لم يُشكل معبر رفح بوابة رئيسة لإدخال المساعدات الإغاثية إلى الشعب الفلسطيني فحسب، بل أُعتبر المعبر الباب الأخير لحياة الفلسطينيين انطلاقاً من كونه مخرجاً رئيسي لخروج المصابين جراء عمليات القصف العشوائي الإسرائيلي على الأحياء السكنية هناك، بالإضافة إلى المرضى الذين يعانون من أمراض لا يمكن...

في ظل الظروف الحرجة التي وقعت على فلسطين جراء الحرب الإسرائيلية وامتداد أثرها في العمق العربي، وبالرغم من الوقفة التضامنية العربية إزاء القضية الفلسطينية من كونها شكلت (أزمة عربية واحدة)، إلا أنها لم تأتي بالحل الذي يؤدي الى تهدئة الموقف، انطلاقاً من كون المشروع الإسرائيلي بطبيعة الحال يمثل مشروعاً عدوانياً بصيغة الإحتلال التوسعي، الساعي لمد نفوذه إلى الأراضي الفلسطينية والتخلص من عقيلة السكان الرافض لقيام الدولة الصهيونية على الأراضي الفلسطينية، وأنه وفقاً للأيديولوجية الإسرائيلية القائمة على أساس العنف "أن ما لا يتحقق بالقوة .. يمكن أن يتحقق بمزيد من القوة".

 وبالفعل استخدمت قوات الكيان الإسرائيلي كل أساليب القوة والعنف والجرم ضد المدنيين الفلسطينيين والبنى التحتية، دون وضع أي إعتبار للقانون الدولي، وهو ما أدى إلى تصعيد إسرائيلي جديد على قطاع غزة تمثل في استغلال الكيان الصهيوني الأزمة التي تعيشها المنطقة العربية، مع الأخذ في الاعتبار المؤشرات الحقيقية لعدوان صهيوني جديد على قطاع غزة، إذ لايزال الكيان الصهيوني يواصل انتهاجه لسياسة “الأمن مقابل الغداء”، وكانت هذه السياسة من السياسات التي سبق وأن وضعها الكيان الصهيوني لتجديد الحصار على قطاع غزة بهدف الضغط على القطاع لإخضاع المقاومة الفلسطينية، وعلى هذا الإثر تزايدت المخاوف الفلسطينية من قيام الكيان الصهيوني بشن حرب على قطاع غزة، خاصة بعد قيام فصائل المقاومة الفلسطينية بعروض عسكرية مقصودة لنقل بعض الرسائل الخاصة إلى القادة الصهاينة. 

عقدة الهولوكوست

من أهم الأسباب التي جعلت الدول الغربية تتجاهل وتبرأ المجازر التي ترتكبها قوات الكيان الصهيوني ضد المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، هو الشعور بالذنب إزاء الاضطهاد الذي لحق بالصهاينة على مر الزمن، فضلاً عن وجهة النظر الصهيونية القائلة بأن المستوطنين الصهاينة في فلسطين يفرون من الاضطهاد ويعودون إلى أرضهم، يعتبر هذا السبب هو عاملاً رئيساً إزاء صمت السياسات العالمية حيال المجازر الفظيعة التي ترتكبها قوات الكيان الصهيوني في فلسطين، وفي الوقت نفسه، استطاعت إسرائيل من تعميق هذه العقدة في الضمير الغربي، واستخدام سلاح الاتهام “معاداة السامية” لإسكات أي شخصية سياسية أو عامة تعارض تحركاتها وافعالها، ونتيجة لذلك، هناك مخاوف واسعة النطاق من أن يتم اتهامها بأي شيء، مهما كانت أفعالها جذرية، وفي الوقت نفسه يعتبر الفلسطينيون معادين للسامية ويريدون طرد اليهود من ملجأهم الأخير.

معبر رفح "الباب الأخير"

يُعتبر "معبر رفح" الواقع عند مدينة رفح بين قِطاع غزة في فلسطين وبين شبة جزيرة سيناء في مصر، الباب الوحيد لعبور المساعدات الإغاثية إلى قِطاع غزة، كونه يُعتبر أيضاً منفذاً لا يؤدي إلى الأراضي الإسرائيلية، لم يُشكل معبر رفح بوابة رئيسة لإدخال المساعدات الإغاثية إلى الشعب الفلسطيني فحسب، بل أُعتبر المعبر "الباب الأخير لحياة الفلسطينيين" انطلاقاً من كونه مخرجاً رئيسي لخروج المصابين جراء عمليات القصف العشوائي الإسرائيلي على الأحياء السكنية هناك، بالإضافة إلى المرضى الذين يعانون من أمراض لا يمكن معالجتها في الداخل ويضطرون الى الخروج عن طريق هذا المعبر.

وفي ظل توتر الأوضاع وانعدام التنسيق المصري مع إسرائيل بسبب تدور الوضع وتصاعد حدة الأزمة، بالإضافة إلى تحميل الجانب المصري الكيان الصهيوني مسؤولية تدهور الأوضاع الأمنية في المنطقة، عمدت قوات الإحتلال الإسرائيلية إلى اقتحام معبر رفح وأعلنت سيطرتها الكاملة على الجانب الفلسطيني من مدينة رفح الحدودية مع سيناء المصرية، كما توغلت دبابات الكيان الإسرائيلي إلى بعض الأحياء السكنية الواقعة شرق مدينة رفح، وهو ما أثار الذعر في نفوس المواطنين الفلسطينيين، خاصة وأن قوات الإحتلال الإسرائيلية أمرت سكان مدينة رفح الشرقية بإخلاء المنطقة قسراً وبشكل فوري.

وفي سياق متصل، أبلغت الحكومة المصرية حكومة الكيان الصهيوني "خطورة الوضع الأمني" بعد سيطرة قوات الإحتلال الإسرائيلية على معبر رفح، بينما ردت حكومة الكيان الصهيوني على الإستنكار المصري الرافض لإندفاع قواتها صوب مدينة رفح "بأن السيطرة الإسرائيلية على مدينة رفح هي هدف رئيسي من أهدافنا الاستراتيجية للقضاء على حماس"، بينما تستنكر تصريحات دولية أخرى التصرفات الإسرائيلية وتصفها بـ" الإنتهاك العلني لحقوق القانون الدولي"، ولكن دون أي جدوى في ظل الدعم الأمريكي لقوات الإحتلال الإسرائيلي.

بالتالي، فإن استمرار العمليات العسكرية العشوائية لقوات الإحتلال الإسرائيلية على قطاع غزة، والسيطرة على الأحياء السكنية في شرق رفح والأمر بإخلائها قسراً وعلى الفور، بالإضافة الى قطع الطرق والسيطرة على المنافذ الحدودية الرئيسة لدخول المساعدات الإغاثية وخروج المرضى والمصابين من "معبر رفح" الى مصر، واستخدام الحصار والمجاعة كسلاح للحرب، ما هي إلا أهداف إسرائيلية تتمثل بــ (الإبادة الجماعية العلنية)، وأن المضي الغاصب لتحقيق أهداف الكيان سيدفع إلى تصعيد الأوضاع الأمنية وتدهورها، بالإضافة إلى احتمالية تصاعد نشاطات القصف العشوائي لقوات الإحتلال الإسرائيلي على الإحياء السكنية، وهو ما يعني تهجير الفلسطينيين قسراً من مناطقهم بإتجاه صحراء سيناء المصرية، الأمر الذي يضفي إلى حدوث توتر كبير بين العلاقات المصرية الإسرائيلية، وهو ما حذر منه الرئيس المصري (عبد الفتاح السيسي) "بأن استمرار العمليات العسكرية العشوائية ستكون لها تداعيات أمنية وعسكرية خطيرة يمكن أن تخرج عن السيطرة"، وقال السيسي أيضاً في مؤتمر صحفي مع المستشار الألماني (أولاف شولتز)، "إن نقل الفلسطينيين إلى سيناء يعني نقل القتال هناك .. وإن سيناء ستصبح قاعدة للهجمات على إسرائيل، مضيفاً أن الهدف النهائي من حصار غزة هو نقل الفلسطينيين إلى مصر".

وأخيراً، أن سيطرة قوات الإحتلال الإسرائيلية على المعابر الحدودية، واستمرار أنشطة القصف العشوائي، والغاية الهادفة للتهجير القسري، ومنع وصول المساعدات الإغاثية للمدنيين الفلسطينيين، ما هو إلا وسيلة لإرتكاب إبادة جماعية أخرى وأخيرة، بالإضافة إلى أن الإخلال بإتفاقية السلام العربية، واقتحام معبر رفح، والغاية الإسرائيلية الساعية إلى تهجير الفلسطينيين إلى صحراء سيناء المصرية، هو ليس باستعراض بطولي ضد الحكومة المصرية انما هو تحدي كبير لأمن الدولة المصرية، لذا فإنه يجب على مصر أن تتحرك مع الدول العربية الأخرى تحركاً سوياً، للضغط على الولايات المتحدة الأمريكية من أجل إيقاف دعمها ومساندتها للحرب والإبادة التي ترتكبها قوات الإحتلال الإسرائيلية بحق المدنيين الفلسطينيين.

وفي خلاف ذلك، فإن العواقب إزاء عدم التحرك للحد من التحركات الإسرائيلية ستكون وخيمة، مما يهيئ لإسرائيل إمكانية السيطرة على المنطقة الحدودية، وإمكانية تحقق الهدف الإسرائيلي الرامي الى تهجير الفلسطينيين، بالإضافة الى تطبيق الغاية الرامية الى نقل معبر رفح إلى كرم أبو سالم المنطقة المخصصة للنقل التجاري، وهو ما سيؤدي إلى حدوث أزمات كبيرة وتصعيد أمني خطير على المنطقة كاملةً، ووفق بيانٍ صادرٍ عن الحكومة المصرية تحذر فيه حكومة (بنيامين نتنياهو)، من التداعيات الخطيرة المترتبة على العلاقات بين الطرفين وعلى الأوضاع الأمنية في حال استمرار تصاعد حدة العمليات العسكرية، فيما وتحملها المسؤولية الكاملة إزاء تدهور الوضع الأمني والإنساني الذي تمر فيه المنطقة وبالأخص قطاع غزة.

* باحث سياسي

اضف تعليق