تكمن أخطر منابع التطرف في إخفاق المؤسسات التربوية في تعليم أجيال المستقبل ثقافة الحوار والاعتراف بالآخر، وضعف علماء الدين المتنوّرين ونشاط الخطابات المتشددة، وتحول المدارس والمنابر إلى ميادين لنشر ثقافة الكراهية وإلغاء الآخر، وهو ما لا نلمحه في مجتمعات انتهجت العلم سبيلًا للتقدم، فتقدمت معيشتها ورغدت...
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب تكوين الشخصية المتطرفة: النماذج التربوية نموذجًا، وهو من تأليف يوسف إبراهيم سلّوم، ويحتوي على مقدمة وأربعة فصول وخاتمة وملاحق تركز جميعًا على دراسة ظاهرة التطرف عامة والتطرف الإسلامي خاصة، ويتطرق إلى تجربة الحركات الإسلامية في التطرف، ويخص بالبحث تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" و"جبهة النصرة"، وبخاصة ما يتعلق بفترة سيطرتهما على مساحات من سورية والعراق، وخصوصًا سورية، مسلطًا الضوء أكثر على تجربتهما التربوية في مدارسهما. يقع الكتاب في 392 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
كان العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين من أخطر المراحل التي مرَّ بها العالم العربي منذ هزيمة 1967، فمع اتجاه الشعوب العربية نهاية عام 2010 نحو إزاحة مكامن الاستبداد السلطوي ونجاحها في خلع زين العابدين بن علي في تونس، ثم محمد حسني مبارك في مصر، وعلي عبد الله صالح في اليمن، ومعمر القذافي في ليبيا، استشعرت بامتلاك زمام المبادرة والتغيير، وأن بشائر الحريات العامة بدأت تلوح، ولكنْ سرعان ما قَطعت الانقلاباتُ والفوضى وعسكرةُ الثورات وصراعُ الهويات مساراتِ هذا التحول، بعد الدخول في الثورة المضادة بمصر، والحرب الأهلية في ليبيا واليمن، وبروز الحركات الإسلامية الراديكالية الجهادية العنيفة والفصائل والميليشيات الطائفية المسلحة في سورية والعراق، فسقط العالم العربي مرة جديدة في حقبة من العنف، وتعثرت مشاريع بناء الدولة فيه، وارتفعت معدلات الفقر ومنسوب الاستبداد والتطرف جماعيًّا لا فرديًّا، وفعليًّا لا فكريًّا، وتطبيقيًّا لا تنظيريًّا فقط؛ ما انعكس كراهية ورفضًا للآخر. وفي حين وصف بعضُهم التغييرَ الحاصل بـ "الربيع العربي"، نعته آخرون بالتمرد والعصيان والتخريب، وآخرون وصفوا الحركات الإسلامية بـ "سنوات الصحوة"، والحركات الجهادية المقاتلة بأنها "أحداث تثبتها أحاديث الفتن والملاحم الممهدة لعودة الخلافة".
التطرف: أسبابه ونتيجته
ليس التطرف السلوكي سوى انعكاس لتطرف فكري سابق، وهو لا يقتصر على الحالة الدينية فحسب، بل يتعداها إلى السياسية والعلمانية، فمثلًا لا يختلف التطرف اليساري عن تطرف يميني نفّذ تفجيرَ مبنى الحكومة الفدرالية في أوكلاهوما وارتكب مجزرتَي مخيم المراهقين في النرويج ومسجد النور ومركز لينود الإسلامي بنيوزيلندا، كما لا يختلف التطرف الديني عن العلماني، فلا يختلف رينو كامو Renaud Camus صاحب نظرية "الاستبدال العظيم" Théorie du grand remplacement، وإريك زيمور Éric Zemmour صاحب كتاب الانتحار الفرنسي Le Suicide français في تطرفهما عن سيد قطب صاحب كتاب معالم في الطريق، وأبي محمد المقدسي صاحب كتاب ملةإبراهيم، كما لا يختلف ولع تنظيم داعش بنهاية الزمن وعودة المسيح عن ولع الإنجيليين المتطرفين وجماعات الألفيين المترقبين بشغف تلك العودة، ولا يختلف تبرُّؤه من المخالفين في العقيدة ولو كانوا من ذوي الأرحام عن عقيدة النازيين أو العقيدة الشيوعية بوجوب التجسس على الأهل لاكتشاف ولائهم، وكذلك لا تختلف الدعوة إلى "الهجرة" عند بعض الجماعات الإسلامية عن دعوات "تشي غيفارا" وبعض اليساريين للهجرة إلى البؤر الثورية في العالم.
وبهذا، عرفت كل المجتمعات البشرية ظاهرة التطرف، فهو لا يختص بزمن دون آخر، ولا بمجموعة بشرية دون غيرها، وسيظل موجودًا ما دامت الحياة. إلا أن هذا الإقرار لا ينفي عن التطرف صفة المَرَضية، إنه كالحرائق أمرها طبيعي لكن التسليم بطبيعيتها لا يقتضي عدم الإقدام على إطفائها، ولمّا كان القضاء على العنف والتطرف كليًّا صعبًا عزيزَ المنال، فإن المطلوب الحدُّ منه وتقليص أخطاره ما أمكن.
تكمن أخطر منابع التطرف في إخفاق المؤسسات التربوية في تعليم أجيال المستقبل ثقافة الحوار والاعتراف بالآخر، وضعف علماء الدين المتنوّرين ونشاط الخطابات المتشددة، وتحول المدارس والمنابر إلى ميادين لنشر ثقافة الكراهية وإلغاء الآخر، وهو ما لا نلمحه في مجتمعات انتهجت العلم سبيلًا للتقدم، فتقدمت معيشتها ورغدت في المسكن والملبس والصحة وحماية حقوق الإنسان، فهل سمعنا يومًا بشابٍّ كوري جنوبي مثلًا فجّر نفسه في حافلة بكوريا الشمالية؟ أو شاب مسلم ماليزي فجّر نفسه في مكان مغاير لثقافته ومعتقده؟ إن سرَّ ذلك في التعليم الجيد، الذي رفع مستوى الناس الفكري والحضاري، فهل هي مصادفة أن تكون الدول الأدنى في جودة التعليم هي السابقة إلى العنف والتطرف؟
هدف الكتاب
إن فهم ظاهرة التطرف وتحليلها هو ما حاول كتاب تكوين الشخصية المتطرفة أن يقف عليه، بدراسة الحالة التربوية المرتكزة إلى النصوص الدينية والتراثية وفق الرؤية السلفية الجهادية، التي لا تنطبق فقط على المنهجية العقائدية لداعش، بل على تنظيمَي جبهة النصرة و"هيئة تحرير الشام" معًا، اللذين اعتمد داعش على مناهجهما التربوية في سلسلة مدارس دار الوحي الشريف في المناطق الخاضعة لسيطرتهما، ليحيك فلسفته وسياسته. كما يتناول الكتاب عوامل تكوين الشخصية الإسلامية المتطرفة: العقائد، والأساليب التربوية، والمناهج التعليمية، وتعميمات "داعش" التربوية في مدارسه التي عكست أيديولوجيته ونظرته إلى الفرد والمجتمع والدولة.
ويحاول الكتاب الإجابة عن تساؤل أساس وتساؤلات متفرعة منه حول تشكُّل البنى المولدة لتطرف التنظيمات الإسلامية، والمؤثرات المساهمة في تكوين الشخصية العربية، وطبيعة الذوات التي تنقاد للمتطرفين، والعلاقة بين التطرف والفقر، وبين البيئة العنيفة والأشخاص العنيفين ومن منهما يصنع الآخر، ودور التربية والتعليم في كل ذلك.
أقوال في تكوين الشخصية المتطرفة
يستعرض مؤلف تكوين الشخصية المتطرفة أقوال علماء الاجتماع في العنف عبر التاريخ، موردًا قول ول ديورانت Will Durant بأن الحروب هي من أعظم ثوابت التاريخ، وأن السلام غير مستقر ولا يمكن الحفاظ عليه إلا بتفوق قوة عادلة، وأن التاريخ في عمومه هو صراع لم ولن يتوقف ويشكل أهم عوامل تغيير مسار الحضارات. وكذا قول الفيلسوف اليوناني هيرقليطس Hèraclite: "الشقاق في الحياة أبو الأشياء ومَلِكها"، وإن الأشياء توجد في الحياة مع نقيضها، وفي هذا تكامل للحياة؛ لأن الأشياء لا يَظهر حسنُها إلا بضدها، وهو مبدأ أقره الإسلام بقول الله في القرآن الكريم: ﴿ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض﴾ (البقرة: 251).
وبناءً عليه، فإن الاختلاف والتضاد ليسا بالضرورة سلبيَّين، بل قد يكونان واجبَي الفعل، وفي حاجة إلى قوة صلبة تحميهما كمؤسسات الجيش والأمن، أو ناعمة كقيم المجتمع وواجباته المصونة بالتشريعات لأجل حفظ أمنه وهدوئه وتأمين ثقافة التعدد ونفي التوجه الأحادي فيه، وللخروج عن المألوف باتجاه التغيير بفعل التداخل الثقافي والحضاري لفئات ذات اتجاهات مختلفة، وهو تغيير لا يروق لبعضهم ويتجهون إلى وقفه، إما باستخدام طرق القوة الحادة، وإما بالقوة الناعمة، كتشكيل مجموعات الضغط أو المواجهة الإعلامية أو الاقتصادية أو السياسية أو الدينية، وإما بالانكفاء إيجابيًّا من خلال المشاركة فور توفر الظروف الملائمة، وإما بالانكفاء سلبيًا وأخذ موقف المتفرج أو اللجوء إلى الهجرة.
ويعتبر الكتاب أن لكل أمة دينامياتها للتغيير، ففي بعضها يكون عامل التغيير عسكريًّا، وفي أخرى دينيًّا، أو سياسيًّا، أو اقتصاديًّا، أو اجتماعيًّا، أو جغرافيًّا أو نفسيًّا. وفي أحيان يكون التغيير مجموعةً من هذه العوامل، فقد فسّر عالم النفس والاجتماع الأميركي أبراهام ماسلو Abraham Maslow في نظرية الدافعية الإنسانية Human Motivation Theory الحاجات الإنسانية، وهي الفيزيولوجية التي تخدم البقاء البيولوجي، مثل الأمان والحب والانتماء والتقدير والمعرفة ووجود نظام اجتماعي عادل ... وغيرها، التي يرتدّ أي نقص فيها سلبيًا ويترجَم نوعًا من التوتر والضيق، وصولًا إلى العنف، كما في المجتمعات العربية، التي تصدّع فيها سلم الأولويات بشكل واضح، فالنظام الاجتماعي ضعيف، وحقوق الإنسان غير محترمة أو أنها لا تؤمَّن إلا عبر العلاقة بمصادر سلطوية، ولا يوجد تنمية اجتماعية حقيقية، أو رعاية صحية متقدمة، أو شعور بالأمان نفسيًّا وماديًّا، وكذلك تغيب التربية المتوازنة، والتعليم المتقدم؛ ما سبب اضطرابًا اجتماعيًّا نشأت في بيئته أحزاب وجمعيات وجماعات معارضة تركِّز في خطابها على المظلومية وعدم القدرة على تأمين الحاجات الأولية، فربحت رصيد الدولة من التأييد، أما الدينية منها، فطرحت الأولويات معكوسةً؛ إذ بدأت بإقامة الخلافة قبل تأمين حاجات الإنسان.
أثر النظرة إلى الآخر في التطرف
صحيحٌ أن الاختلاف من ثوابت الحياة كما سلف القول، إلا أنه يجب أن يُترجَم بطريقة تحافظ على الأمن والسلام، عبر إدارة النزاع مع الآخر المختلف بنجاح؛ ما يساهم في التكامل الحضاري للمجتمع، فأعظم قوة هي قوة الأفكار، وأعظم قادة التاريخ هم أسياد الثنائيات، أما اعتبار الآخر خصمًا لدودًا فيمكن أن يعصف بأمن المجتمع لأبسط الأسباب، كقتل أشخاص كثر بسبب لعبة كرة قدم إما على مدرجات ملاعب عدة في العالم أو حتى على حدود الدول وبين الجيوش، كالحرب التي اندلعت في عام 1969 بين السلفادور والهندوراس إثر خسارة الثانية أمام الأولى التأهل إلى مباريات كأس العالم، واستمرت هذه الحرب ستة أيام وذهب ضحيتها عشرة آلاف قتيل.
ولكي نحكم على سلوكٍ ما بالتطرف يجب أن نتحاكم إلى نموذج مثالي، وهذا ممكن في المجتمعات المستقرة، أما تلك التي تمر بتحولات فإنها تفتقر إلى هذا النموذج مرجعًا للحكم. وفي هذا الإطار، يُعتبَر تعريف الأميركي إريك هوفر Eric Hoffer أن المتطرف هو "مَن يدّعي امتلاك الحقيقة، الأحادي التفكير، الرافض للتعددية، المُؤَبلِس الآخر المختلف، المقتنع بقدسية قضيته، الرافض للحوار" هو الأقرب إلى الصواب، وينطبق على أفراد التنظيمات والحركات الراديكالية الإسلامية المتطرفة، أضفْ إلى هذه الخصال أنهم إلهيو المرجعية، طهوريو المصدر، مقبولٌ قولُ "علمائهم" مرفوضٌ غيرُه، من اتبع إيمانَهم موحد، ومن خالفه يستحق الموت لرفضه الحق.
وضمن هذا الاتجاه برز دور تنظيم داعش وأمثاله، المتمثل في هدم الأوضاع القائمة وتجريدها من الشرعية والجهاد لتغييرها، وربط الأمر بما لا يمكن الخلاف فيه، وهو أصول الدين والعقيدة، منقِّبين فيهما عن أدلة شرعنة الخروج على الحكام بالسلاح ولو باجتزاء النصوص أو إسقاطها على غير ما استدل بها أصحابها، حيث شكل تراث ابن تيمية الأساسَ الفكري لهم، ووجدوا في تراث الدعوة الوهابية ضالتهم، مع أن الشأن التربوي لا يقتصر على الدروس التعليمية الصفّية بل يتعداها إلى التنمية والسياسة والقيادة، كما قرر ابن سينا في كتاب في السياسة، الذي ضمنه شرحًا لسياسة الرجل نفسه ودخْله وخرْجه وأهله ووَلَده وخَدَمه، كما أن التربية تكاملٌ بين المجتمع والأمة والدولة، وهو مفهوم استطاع اليهود من خلاله الحفاظ على عاداتهم واعتقاداتهم حية خلال عصور تشردهم.
منظومتا داعش والنصرة التربويتَان
لم يرْقَ ما اعتمدته التنظيمات المتطرفة في القرن العشرين من تثقيف حزبي وتعبئة أيديولوجية إلى مستوى منظومة تربوية، أما تنظيم داعش فيُسجَّل له إنتاج منهجية تربوية شاملة من رياض الأطفال حتى المرحلة الجامعية، كما أنشأت جبهة النصرة منظومة مشابهة، وكلتا المنظومتين لا تخرج عن وضع المعارف ضمن قيم السلفية الجهادية، ورؤية العالم بعين الأيديولوجيا الإسلامية، وإسناد ما يجب أن تكون عليه الأمور إلى زمن دولة المدينة المنورة، ووجوب إعداد جيل مقاتل يبني الخلافة ويقضي على الطاغوت العالمي. أما المضمون المعرفي لكتب منظومة الطرفين التربوية، فأحادي التوجه، تغيب فيه أساليب النقد والحوار والبحث.
أقسام الكتاب
يتناول الفصل الأول بعض النظريات الكلاسيكية وأهم الأحداث واللحظات التاريخية العربية المعاصرة، وأثر "الموقف" في تكوين البنى اللاوعية المؤثرة في تشكيل الشخصية العربية وانعكاساتها العنفية.
أما الفصل الثاني، فيتناول مركزية التيارات الجهادية القتالية في الحداثة والتفسيرات العامة التي حللت أسباب التطرف الديني الإسلامي، والمسار التاريخي للسلفية الجهادية ورؤيتها العقائدية وأصولها الخمسة. ويعتبر هذا الفصل مدخلًا أساسيًّا لفهم الأسس التي بُني عليها المنهج التربوي للتنظيمات الإسلامية المتطرفة.
ويشرّح الفصل الثالث نموذج مجتمع تنظيم الدولة الإسلامية، باستنطاق وثيقة المناهج الدراسية واستخراج الفلسفة التربوية منها، وسياسة المنهاج التعليمي واستراتيجيته والغاية منه، والأهداف الخاصة بكل مرحلة تعليمية وكل مادة تدريسية، واستراتيجيات التعليم والتقويم، وتبيان مخرجاتها.
ويتناول الفصل الرابع تحليل المحتوى الوصفي والمعرفي للمناهج التربوية من خلال تصاميم الكتب الدراسية ومواصفاتها، ومحتوى مواد المقررات الدراسية كافة؛ الشرعية منها واللغوية والعلمية، والمواد الإجرائية.
وفي الخاتمة يستنتج مؤلف كتاب تكوين الشخصية المتطرفة، أنه بالرغم من اعتبار منظومة داعش التربوية والإعلامية متقدمة وتضاهي المناهج التربوية الحديثة ومراكز الإعلام العالمية، فإن التنظيم عندما كفّر المسلمين واستحلّ دماءهم جعل إقامة الخلافة حلمًا مخيفًا بعد أن كان أملًا منشودًا، كما قضى عمليًّا على شعارات "الصحوة" وحتميات الحل الإسلامي التي نادت بها الجماعات الإسلامية، وحوَّل "الخلافة" رعبًا مقيتًا؛ إذ بات يقال للناس بعده: تريدون إقامة الخلافة؟ هذا داعش نموذجًا!
اضف تعليق