذا الموضوع

إنطفاء السياسة

أزمة أحزاب أم أزمة الفكر السياسي العربي؟

د. كريم أبو حلاوة

 

لم ينقطع التبشير السياسي بعام أفضل عن التوالد رغم كل الهزائم والاجهاضات التي واجهها العرب منذ أن بدأت الحضارة العربية الإسلامية بالأفول وهجر العقل الفعال بيئته العربية ليباشر عطاءاته في فضاء الحضارة الغربية. فالنظريات السياسية والايديولوجيات الكبرى على اختلاف ألوانها ومسمياتها - القومية - الدينية - الماركسية - الليبرالية - كانت تبشر معتنقيها بالمعنى الديني أو بالمعنى العقائدي للإيمان، بأوضاع أفضل.

وتقدم لهم الوصفات الجاهزة والوعود الخلاصية بالفردوس الأرضي أو السماوي شريطة الامتثال لتعاليمها وتبني مواقفها، إلا أن الواقع المعاند بقي، في الماضي كما في الحاضر، أقوى نقض وانصع نفي لتلك الآمال والوعود، وبعد أن اعتقد الكثيرون أن هزيمة تيار أو نظرية أو اتجاه فكري هو انتصار لأعدائه الأيديولوجيين، اكتشف الجميع أنهم مهزومون وأن ظلال الأزمة ومفاعيلها تطالهم مجتمعين!

وإذا كانت ظاهرة التقزم السياسي تشير بتعابير محمد جابر الأنصاري إلى جسم الأمة العملاق وطاقاتها الهائلة برأس سياسي في منتهى الصغر، فإن السؤال الراهن هو: هل يرهص العالم العربي بحراك سياسي يستند إلى مكونات تنمية سياسية تعد بأسلوبية مغايرة لتنظيم الخلافات في إطار تعددي؟ أم أن الفكر السياسي العربي ومعه الأحزاب العربية على اختلاف ألوان الطيف الذي تشغله، ما تزال تتفاعل تحت وطأة الأزمة السياسية بتعدد أسبابها ومسمياتها؟

قبل توصيف مظاهر الأزمة التي تعيشها الأحزاب العربية يبدو مفيداً القول بأن الخلاف لا يدور كما يعتقد حول الشعارات والأهداف المعلنة، بل يدور حول أولوياتها وربما حول التعارض الذي يمكن أن ينجم عن التفسيرات المختلفة لهذه الأهداف، وآية ذلك أن صلاحية المبدأ - وهو هنا الإسلام، الديمقراطية، وحدة الأمة، العدالة، الدولة الوطنية - لا تكفل حسن تطبيقه كما يوضح ماكس فيبر. ويكفي أن نلقي نظرة تحليلية مقارنة لنكتشف الفروق والتمايزات وربما التناقضات التي فصلت بين المبادئ وتطبيقاتها، فالمشروع الثقافي والحضاري العربي بعناوينه الكبرى كالتقدم والحداثة والتحرر والتنمية مازال يشهد على مآلات هذه الأفكار التي تتأرجح بين التعثر والتراجع أو بين الفشل والإخفاق، ثم لنرى كيف تؤول شعارات الأحزاب التي تصبو إلى تحرير البشرية كلها إلى قوالب أيديولوجية وأحزاب تضيق على العائلة الواحدة! أو لنعرف كيف توظف مبادئ الدين الإسلامي لإنتاج التعصب والعنف والإساءة إلى الإسلام على ما تشهد أكثر من ساحة من الجزائر إلى أفغانستان. ولنتابع مصائر الخطاب الذي يطمح إلى توحيد الأمة وتحقيق كيانها القومي ووجودها الحضاري فيحصد المزيد من التجزئة والتشتت ويفتقر حتى إلى الحد الأدنى من التنسيق والتضامن.

وأياً كانت التأويلات الكامنة خلف مأزق السياسة العربية التي أرجعها البعض إلى بنية العقل العربي ومسبقاته الفكرية الجاهزة والمستمدة من التراث، وأعادها آخرون إلى الأرضية السيسولوجية العربية التي ما تزال تحتكم إلى منطق القبيلة والعشيرة والطائفة والعائلة رغم كل أشكال التجمل والطلاء والأقنعة الحديثة، فيما صورها فريق ثالث كنتيجة للتدخل الخارجي للعسكر الرعوي الآسيوي (المغول - التتار - العثمانيين) ثم للاستعمار الغربي وإسرائيل، نتيجة لأهمية الموقع الاستراتيجي والثروات التي يمتلكها العرب. فإن هذه التأويلات فشلت فرادى ومجتمعة في تفسير واقع الحال ولم يتمكن العرب من إمساك مصيرهم واستعادة قدرهم السياسي، وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن العوامل السابقة لم تؤثر سلباً وتشكل عوائق حالت بين العرب وبين طموحاتهم، لكن ما كان لها أن تلعب هذا الدور وبهذا القدر من الفاعلية والتأثير لولا وجود قابليات في البنية العربية ساعدت على تمكينها من القيام بالأدوار والوظائف المطلوبة منها على أكمل وجه.

وإذا ما حاول المرء تشخيص تعبيرات الأزمة التي لا اعتقد أنها تطال المستوى السياسي وحده بل تمتد إلى المستويات الثقافية والمجتمعية والحضارية عموماً، لكنها تبدو جلية في ظاهرة (انطفاء السياسة) في الشارع العربي، سيواجه حالة عزوف عن العمل السياسي المباشر. وهذا العزوف نوعان يرتد أولهما إلى شروط وأسباب موضوعية تتصل بانشغال غالبية المواطنين العرب بتأمين مستلزمات العيش، إلى جانب الانتشار الواسع للأمية، مما جعل غالبية الناس في واد والأحزاب في واد آخر، في حين يعبر النوع الآخر من العزوف السياسي عن موقف احتجاجي من السياسة كما تمارس في العالم العربي ويأتي الشباب العربي والنساء في طليعة هؤلاء، فبعد أن استهلكت الشعارات وانكشف زيف المواقف والادعاءات بامتلاك مفاتيح الخلاص وبعد الممارسات المتعالية للنخب والاستئثار بالمنافع، باسم الدفاع عن الشأن العام، يمكن أن نفهم كيف يصبح العزوف عن السياسة موقفاً سياسياً بليغاً.

ولكن ما هي الأسباب العميقة لظاهرة انطفاء السياسة في أوساط قطاعات واسعة من المجتمع العربي، وهل يكفي التعليل السائد الذي يفسر المسألة استناداً إلى بطش السلطان السياسي والصعوبات التي تواجهها حرية التعبير والمرتبطة بضيق الهامش الديمقراطي على أهميته، أم أن للظاهرة أبعاداً أخرى غير سياسية بالضرورة رغم اتصالها بالمجال السياسي بمعناه الأوسع؟

يكشف التحليل المتأني عن مظاهر عميقة لأزمة الأحزاب العربية تتصل بنخبويّتها ومصداقيتها رغم كل المحاولات المبذولة لجعل برامجها جماهيرية، أما النخبوية فتتمثل في اعتقاد شريحة من الناس وهم عاملون في المجال السياسي والثقافي أنهم يجسدون عقل الأمة وضميرها، في الوقت الذي يمارسون فيه وصايتهم على القيم والأفكار المتصلة بالحقيقة والحرية والعدل وتطبيق شريعة الله على الأرض والتحدث باسمه تارة وباسم الجماهير والأمة تارة أخرى، ومن هنا تنبع أهمية إعادة النظر بمفهوم النخبة ذاته الذي يغري البعض ويزين لهم الاعتقاد بأنهم الممثلون لعقل المجتمع أو المعبرون عن ضمير الأمة مع ما يتعرض له هذا التمثيل وذاك التعبير من فقدان للمصداقية أخذ يضعف مكانة المعبرين عنه ويسيء إلى صورتهم.

أما ضعف البنى الديمقراطية للأحزاب العربية، إن على مستوى بنيتها التنظيمية أو على مستوى علاقتها بالناس، فهو أمر لا يحتاج إلى برهان، ولعل أوضح مؤشرات الضعف في الأداء الديمقراطي كانت تظهر عند التعامل مع الخصوم الأيديولوجيين والعقائديين سواء داخل الحزب نفسه أو بين الأحزاب المتنافسة، وهو ما أفرز بتقديري معظم مفردات قاموس الخيانة والتكفير والانحراف وأنتج ممارسات الإلغاء والتهميش والتجاهل وعدم الاعتراف بالآخر إلى حد بعيد بصيغة أخرى لا تتصل الأزمة بالاختلافات والتناقضات بين أحزاب تنتمي إلى مرجعيات سياسية وثقافية متعددة فحسب، بل تتمثل في غياب الحدود الدنيا من القواسم المشتركة التي تكفل الوقوف على أرضية موحدة وتسمح بإنتاج صيغة وفهم جديدين ينظران إلى السياسة بمنظور أوسع من معانيها الحزبية الضيقة لتصبح تعبيراً عن المشاركة في الشأن العام.

وقد يساهم التعامل مع الأحزاب من منظور الفلسفة السياسية والفكر النقدي في إضاءة وكشف العديد من المرتكزات الهامة والإيجابية لتشكيل وعي سياسي تعددي بالمعنيين الوظيفي والمعرفي، ورغم أن هذا الاتجاه التركيبي والذي يحيل على نسق فكري مفتوح ومرن وغير دوغمائي، مازال ضعيفاً في التفكير السياسي العربي، إلا أنه يمثل الأمة في تحول السياسة، من (مطية) للوصول إلى الحكم والاستئثار بالثروة أو (فزاعة) في يد القوى التي تحاول تأبيد الأوضاع القائمة، إلى نشاط إنساني غائي ومفهوم.

بهذا التصور الموسع للسياسة يمكن تجاوز العديد من مظاهر الترهل والتكلس التي بدأت تظهر على غير حزب وتيار في عالمنا العربي. كما يمكن تجنب الكثير من الصراعات حول مسائل الحكم والهوية والتناقضات الزائفة بين مستويات الوجود الثلاثة: الوطني والقومي والإسلامي وذلك من خلال تجذير ثقافة التواصل وترسيخ قيم الحوار. فالاستبعاد لأي سبب وتحت أي مسمى لم يعد مقنعاً، والجميع معني على قاعدة المواطنة بالمشاركة في صنع المصير ورسم ملامح المستقبل، أما القلق المقترن بالتحول الذي يطرأ على المبادئ والأفكار بمجرد وصول أصحابها إلى السلطة والذي ينقلها من نقائها المفترض في عوالم اليوتوبيا والحلم إلى حقول الأيديولوجيا والعقائد المتحجرة، فيستحق مقاربة أبستمولوجية لم تمارسها إلا قلة من الأصوات النقدية سواء داخل الأحزاب أو حتى في الفضاء التداولي الأشمل للثقافة العربية.

لم ينقطع التبشير السياسي بعام أفضل عن التوالد رغم كل الهزائم والاجهاضات التي واجهها العرب منذ أن بدأت الحضارة العربية الإسلامية بالأفول وهجر العقل الفعال بيئته العربية ليباشر عطاءاته في فضاء الحضارة