الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

ردك على هذا الموضوع

الفكر التربوي العربي بين العودة للماضي وارتهان الحاضر

د.باسم قاسم الغبان

 

إن مفهوم التربية اصطلاحا يتضح في الجهد المقصود الذي يسعى فيه المجتمع من خلال وكالاته المتعددة إلى إيجاد السلوك الإيجابي الجديد لدى الجيل أو تعديل سلوك قائم يقتضي تعديله، وبذلك يناط بالتربية مهمة خطيرة من نتائجها الحفاظ على الهوية.. وللتربية العربية خصوصية فارقة بالقياس إلى أنماط التربية في المجتمعات القديمة تبرز خصوصيتها الفارقة في التواصل والديمومة والاستمرار فقد انقرضت التربية اليونانية القديمة الأثينية والإسبارطية والإغريقية والرومانية وتبدلت أنماط التربية الشرقية تبعا للتبدل الكلي أو الجزئي في حضاراتها، في حين بقيت التربية العربية في إطارها العام تؤدي وظيفتها ذاتها عبر الأحقاب والعصور، وما زال العقل العربي بتكوينه وبنيته نتاج تلك الفترة كما هو منذ حقبة ما قبل الإسلام، يستجيب لحركة التاريخ ويتفاعل مع المتغيرات الاجتماعية داخليا.. ومع انتقال المراكز الحضارية وتداولها بين الأمم خارجيا بثبات نسبي حافظ فيه على تكوينه وبنيته متفاديا الانعطافات الحادة والقفزات المفاجئة والتحولات الجوهرية (1) وبما أن النظام التربوي بصفة عامة وما يتضمنه أي جزء منه إنما هو منظومة فرعية لأخرى يتكون منها نظام أكبر هو البنية الاجتماعية العامة، فإن من الطبيعي أن يتأثر ويتفاعل مع مختلف المتغيرات المستجدة في الميدان الاجتماعي (2)، ولو ذهبنا إلى حركة الوعي الفكري العربية نجدها قد وضعت ملامحها الأولى في فترة تصعد إلى النقطة التي تحدد منطلقا لوجود الإنسان العربي، وإن محاور هذه الحركة بقدر ما كانت في بعض الأحيان متواضعة، فإنها أفرزت نظم حياة متواضعة، وبقدر ما تميزت أحيانا أخرى بكونها أكثر عمقا ونضوجا، فإنها أسهمت في تطوير نظم حياة جديدة ومتقدمة، وقد شارك الإسلام بدور فاعل وحيوي في إنضاج هذه المحاور ومدها بطاقات وأبعاد جديدة، وجهها توجيها مختلفا، فبعد أن كانت (القبيلة) مركز جاذبية التفكير أصبحت (الأمة) بفضل الإسلام محور التفكير الجديد، وبعد أن كانت النظرة التعددية مسيطرة، التي أسهمت في تفتيت الأمة إلى (جزر) متناثرة، على مستوى الحياة (عبادة الأوثان) وعلى مستوى الفكر تبني نظرة دينية عالمية أخرى (يهودية، مجوسية، صابئية...) كان إلى جانب هذه النظرات صوت خافت يتعارض معها ويوازيها، يتجه نحو التوحيد.. جاء الإسلام لينتصر لصوت التوحيد هذا، وبعد أن كانت الخرافة والأسطورة سائدة في تفسير الأحداث والظواهر الطبيعية، كان بجانبها ينمو خط ضعيف، يتعثر في أغلب الأحيان يتوجه نحو الطبيعة وظواهرها لفهمها معتمدا الحس والعقل سبيلا، نجد الإسلام حسم المسألة لصالح خط العلم والمعرفة بهذا السلوك (3)،ولكي نلاحظ، بوعي الفكر التربوي الحديث والمعاصر، يصبح لزاما علينا استقراء الخطوط الرئيسية والمتغيرات والأبعاد الحضارية في المجتمع العربي في تطوره التاريخي، من هذا المنطلق لابد من التحري عن أصول الفكر التربوي العربي منذ اكتمال نموه وبلوغه أوج تطوره.. وتعود اتجاهاته ومدارسه إلى القرن الرابع الهجري وما تلاه، وإن كانت تلك الجذور تمتد إلى القرن الأول الهجري، بل إلى عصر البعثة النبوية وما قبلها، فهناك اتجاه يرى إن العرب عاشوا قبل الإسلام في صحراء اتسمت في نقاوة ساحة الحوار المفتوحة، ومركزا يقوده ويوجهه لصالح الأمة وطموحاتها، واحتلت مواقع عربية أخرى هي امتداد طبيعي واجتماعي ونفسي لساحة الحوار العربي بؤرا فكرية تتحرك على محيط ذلك المركز عن طريق الحوار الفكري الذي فتح مع كل دخيل من الأفكار والأنظمة، حياة وأنماط وسلوك، وقد استمدت أنساقها من فطرة العرب الخالصة قبل الإسلام، وثمة منطق آخر يؤازر المنطق السابق ويعززه ويتمثل في أن بعض أفراد الجيل الأول من المثقفين العرب الرواد عموما ورواد البحث التربوي على وجه الخصوص في مستهل القرن العشرين قد اغفلوا كنوز التراث العربي العريق وأهملوها بدوافع عديدة منها السياسي ومنها الديني إلى آخره من الأسباب واقبلوا منبهرين ببهرج الفكر الوافد بدعوى الحداثة فيذكر أحد الباحثين (أنني أتساءل عما إذا كنت أنا نفسي أعرف تراث قومي في التربية وعلم النفس، وهل أعرفه معرفة تليق بي بوصفي عربيا متخصصا بعلم النفس والتربية، وهل أعرفه بحيث أستطيع أن أعوّل عليه في بعض عصوره أو نواحيه أو تطوراته في نقاط قوته ونقاط ضعفه، وبالنسبة لأزمنته المختلفة وكذلك بالنسبة لهذا الزمان هل أعرف أصوله وأسسه وما أخذ وأعطى وما أضاف، هل أعرفه بحيث أستطيع أن أعرف به بني قومي وأبناء الأقوام الأخرى وأدلهم على ما أسهم فيه أسلافي من خدمة للإنسانية في ميدان تخصصي؟) ويجيب على تساؤله بأنه لا يلم من تراثه العربي في مجال تخصصه إلا لمحات ولا يلم بشذرات ويقول إني لاستحي من هذا الجهل ولعل أنكى ما في الأمر أني أعرف عن التراث الإنكليزي أو الفرنسي أو الأمريكي، بل وحتى الألماني والروسي أكثر بكثير مما أعرف عن التراث العربي (4). غير أن موجة الانصراف عن القديم والإعراض عن كل ما يمت إلى الماضي بصلة قد خفت وأخذت أخيرا في الانحسار، وأن هناك حركة إحيائية تحاول البحث والكشف عن العناصر الطيبة العميقة في التفكير القديم لإحيائها من جديد، ليس بقصد الفخر والمباهاة بما حققه الأسلاف في الماضي، بل بقصد تفهم هذا الماضي والتعرف على العوامل التي ساعدت على إحراز التقدم والنقطة التي توقف عندها ذلك التقدم، وأسباب ذلك وإلى أي حد يمكن الإفادة من هذا التراث القديم في خلق نهضة حضارية وفكرية جديدة وأصيلة تكون استمرارا للماضي وتطويرا له وامتدادا للأصول التي وضعها أولئك المفكرون والكتاب القدامى، مثلما تعد الحضارة الأوربية الحديثة استمرارا وامتدادا للفكر اليوناني القديم وإضافة إليه نتيجة لتقدم المعرفة الإنسانية (5). وكما يقول ابن خلدون (ولا شك في أن كل صناعة مرتبة يرجع منها إلى النفس أثر بكسبها عقلا جديدا تستعير به لقبول صناعة أخرى ويتهيأ بها العقل بسرعة الإدراك للمعارف وحسن الملكات في التعليم والصنائع وسائر الأحوال العادية يزيد الإنسان ذكاء في عقله وإضاءة في فكره بكثرة الملكات الحاصلة للنفس إذ قدمنا أن النفس إنما تنشأ بالإدراكات وما يرجع إليها من الملكات) (6).

ولو رجعنا قليلا إلى البعد الأيديولوجي الذي ارتكز عليه الشهرستاني بعد وفاة ابن سينا بأكثر من قرن من الزمان في مناقشته في كتاب (مصارعة الفلاسفة) الذي كان على درجة من الإحساس بأهمية العلم وكيفية الاستفادة منه مفاوضه الذي يصطدم مع آرائه الفلسفية ومن أقواله (وشرطت على نفسي ألا أفاوض بغير صنعته ولا أعانده على لفظ توافقنا على معناه وحقيقته فلا أكون متكلما جدليا أو معاندا سوفسطائيا)(7).

وهذا دليل على امتداد العلم ووجوب الإفادة من الماضي ومتابعة إرث الأجداد في الاستفادة من الأمور المفيدة فيه، وكذلك الاستفادة من الأخطاء كي لا يقع بها العالم والباحث المختص، إن تزويد الثقافة العربية والفكر العربي بزاد فلسفي يعمق المعرفة وينوع المناهج ويعزز مكانة السبيل العقلاني ويسجل حالة صحية في دائرة الثقافة العربية ويؤشر نقاط الانفتاح الفكري والحوار الثقافي الذي باشرته الأمة العربية وهي تواجه أنماطا من ثقافات جديدة وألوانا من المناهج والمواقف، إن هذا الفعل الثقافي الذي باشره المفكرون العرب وجندوا أنفسهم للدفاع عنه ضمن برنامج دفاع عن عموميات فكرية أخرى دفع ممثلي رد الفعل الثقافي المضاد للفكر الفلسفي اتهام العرب بالمروق والهرطقة لتأجيج غضب الرأي العام ضدهم واتخاذ مواقف معارضة لنتاجاتهم الثقافية.


المصادر:

1- سعيد إسماعيل علي، الفكر التربوي العربي الحديث، عالم المعرفة، الكويت، 1987، ص91.

2- محمد عبد العزيز الذهب، التربية والمتغيرات الاجتماعية في الوطن العربي، بغداد، 2002، ص 352.

3- محمد جلوب فرحان، دراسات في الفكر الفلسفي الإسلامي، العراق، د. ت، ص 14-153.

4- فاخر عاقل، معالم التربية دراسات في التربية العامة والتربية العربي، دار العلم للملايين، بيروت، 1978، ط 3، ص 2064.

5- احمد مشاري العدواني، التراث، مجلة عالم الفكر، المجلد الثامن، العدد الأول، 1977، ص 65.

6- عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د.ت، ص 4336

7- الشهرستاني، كتاب مصارعة الفلاسفة، تحقيق وتقديم وتعليق سهير محمد مختار، ط 1، 1976، ص 167.