q

من أبرز سمات البلاد المأزومة سياسياً في عالمنا الاسلامي، مراوحتها في "المربع الاول" كما يحلو للبعض إطلاق هذه التسمية، وعدم العبور صعوداً الى مراحل أبعد من "تقرير مصير المحكومين" و"الحرية" و"الخدمات العامة" وغيرها مما نراه مرفوعاً في شعارات المتظاهرين، ليصلوا الى مرتبة تقرير مصير الحكم أو التأثير عليه.

يبدو من المعطيات الموجودة استئناس النخبة الحاكمة بهذه المراوحة لتمضي وفق رؤاها الخاصة البعيدة المنهج العلمي للحكم الذي يعد الجماهير دعامة اساسية للنظام السياسي، في نمطه الجمهوري او البرلماني، وهذا ما ابتليت به بلادنا طيلة القرن الماضي، وما تزال، لذا نجد أن هوية الازمة في هذا البلد او ذاك، عنوانها سياسي مما يتعذر على الناس العاديين كقاعدة جماهيرية وحتى احزاب المعارضة من اختراق حصون الحكم للوصول الى اسباب وعوامل الازمة.

نعم؛ الازمة السياسية قائمة، بعوارضها المتعددة، من قبيل الفشل الاداري والفساد المالي والاستئثار بعناصر القوة في الدولة، كل هذا بوعي كامل من الحاكمين، لانهم هم من تسببوا بهذه العوارض المرضية الفتاكة، فاذا بلغت الجماهير مستويات عالية لمفاصل الازمة، يكون بإمكانها الاسهام في إنجاح مبادرات الحل من خلال صناديق الاقتراع أولاً؛ ثم خلال الاربع سنوات بالضغط الممنهج على النواب والوزراء لتقويم ما يحصل من اعوجاج في مسيرة العمل الوظيفي والمنهج وحتى السلوك. بمعنى أن يكون المواطن الرقيب الحقيقي فوق المسؤول في الدولة، أياً كان.

وهذا ما لم يحصل في العراق حتى الآن، طيلة التجربة الديمقراطية، وربما يستمر الوضع لأمد غير معلوم، والسبب في أن تغييب الوعي الجماهيري يبدو مطلباً تجمع عليه معظم الكتل السياسية، حتى فطنت الجماهير اسلوب "خلق أزمة للخروج من أزمة اخرى"، وجاءت هذه الفطنة بعد ضغوط وخسائر تكبدها الشعب العراقي بعد ظنه بأنه مطالب بالتضامن دائماً مع المسؤول الذي يواجه الازمات قبل ان يتحقق في منشأ الازمة ومصدرها. وفي فترة سابقة كانت الجماهير تعقد الأمل على "الرجل القوي"، ثم تبين أن هذه القوة تحولت عامل استنزاف خطير للموارد المالية وقدرات البلد بشكل رهيب. دفع بالعراق الى حافة الانهيار الاقتصادي.

إن تحقيق المطلب الجماهيري بمكافحة الفساد المالي والاداري –مثلاً- يتطلب معرفته بالوسائل والسبل المؤدية الى الهدف، وقد مرت تجارب عديدة في هذا المجال، حيث خرجت الجماهير في تظاهرات غاضبة، مرةً على أزمة الكهرباء، وفي وقت لاحق على الرواتب والامتيازات الخيالية للمسؤولين، ثم لمكافحة الفساد والمطالبة بالاصلاح، وفي كل هذه التجارب عادت الجماهير ادراجها دون ان يتحقق شيء على الارض، والسبب في ذلك أنها تعوّل على الرموز التي تراها امامها وليس على الوعي والمعرفة.

وهذا يذكرنا بتجربة مريرة عاشها الشعب الايراني في اول تجربة ديمقراطية له اوائل القرن الماضي وفي باكورة ما يسمى بثورة الدستور التي انتزعت صلاحيات عديدة من الملك، ولأول مرة في تاريخ ايران، وصبّها في برلمان يفترض ان يكون منتخباً. بيد أن الوعي غير المتكامل للتجربة، جعل هذا الشعب يقف صامتاً وحائراً أمام محاكمة رجل دين إصلاحي، وهو الشيخ فضل الله النوري، الذي دعا الناس الى إضفاء الشرعية على الدستور الجديد وعدم السماح للبنود المستوردة من الغرب من اختراق الدستور الايراني، فكان مصيره الاعدام شنقاً حتى الموت في اكبر ساحات العاصمة طهران وأمام أنظار الآلاف بتهمة محاربة الديمقراطية ومعاداة الشعب ونصرة الديكتاتورية...!!

وليس الشعب العراقي وحده معرض لهكذا عاقبة، بل أي شعب تقتصر رؤيته على أمور جزئية وظاهرية ويبتعد عن الجوهر والعمق، فهو ربما يعوّل على شخص ما ليكون طوق نجاة له من ازمته القاتلة، لكن لا يلبث أن يصطدم نفسياً ببعض الاجراءات غير المفهومة بالنسبة اليه فيقرأها خذلاناً ونكوصاً عن الوعود. بغض النظر عن بواطن الساسة وما يحملوه من نوايا واهداف في مسيرة عملهم السياسي. ولا أدلّ من الشعب المصري الذي ثار وضحى للخروج من قبضة الديكتاتورية، وخاض التجربة الديمقراطية، لكنه لم يلبث أن تخلّى عن هذه التجربة وتحوّل باعجوبة الى تأييد "القائد الضرورة".

هذا الوضع غير الحضاري له عوامل البقاء، متمثلة في بعض وسائل الاعلام ذات الرسالة التحريضية التي تتحدث عن المشكلة وليس العلاج. وايضاً في جماعات وتنظيمات ذات توجهات فئوية همها التحشيد لتحقيق اهداف خاصة لا علاقة لها بالوطن والمواطن ومستقبله ومصيره.

وبكل بساطة؛ إن بلغ الشعب العراقي مستويات من الوعي سيجد أن الجميع بلا استثناء مسؤولون بشكل أو بآخر عن كل ما يجري من فساد وانحراف وضياع، وليس جماعة دون أخرى، أو شخص دون آخر. ومن هذا المربع والمكانة الجديدة، يكون بامكانه اتخاذ الموقف المناسب من الازمة بغية الوصول الى صيغة ناجعة و حقيقية لمعالجتها، من خلال ايجاد البديل المناسب واتباع الخيارات الصالحة. وليس اضافة فوضى جماهيرية وفق الفوضى السياسية القائمة.

اضف تعليق