على الرغم من الاختلافات الكثيرة بين دولة 1921، ودولة 2003، الا أن ظروف التأسيس تشابهت. فكلاهما تأسسا على يد المحتل، وكلاهما شهدا مرحلة تأسيس مليئة بالقلاقل والتوترات الأمنية، وكلاهما تبنيا «الأمن والحراسة» كأولوية أولى في هيكلهما، وفلسفتهما، وغاياتهما...
" الاهتمام بالناس وسعادتهم، وليس دمارهم، هي الغاية الأولى والوحيدة للحكومة الجيدة"
توماس جيفرسون Thomas Jefferson
اختصرت في المقال السابق أهم التحديثات التي يجب أدخلاها على ثقافة المجتمع العراقي وطريقة تفكيره. وقلت أن هذه التحديثات تحتاج الى جهاز Hardware يمكنه استيعاب هذه التحديثات وتنفيذها وأقصد به الدولة. نحتاج في العراق دولة جديدة تختلف كلياً عما سبق منذ تأسيس العراق في عام 1921 للآن. دولة فلسفتها الرفاه، ومادتها المواطنة، وغايتها الانسان.
حين قرر الإنكليز تأسيس دولة العراق، لم تكن هذه الغاية أو الفلسفة في خُلدهم. لقد كان العراق بالنسبة لهم قطعة مهمة (استراتيجيا) تم توارثها من الإمبراطورية العثمانية ضمن تركة كبيرة يجب أدارتها والسيطرة عليها بطريقة تؤمن أكبر عائد ومنفعة للوارث. وجاءت ثورة العشرين لتعزز أهمية السيطرة (الأمنية والنفعية)على هذه القطعة الجوهرة الجديدة المهمة في التاج البريطاني دون أن تسقط منه.
فهناك من جهة خطر المد القومي المتأجج بعد أن ساندت الثورة العربية الكبرى الإنكليز في أسقاط العثمانيين ،وهناك ثورة على الحاكم المحتل امتدت في كل أنحاء العراق، وهناك تمدد كبير في أملاك التاج البريطاني بحاجة الى ضبط وادارة وتقاسم مع الدول الكبرى الأخرى (كفرنسا).
جاء تأسيس دولة العراق أذاً لتحقيق غاية (أمنية استعمارية) وليس لخدمة الشعب العراقي. لذا تأسست أول دولة في العراق لخدمة المحتل وليس خدمة العراقيين. لقد تأسس الجيش العراقي قبل الدولة بسنة كاملة وهي حالة نادرة وربما غير مسبوقة تؤكد أهمية ضبط الأمن. وتم جلب ملك من خارج العراق أيضاً خشيةً من الطموحات الاستقلالية للعراقيين.
تأسيس دولة
هذا لا يعني أن من حكم العراق بعد 1921 لم يكن مخلصاً أو خادماً للعراقيين، لكنه يعني أن تأسيس الدولة العراقية كان لغاية أمنية وليس تنموية. كانت فلسفة ما يسمى بعلم السياسة بـ (الدولة الحارسة) هي الفلسفة التي تأسست عليها دولة العراق وهي فلسفة تم توارثها والتأكيد عليها عبر مناسبات وأحداث كثيرة ومتتالية منذ 1921 ولغاية 2003.
لقد أحصيت في كتابي عن ثقافة التصلب في العراق أكثر من 40 حرب داخلية وخارجية وقلاقل أمنية وانقلابات وحركات مسلحة، عاشها العراق، خلال قرن من الزمن منذ الحرب العالمية الأولى وخسر بسببها ملايين العراقيين، وكانت الدولة العراقية طرفاً أساسياً فيها كلها.
ولم تلعب أي مؤسسة في العراق دور سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي، موازي لما لعبته مؤسسة الدفاع أو الجيش طوال عمر الدولة العراقية ولغاية سقوطها على يد المحتل في 2003. فحتى في المرة الوحيدة التي حكم فيها العراق شخص ليس عسكري(صدام حسين)، فأنه كان مهووساً باللباس العسكري، والسلوك العسكري، والحكم العسكري والأمني.
على الرغم من الاختلافات الكثيرة بين دولة 1921، ودولة 2003، الا أن ظروف التأسيس تشابهت. فكلاهما تأسسا على يد المحتل، وكلاهما شهدا مرحلة تأسيس مليئة بالقلاقل والتوترات الأمنية، وكلاهما تبنيا «الأمن والحراسة» كأولوية أولى في هيكلهما، وفلسفتهما، وغاياتهما. واذا كانت الدولة العراقية الأولى قد تمكنت من استعادة الأمن بشكل أسرع، وأقل حدة نسبياً إلا ان الدولة العراقية الجديدة عاشت ظروف أمنية أقسى، وادارة أمنية وحكومية أسوأ، وتخبط أكبر.
هذا فضلاً عن فقدان الدولة العراقية لاحتكارها للقوة كما بقية دول العالم، وتشتت تلك الوظيفة الأمنية بالغة الخطورة بين أكثر من فاعل سياسي واجتماعي لا حكومي. لقد أدى فقدان الدورة لاحتكارها للقوة الى تخليها عن دورها الأمني لصالح فاعلين آخرين، وغذى ذلك مزيد من الشعور بالفوضى والضياع بين أفراد المجتمع، وهو الموضوع الذي تحاول كل المقالات التي كُتبت في هذه السلسلة معالجته. لقد فقدت مؤسسات القوة الاجتماعية الأربعة (الآيدلوجيا، والسياسة، والاقتصاد، والقوة العسكرية) أحدى أهم ركائزها بفقدانها لاحتكار القوة وتشتت تلك الوظيفة بين مؤسسات مختلفة (حكومية ولا حكومية).
وظيفة امنية
والمقلق في الموضوع أنه على الرغم من ان الثقافة السياسية للدولة العراقية ما زالت محكومة بالعقلية والوظيفة الأمنية كأولوية لها، الا أنها فقدت السيطرة على أدواتها أو مؤسساتها القادرة على تنفيذ تلك الوظيفة فزاد التخبط وزاد الشعور بالفوضى بين مستهلكي هذه الخدمة(أفراد المجتمع).
ليت الأمر أقتصر فقط على القوة العسكرية.
فقد شمل التغيير الكلي في موازين القوة الاجتماعية العراقية مؤسسات القوة الثلاث الأخرى (الآيدلوجيا والسياسة والاقتصاد).
اضف تعليق