الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

ردك على هذا الموضوع

العقل الأمريكي (تخييل القوة)

سعد سلوم

 

نسخة التاريخ الهوليودية

هل بات العقل السياسي الأمريكي يحصن حضارته من عوارض التفسخ والانهيار ويؤمن بأنه أمسك سر البقاء والدوام ويأخذ يتحكم بالتاريخ، بعد أن بات يتلاعب بالمعرفة التي يصفها فرنسيس بيكون بأنها في حد ذاتها قوة (سلطة)، وهذه هي العبارة ذاتها التي يضعها ألفن توفلر على صدر كتابه (تحول السلطة). وكما يشيد الكاتب الصحفي ستيوارت آلسوب، المعرفة هي القوة والقوة أغلى سلعة في الحكومة، ولهذا فإن كل من يعرف الأسرار يهيمن على المعرفة وبالتالي يمتلك زمام القوة.

ولكن العقل السياسي الأمريكي ينطلق من زاوية أوسع بإحكامه المنطق الجدلي وإخراجه هوليوديا على أحسن ما تكون عليه التأثيرات البصرية (صناعة الأفلام)، التي هي تعبير مخفف لـ (فبركة الحقيقة) ما دام جانب مهم (بل الأهم) منها يتطابق مع هدف (صناعة الأزمات والحروب) سينمائيا وزرعها في عقول المتلقين قبل تحققها بمعجزة في الواقع! وذلك مصداقا للعبارة الشهيرة (السياسة الأمريكية تصنع في هوليود وليس في واشنطن)، وبات واضحا سيادة هذا امتزاج بين الواقع والخيال واختفت الحدود الفاصلة بين الممكن والمستحيل في غزوة أنبياء هوليود لمراكز صنع القرار في واشنطن مثال (رونالد ريغان) فخشبة المسرح واحدة وكل ما يحدث في العالم مختلق والحروب ليست سوى خيال ينعكس على شاشات الفضائيات والحقيقة لا تحدث سوى في الكتب، وكدست الأساطير المؤسسة للعقل السياسي الأمريكي وقننت في إخراج هوليوود للتاريخ، بالنظر إليه من أمام! أي استباقه تخيلا، ثم الشروع بنقل الخيال إلى أرض الواقع وتصديره حربا وأزمات وخرائط طريق، أي بإعادة إنتاجه على مستوى آخر، عبر امحاء كامل لنمو طبيعي للمنطق الفطري للأشياء، وما كان على المفكرين سوى الانسياق وراء ذات الحمى، لذا أمسك هنتنغتون عدسة الكاميرا وأخرج نظريته عن صدام الحضارات بطريقة سينمائية مثيرة، فنراه يضع سيناريو لحرب عالمية تندلع بشكل درامي بسبب قيام الصين بمهاجمة فيتنام بسبب حقول النفط فتستنجد الأخيرة بالولايات المتحدة! وتهاجم الهند باكستان فتثار الجماعات الإسلامية في العالم، فتقوم بمهاجمة إسرائيل، حينها يتدخل حلف شمال الأطلسي، وتدعم إيران البوسنة، وتحصل الجزائر على قنبلة ذرية وتفجرها... الخ، ولا يتعدى هذا السيناريو لدى المراقبين سوى لوحة من لوحات الرعب في حين يعده آخرون من باب أفلام الفيديو! تلك هي طريقة الوسترن للحصول على صك الشهرة، لذا جاء هيجلي مزيف..الخ، مثل (فوكوياما) وفوكوياما ياباني لا يشعر بأزمة هوية لأنه أمريكي؟! وهو هيجلي مزيف لأنه أخذ مثالية هيجل دون جدله جاء ليحدث نوعا من الصناعة لـ (نهاية التاريخ).

والحديث عن نهاية التاريخ ليس جديدا فقد سبق لهيجل أن أشار إليه عندما أعلن بأن التاريخ قد أنهى تحققه ووصل محطته الأخيرة عند نقطة تشييد الدولة البروسية، إلا أن إعلان فوكوياما يأخذ طابعا آخر ويتغذى من غرور مختلف، وما هو سوى إعلان آيديولوجي آخر يرى العالم من خلال تصوره وأوهامه، أي من خلال آيديولوجيته بالتحديد، وهذا شكل من أشكال التفكير الآيديولوجي يقفل التاريخ ويتغاضى عن أن العالم متغير وتتغير تبعا لذلك صورته في الذهن البشري ويعلن أن نموذجه هو التطور العقائدي الأخير للجنس البشري وبزواله يزول الإنسان على الأرض وهي الرؤية التي يعاد إنتاجها مرارا وتكرارا في السينما الهوليودية المأخوذة بهوس النهايات، ولكنه من جانب آخر يعبر ثقة العقل السياسي الأمريكي وآيدولوجيته التعبوية بكونه لم يعد يخضع للقوانين التاريخية، بل هو من يقوم بوضع مثل هذه القوانين وإنه لم يعد مقيدا بقوة عالية على التاريخ، بل يمثل أمة صانعة للتاريخ (النسخة الهوليودية من التاريخ) أي ما وراء التاريخ، وإنه أول من يدخل القرن الجديد ويرسم مسرحه، إنه يمثل الأمة التي تصنع المستقبل، مصنع ما هو قادم، باختصار إنه يمثل الأمة السوبرمانية ويعد تتويجا عمليا لأفكار الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه.

الأمة السوبرمانية الأولى في التاريخ

نعم، إنها الأمة التي تعبر عن السوبرمان (الإنسان الأعلى والسيد المتفوق) الذي لا يخضع للعالم ولا لقوانين التاريخ بل يمنح الحياة في كل عصر قيمتها الخاصة، وهؤلاء الأقوياء السوبرمانيون (أنظر حلبات المصارعة الأمريكية) وحدهم ضمان المستقبل وهم وحدهم المسؤولون عن الإنسانية بأسرها (أنظر النسخ الهوليودية من السوبرمان الكارتوني صانع القيم ومنقذ البشرية).

إن وثنية نيتشه هي وثنيه يعاد إنتاجها داخل العقل السياسي الأمريكي بحسبانها وثنية الإنسان الأمريكي المحارب الأمريكي المتفوق الأعلى، فالفكر الحر عنف، والعنف أداة تجاوز، والفكر السليم (ذو النتائج البرجماتية) هو إذن فكر القوة وإرادة القوة.

والفلسفة البرجماتية من بيرس إلى وليم جيمس ترفع من شأن نتائج الأفكار ولا تلقي بالا لصحتها من عدمها، لذا تعامل الخرافات والأساطير معاملة الحقائق الثابتة ما دامت تحافظ على كيان الأمة، وإن الخرافة (قد تكون خيرا ما دامت الحياة يصلح بها وصلاح الحياة خير من استقامة المنطق الصحيح إذا كانت الحياة تصلحها الخرافة أكثر مما يقومها المنطق القياسي) حسب قول المفكر الأمريكي من أصل أسباني (جورج سانتيانا)، ويصدق ذلك على السياسة أكثر من أي مضمار آخر حيث يذهب كيسنجر إلى أن (رجل السياسة يحكم على الأفكار انطلاقا من فائدتها وليس من صدقها) (1)، لذا فالأفكار المروجة للقوة ولأسطورة الأمة المتفوقة ولخرافة نهاية التاريخ تأخذ طابع الخير الأسمى ما دام صلاح الأمة الأمريكية هدفها. ولا يفوتنا في هذا الصدد أن نميز بأن كل ما يصرح به ويعلنه ويقوله ويكتبه منظرو القوة ومؤيدوها وأنبياءها الجدد ما هو إلا تنويعات وإعادة صياغة لبصيرة زرادشت نبي نيتشه (أحبوا السلم، ولكن اتخذوا السلم مطية جديدة (.....)، تقولون أن قضية الخير تسوغ الحرب وأنا أقول لكم أن الخير في الحرب وأن الحرب تسوغ كل خير.. لقد حققت الحرب لا حب القريب ولا الإحسان الأمور العظام، فأملأ أيها الإنسان حياتك بالخطر، وشيد مدنك على مقربة من البركان، وأبعث سفنك إلى البحار المجهولة، عش شجاعا، عش في حرب دائمة...)

وهكذا فإن الأمة السوبرمانية الأولى في التاريخ باتت هي التي تحدد نظام القيم الذي ينبغي أن تستجيب له البشرية، وصيغة (من ليس معنا فهو ضدنا) التي أطلقها جورج دبليو بوش في أعقاب أحداث 11 من أيلول 2001، هي صيغة صادرة عن مصدر قوة صانع القيم التي تحرك المجتمع الدولي والتي ما على الآخرين سوى إتباعها، وهذه الفكرة مطروحة بقوة لدى (ليوشتراوس) الذي يمثل الخلفية الفلسفية لتيار اليمين الجديد في الولايات المتحدة في تصوره عن النبي الفيلسوف الذي هو صيغة أخرى للسوبرمان النيتشوي.

المملكة السرية للفلاسفة

فلدى شتراوس (1988 - 1973) تصور قوي عن نمط خارق من الرجال يسميهم الأنبياء الفلاسفة، وهؤلاء يعرفون جيدا أي نوع من الدواء تحتاج أزمتهم وهم مستعدون وقادرون على توفيره في صورة أسطورة مجيدة أو كذبة نبيلة أو زيف ورع (2) حتى وإن كانت من قبيل أسطورة العولمة أو كذبة نظام دولي جديد أو زيف الحفاظ على حقوق الإنسان.

وهكذا يرتسم النبي الفيلسوف بوصفه (منقذ البشرية) بل هو المسيح الجديد الذي يمكننا عقلانيا أن نتوقعه (حسب تعبير شتراوس)، أكاذيبه تتقدس بموجب القانون (وهذا واضح في شرعنة الممارسات الأمريكية) لأنها ضرورية لسعادة الإنسانية، لكن الجانب المهم والخطير في أفكار شتراوس هو إدراكه ضرورة توفر روابط وثيقة بين هؤلاء الفلاسفة ورجال السياسة والدولة، وهذا ليس بجديد حيث نشأت روابط وثيقة بين الفلاسفة ورجال الدولة منذ عهد أفلاطون الذي نادى بضرورة توثيق الصلة بين الفلسفة والسياسة ووضع مقاليد الأمور في يد ملك فيلسوف وحتى أيام هيجل الذي زعم في وقت ما من الأوقات أن ثمة وحدة صوفية تجمع بينه وبين نابليون! لكن الجديد لدى شتراوس هو إعلانه حاجة هؤلاء الفلاسفة إلى أصناف مختلفة من البشر لتخدمهم ومنهم السادة الذين يصبحون ساسة ورجال دولة، يستمرون في تلقي النصح من الفلاسفة، وحكم الفلاسفة من خلال رجالهم الذين دخلوا في الحكم هو ما يسميه شتراوس (المملكة السرية للفلاسفة)، والمملكة السرية هي الهدف الذي يسعى كثيرون من تلامذة شتراوس (الداخليين) إلى تحقيقه في حياتهم ومن هؤلاء وليام كريستول (رئيس الدعاية العامة لحزب الحرب في إدارة جورج دبليو بوش، ألان كيس (تولى منصبا في وزارة الخارجية في عهد ريغان) كلارنس توماس (قاضي المحكمة العليا) وزير العدل (جون أشكروفت) أ. لويس (سكوتر) ليبي (رئيس الأركان وكبير مستشاري الأمن القومي لدى نائب الرئيس تشيني)، أبرام شولسكي (مسؤول الإعلام الكاذب في البنتاغون) غاري شميت (المدير التنفيذي لمشروع القرن الأمريكي الجديد)، نائب وزير الدفاع (بول وولفوتيز)، أبراهام شولسكي (مسؤول وزارة الدفاع للخطط الخاصة)، وريتشارد بيرل (الرئيس السابق والعضو لاحقا في المجلس الاستشاري للبنتاغون)، اليوت ابراهامز (المسؤول عن ملف الشرق الأوسط في البنتاغون.. الخ) (3)، لذا فإننا نشهد من خلال هؤلاء اليوم فلسفة شتراوس في الممارسة من خلال سياسات إدارة جورج دبليو بوش كما أن المحافظين الجدد ربما يجدون في الربط بين أفكارهم وسياساتهم في الحكم وأفكار هذا الفيلسوف نوعا من النفي غير المباشر للاتهامات التي تساق ضد الرئيس الأمريكي بأنه (خاو فكريا)  (4)، لا سيما وأنه عرف عن الرئيس بوش نفوره من النظريات والتنظير، لكن لا يمكن الذهاب بعيدا للقول بأن سياسة الأخير باتت تعكس فلسفة بالمعنى الأكاديمي للكلمة بقدر إخلاصها لنهجها البرجماتي واعتمادها على الأفكار التي تخدم سياستها، بقدر ما يمكننا أن نتبين مقدار تأثير الفلاسفة الألمان في الثقافة السياسية الأمريكية وإن موضوع دور فلاسفة مثل هيجل، ونيتشه، وشبنجلر، وهيدجر، وماركوز وغيرهم من الفلاسفة الألمان في تشكيل العقل السياسي الأمريكي بحاجة إلى مزيد من الاهتمام يرسم ملامح التحول داخل العقل السياسي الأمريكي من ميتافيزيقيا العنف إلى برجماتية القوة.

عموما فإننا نتبين مع (ليو شتراوس) استمرار تأثير الفلاسفة الألمان في الحياة الثقافية السياسية الأمريكية، الذي كان قد وصل إلى ذروته على يد الفيلسوف الألماني (من أصل يهودي) هربرت ماركوز فيلسوف الحركات الطلابية في الستينات، الذي احتل عن جدارة لقب فيلسوف اليسار الأمريكي الجديد، من خلال أعماله التي لعب الجدل الهيجلي وأفكار ماركس وفرويد دورا في تشكيلها لا سيما كتابه (الإنسان ذو البعد الواحد) أنجيل الحركات الطلابية في الستينات، ومن الجدير بالذكر إن هذا الفيلسوف الذي هاجر عام 1934 إلى الولايات المتحدة الأمريكية منح الجنسية الأمريكية وألتحق بمكتب أبحاث المخابرات التابع لوزارة الخارجية الأمريكية وتدرج في المناصب حتى عين مديرا لقسم أوربا الشرقية، كما نذكر أن أفكار هيدجر (الذي تتلمذ على يده ماركوز في جامعتي برلين وفرايبورغ) ونيتشه، قد مارست أيضا تأثيرها في تشكيل فكر ماركوز وهما الفيلسوفان (أي هيدجر ونيتشه) اللذان استمر تأثيرهما من خلال أفكار ليو شتراوس الذي نهل تكوينه الذهبي من أفكارها.

مقتضيات العقل السياسي الأمريكي في صناعة العدو

كان هيدجر يؤكد على الطابع المجرد والمتخيل للعدو على أرضية من تقديس مبدأ الصراع طبقا لمنظور نتشوي واضح، فالعدو وفقا لهيدجر (ليس من هو حاضر أمامنا الآن، بل أن الـ (دازاين) (5) يجب عليه أن يخلق لنفسه عدوه الذاتي كي لا يسقط في العطالة، كل ما هو موجود يخضع لمبدأ الصراع، وحيث لا وجود للصراع والهيمنة هناك تفسخ وانهيار:- الماهية، أي ماهية الـ (دزاين) تتمظهر أساسا في الصراع) (6). وما كنا لنقتبس نصا ورد في سياق معين لنوظفه في سياق آخر لولا إيماننا بأن ما يصدق على الذات يصدق على الحضارة، ومن ثم فإننا نسوق مطمئنين الإدراك بأنه بدون الاعتراف بمبدأ الصراع يفقد العقل السياسي تماسكه وبدون وجود العدو الخارجي تصبح الإستراتيجية العمياء، فالدور الذي يلعبه (العدو الخارجي) هو دور حاسم، ويغذي ديناميكية الحضارة الأمريكية التي بدون توفره تفقد مبرر وجودها وتتعرض للتفسخ والانهيار (تقع في العطالة) فالأفق الذي يرتسم فيه وجه العدو الخارجي يوفر للأنا المتمركزة في حالة الدفاع ما يلي:

1- توفير الهدف والدافع:- وبخصوص ذلك يذهب (هنري كيسنجر) إلى أن وجود العدو يعمل علما تقليل مظاهر الغموض أو التناقض الذي تقع فيه الإستراتيجية عندما تفتقد الهدف الذي ينبغي أن تتعامل معه، وبعد هذا هل نستغرب تأكيد كيسنجر بأن تمييز العدو أسهل من تمييز الصديق والتعامل مع الأول وسيلة لتوضيح طموحات الإستراتيجية والحصول على الدافع الأساس للتحرك بشكل مكثف في إطار السياسات العالمية(7).

2- حفظ التماسك الداخلي:- وذلك من خلال الإنشداد إزاء العدو الخارجي في نوع من التعبئة العامة التي تدعم كيان الدولة الداخلي وتشد أجزاءه إلى بعضها إزاء خطــر خارجي محتمل أو مؤكد وبذلك يتحقق تجاوز التناقضات الداخلية المهيأة في كل آن للانفجار، لصالح توجيه مسار القوة بما تحمله من تناقضات صراعية نحو ذلك الآخر (العدو) وبذلك يتم تهدئتها أو تحقيق نوع من التلبية (الترضية) في شكل من التغذية العكسية (الارتجاعية).

وطبقا لميشيل كيلو فإنه لخلق هذا الموقف الموحد (لابد من آيديولوجية تعبوية تتسم بقدر من العمومية، يجعلها قابلة للتبني من قطاعات المجتمع الأمريكي المختلفة، سواء من حيث الانتما الاجتماعي أم من حيث درجة الوعي، هذه الآيدولوجية يمكن تلخيصها بكلمة واحدة هي: أمريكا، فأمريكا هي، كما يقول سيكستو لوبيز (غاية الله في التاريخ) وهي القوة التي يجب أن تكون قادرة على فرض شروطها على العالم التي ربما وصلت إلى حد إقامة السلام الأمريكي الشامل ويجب أن يوسع مفهوم مصالحها الأمنية ليشمل مناطق ضرورية من الناحية الإستراتيجية للسيطرة على العالم  (8).

3- تعزيز الأنا ونظامها القيمي: يتم تعيين حدود الأنا وتعزيزها من خلال توصيف الآخر وترسيمه في قالب محدد مما يدعم التمايز عنه قيميا، فالنظام القيمي الخاص بالأنا يأخذ زخمه وترتسم ملامحه من خلال مجابهة الآخر ورفضه عبر ثنوية سياسية يحتل فيها الآخر دائما رمز إله الظلام. ومن حيث المبدأ فإن هذا الآخر يتحدد بوصفه (العالم الخارجي، العالم غير الأمريكي، الذي يفتقر إلى المعايير والقيم التي تواجه سياسة أمريكا (....) وهذا العدو مسؤول عن سائر الآثام والشرور التي أصابت أو ستصيب الإنسانية، وعلى أمريكا تكليف نفسها بالتصدي له، وبما أن هذا العدو له طابع تجريدي- تعميمي- مطلق فلابد أن يكون موجودا في كل مكان، بما في ذلك داخل أمريكا أيضا، ولابد أم يكون وجوده خفيا، لذلك من غير الجائز اعتباره عدوا سياسيا فقط، بل يجب النظر إليه كعدو أخلاقي أيضا (...) في مواجهة هذا العدو، الحاضر داخل أمريكا وخارجها، إذن لا تفيد سوى القوة العارية ولا مفر من استعمال سائر الوسائل، بما في ذلك المحرمة دوليا أو أخلاقيا على أمريكا نفسها لمواجهته باللغة التي يفهمها، لغة العنف الشامل، المبرر بغايته الأخلاقية السامية: الدفاع عن أمريكا بما هي الإنسانية جمعاء (9). ومع توفر أدوات الهيمنة الكاملة على الميديا العالمية فبالإمكان فرض آيدولوجيا تلقينية تكيف الفرد للقبول والتطابق مع ما تريده حكومته وفقا لطريقة الاقتران الشرطي البافلوفية فترد في الذهن صورة العدو مقترنة مع أسوأ الصفات وأخطرها (الشيوعية = أسوأ الشرور على الأرض) (الإسلام = الإرهاب) (العراق = أسلحة الدمار الشامل) ونجاح الآلية البافلوفية في الدعاية لصناعة الكوكا كولا والمنتجات الأمريكية يسير جنبا إلى جنب مع نجاحها في الدعاية للايديولوجيات السياسية الرسمية للحكومة وهو ما يصدق بشكل واضح على استثمارها وتوظيفها في عملية صناعة العدو.

صناعة العدو في إطار

من صناعة المبالغة

ومن الصناعات الملحقة بصناعة العدو ما يمكن أن نطلق عليه (صناعة المبالغة) حيث يسود الخطاب المرئي والمكتوب التهويل والمبالغة حول مدى القدرات الأمريكية التي بإمكانها أن تصل إلى كل مكان (حتى داخل الأقبية السرية لصنع القرار العربي) وتوظف أيا كان (رؤساء، رجال دين، وجهاء، مفكرين، فنانين..الخ) في سبيل تحقيق أهدافها والمبالغة في قدراتها التقنية التي تمحق كل من يجرؤ على تحديها فتزرع الرعب من فكرة المواجهة مع هذه القوة المطلقة فينجح الاقتران الشرطي البافلوفي مرة أخرى في ترويج (الولايات المتحدة = الدمار الأكيد). ويجري تسويق الحروب الأمريكية (الكورية، الفيتنامية، الحرب ضد العراق) في إطار من هذه المبالغة التي تلقن الأذهان القوة الأمريكية في شكل من الاستعراض السوبرماني (انظر نموذج رامبو) ولكن الآخر العدو ينبغي أن ينال شيئا من بضاعة المبالغة فلا يمكن للنصر الأمريكي أن يترك أثره الكامل إذا ما تم القضاء على قوة كسيحة أو اختراق دولة صغرى أو طقطقة عظام القدرات التقليدية لدول متوسطة القوة، بل يجب التهويل من القدرات العسكرية التي يمتلكها العدو وتصوير سقوطه وانهياره بكونه معجزة مفاجآت أمريكية وهذا ما حصل في عام 1991 في التهويل من قدرات الجيش العراقي (لا سيما قوات الحرس الجمهوري) والتهويل من قدرات صدام ذات الدمار الشامل 2003، وكانت المبالغة الشديدة بالتهديد الذي يشكله نظام ضعيف وفاسد مثل النظام البعثي، وحقن صدام حسين بأسلحة الدمار الشامل يجري في إطار عملقة منطاد عدو خارجي مما جعل آلهة الحرب تنتصب في سياق التسويق لحرب وقائية، ومن الأفضل جمع كل الأعداء الصغار المارقين في إطار محور واحد وليكن محور (الشر) وهو ما لا يعدو كونه صياغة مخلصة للثنوية السياسية الحاكمة للعقل السياسي الأمريكي التي تضفي بعدا أخلاقيا على تحركاته الخارجي واعترافا بجدوى تلاقي جبهة النقيضين ضمن الثنوية الانطولوجية الواقية للحضارة الأمريكية من التفسخ والانهيار.


1- نعوم تشومسكي، حقوق الإنسان والسياسة الخارجية الأمريكية، ترجمة عمر الأيوبي، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية، 1984، ص 62.

2- سمير كرم، ليو شتراوس واليمين الأمريكي، مجلة المستقبل العربي، العدد 295 لسنة 2003، ص 177- 179.

3- مجموعة باحثين، احتلال العراق وتداعياته عربيا وإقليميا ودوليا، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2004، ص 95- 100.

4- سمير كرم، مصدر سابق، ص180.

5- الدازاين أو الديزاين مصطلح ألماني فلسفي يدل على الوجود ويقصد هيدجر منه الوجود هناك، فالإنسان في رأي هيدجر هو الموجود هناك، أي أنه دائما يوجد في موقف، وهو لا يعي نفسه إلا في عالم ومحاط بأوضاع مصطنعه لم تكن من صنعه هو نفسه.

6- محمد مزوعي، التخلص من هايدغر، مجلة النهج، العدد 36 لسنة 2004، ص 97.

7- هنري كيسنجر، العقيدة الإستراتيجية الأمريكية ودبلوماسية الولايات المتحدة، ترجمة حازم طالب مشتاق، بغداد، دار واسط، 1987، ص 25.

8- مجموعة باحثين، العرب في عالم أحادي القطبية، سلسلة جدل، دار كنعان للدراسات والنشر، 1992، ص 127.

9- المصدر نفسه، ص 125- 126.