فقد تتسبب الشركات الأميركية في إحداث ضرر عالمي قبل أن يلحق بها المنظمون الأوروبيون. وقد تستمر أوروبا في تثبيط الإبداع قبل أن يبدأ، تاركة العالم مع أقل القليل. ولكن لعل الخطر الأكبر يتمثل في إقدام الهيئات التنظيمية على جانبي المحيط الأطلسي على تصدير قواعدها الخاصة، فيضطر الطرف الآخر...
بقلم: راغورام ج. راجان
شيكاغو ــ "مشكلة الهيئات التنظيمية الأوروبية أنها تخاف بدرجة أكبر مما ينبغي من مخاطر الجانب السلبي". هكذا أخبرني رجل أعمال ألماني مؤخرا، ثم أضاف: "في أي قطاع أعمال جديد ومُـبدِع، تبالغ أوروبا في التنظيم فتخنق أي احتمال على الجانب الإيجابي". على النقيض من ذلك، كما زعم، يهتم الأميركيون بدرجة أكبر بالاحتمالات على الجانب الإيجابي، فيتريثون في فرض الضوابط التنظيمية إلى أن يعرفوا المزيد عن العواقب. وقال: "ليس من المستغرب أن يكون للولايات المتحدة حضور أكبر كثيرا في الصناعات الإبداعية".
الذكاء الاصطناعي مثال على ذلك. فقد اسـتَـنّ الاتحاد الأوروبي أول لائحة شاملة لتنظيم الذكاء الاصطناعي في العالم في أغسطس/آب 2024، فوضع ضمانات ضد مخاطر مثل التمييز، والتضليل، وانتهاك الخصوصية، وأنظمة الذكاء الاصطناعي التي قد تعرض حياة الإنسان للخطر أو تهدد الاستقرار الاجتماعي. كما يخصص القانون لأنظمة الذكاء الاصطناعي مستويات مختلفة من المخاطر، مع معالجات مختلفة لكل منها. في حين أن أنظمة التسجيل الاجتماعي التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي محظورة صراحة، فإن أنظمة المخاطر الأعلى تخضع للتنظيم والإشراف الشديدين، مع قائمة من الغرامات في حال عدم الامتثال.
لكن أوروبا ليس لها وجود كبير في صناعة الذكاء الاصطناعي المزدهرة، وخاصة إذا قورنت بالولايات المتحدة أو الصين. فالشركات الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي تتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها، مثل OpenAI، وAnthropic، وGoogle؛ ولا ترقى أي شركة أوروبية إلى المستوى المطلوب. ويبدو أن هذه الفجوة الصارخة تتحدث عن نفسها. في الوقت الراهن، تبدو خطة عمل الذكاء الاصطناعي التي وضعتها إدارة ترمب، التي تسعى إلى الحد من الروتين والتنظيم في مجال الذكاء الاصطناعي، وكأنها النهج الأفضل.
المشكلة في الطريقة الأوروبية هي أنها تثقل كاهل الشركات الناشئة بتكاليف الامتثال التنظيمي قبل أن تتضح إمكانات التكنولوجيا. من المؤكد أن روبوت الدردشة الآلي الذي ينشر الأكاذيب أو يميز ضد مجموعات عِـرقية بعينها غير مستحب، لكن بعض التسامح مع مثل هذه الأخطاء ضروري في المراحل الأولى من تطوير أي نظام.
علاوة على ذلك، عندما يتمكن المطورون من استكشاف الاحتمالات الإيجابية الكامنة في أي نظام بقدر أكبر من الحرية، يتوفر لديهم أيضا الوقت (وربما الموارد الناتجة عن عمليات الإطلاق الناجحة وإن كانت معرضة للأخطاء) لاكتشاف طرق فعّالة من حيث التكلفة لمعالجة المشكلات التي تقوض جدارة النظام بالثقة. إن المطالبة بشبه الكمال منذ البداية لا يحمي المجتمع بقدر ما يخنق عملية التجربة والخطأ التي تنشأ من خلالها الاختراقات.
بطبيعة الحال، قد تكون الأخطاء مثل التمييز العنصري باهظة التكلفة، خاصة إذا ارتكبتها روبوتات الدردشة الآلية التي تتفاعل مع ملايين الأشخاص. وإدراكا منها لهذه المخاطر، تسمح بعض الجهات التنظيمية باختبار المنتجات الجديدة ولكن فقط في ظل إعدادات مضبوطة بإحكام. بوسع المبدعين إجراء التجارب على مجموعة محدودة من المستخدمين، ودائما تحت رقابة هيئة تنظيمية. يساعد نهج "بيئة الاختبار المعزولة" هذا على احتواء أي أضرار خشية امتدادها إلى الجمهور الأعرض ــ وهذا تخوف أوروبا الرئيسي.
لكن بيئات الاختبار المعزولة قد تحد أيضا مما قد يحدث بشكل صحيح. فمن غير الممكن أن يتسنى للتجارب التي تُجرى على مجموعات صغيرة ومحدودة الاستفادة من تأثيرات الشبكة، حيث تصبح المنتجات أكثر قيمة كلما ازداد عدد الأشخاص الذين يستخدمونها. كما أنها تعجز عن الكشف عن الاختراقات غير المتوقعة التي قد تتأتى عندما يتبنى الأشخاص "الخطأ" أحد المنتجات (على سبيل المثال، دفعت المواد الإباحية على الإنترنت عجلة إبداعات مبكرة في تكنولوجيا الويب). باختصار، قد تؤدي تجارب بيئات الاختبار المعزولة إلى إبعاد الكوارث، لكنها أيضا تهدد بخنق الاكتشاف. إنها أفضل من الحظر الصريح، لكنها مع ذلك قد تتسبب في دفع المبدعين إلى دفن عدد كبير من الأفكار الواعدة قبل أن تتمكن من التوسع.
ما هي إذن التكاليف المترتبة على نهج عدم التدخل الأميركي؟ الأمر الأكثر وضوحا هو أن النظام قد ينفجر بسبب المنتجات المارقة، كما حدث مع الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري الثانوي قبل الأزمة المالية العالمية في عام 2008. واليوم، يسمع المرء مخاوف مماثلة بشأن الذكاء الاصطناعي التوليدي وصناعة العملات الرقمية المشفرة (مع الإشارة إلى انهيار بورصة العملات الرقمية المشفرة FTX كإشارة تحذير مبكرة).
تاريخيا، ربما كانت الولايات المتحدة، بجيوبها المالية العميقة، أكثر استعدادا لتحمل مثل هذه المخاطر، في حين أن الاتحاد الأوروبي المفتت ربما كان أكثر حذرا. ولكن مع انكماش الحيز المالي في الولايات المتحدة، ربما تلوح في الأفق عملية إعادة نظر.
ولكن حتى لو أرادت الولايات المتحدة فرض مزيد من التنظيم، فهل تتمكن السلطات حقا من تحقيق هذه الغاية؟ الطريقة الأميركية هي الانتظار حتى تصبح الصناعة كبيرة بالقدر الكافي لتكون ذات أهمية. ولكن بحلول تلك المرحلة، تكون الصناعة نمت بالقدر الكافي من القوة الذي يسمح لها بتشكيل أية قواعد المقصود منها كبح جماحها. لنتأمل هنا العملات الرقمية المشفرة: لقد أثبتت هذه الصناعة التي تتدفق عليها الأموال، والمسلحة بجماعات الضغط، والتي تركز بقوة على مصالحها، أنها بارعة في التأثير على السياسيين ــ والرأي العام ــ لصالحها. والنتيجة على نحو ثابت لا يتغير تكون التنظيم المنقوص، حتى عندما تكون المخاطر التي تهدد عامة الناس صارخة.
على النقيض من ذلك، تتدخل أوروبا العازفة عن المجازفة في وقت مبكر، عندما يكون القطاع المبدع لا يزال صغيرا وصوته بالكاد مسموعا. في هذه المرحلة، تكون الشركات القائمة ــ البنوك المهددة بالعملات الرقمية على سبيل المثال ــ هي المهيمنة على المناقشة. فيدفع نفوذ هذه الشركات باتجاه الحذر المفرط والقواعد الخرقاء. تميل الولايات المتحدة إلى التنظيم بأقل قدر، وبعد فوات الأوان، في حين تُـفـرِط أوروبا في التنظيم، قبل الأوان. ولا يحقق أي من النهجين التوازن الصحيح تماما.
على الرغم من الحجة لصالح تحرك كل من الطرفين نحو الآخر، فمن الأهمية بمكان هنا أن نؤكد على أن التنظيم لا يتوقف عند الحدود الوطنية. في الواقع، قد يستفيد العالم من وجود نهجين مختلفين إلى حد ما. فمن الممكن أن تزدهر روبوتات الدردشة الآلية الأميركية في بيئة غير منظمة نسبيا، حيث تمارس التجريب والتوسع بسرعة. ولكن بمجرد سعيها إلى التواجد العالمي، ستصطدم بالمعايير الأكثر صرامة في أوروبا. ومع توفر الموارد الكافية والحوافز القوية، سوف تجد طرقا مبتكرة ومنخفضة التكلفة للامتثال، وقد تتدفق استراتيجيات الحد من المخاطر هذه في نهاية المطاف إلى الولايات المتحدة، تاركة للعالم مزيدا من الإبداعات الأكثر أمانا.
هذا هو السيناريو المثالي على أية حال. أما الواقع فمن المرجح أن يكون أكثر فوضوية. فقد تتسبب الشركات الأميركية في إحداث ضرر عالمي قبل أن يلحق بها المنظمون الأوروبيون. وقد تستمر أوروبا في تثبيط الإبداع قبل أن يبدأ، تاركة العالم مع أقل القليل. ولكن لعل الخطر الأكبر يتمثل في إقدام الهيئات التنظيمية على جانبي المحيط الأطلسي على تصدير قواعدها الخاصة، فيضطر الطرف الآخر إلى مجاراته. قد يكون من الأفضل للعالم أن يستمر المنظمون الأميركيون والأوروبيون في النظر إلى الضوابط التنظيمية بشكل مختلف.
اضف تعليق