ليس جميع دعاوى المحكمة الاتحادية العليا من الدعاوى الدستورية، وانما فقط تلك الدعاوى التي يكون الطلب فيها هو الحكم بعدم دستورية أي نص تشريعي او في نظام او تعليمات، وما عدا ذلك فإنها تنظر في الدعاوى باعتبارها محكمة موضوع مثلها مثل سائر المحاكم الأخرى، وتتقيد بالنصوص...
1. عرف الفقه الدعوى الدستورية بمعناها العام هي كل دعوى متعلقة بمسألة من مسائل الدستور والتي ترفع أمام المحكمة الدستورية المختصة في الدولة، أما معناها الخاص فيتمحور حول دعوى دستورية القوانين ويراد بها مخاصمة القانون المخالف للدستور بدعوى أصلية يرفعها الطاعن أمام القضاء[1].
2. ومن خصوصية الدعوى الدستورية، فإنها لا تشبه الدعاوى في القضاء الاعتيادي فهي تجمع بين أسلوب الدعوى الاعتيادية بمعنى ممكن إقامتها من مدعي ذي مصلحة على مدعى عليه، ومن الممكن أن تكون على شكل دفع او طلب من جهة حددها القانون، وانها دعوى عينية وشخصية، لأن المدعي في هذه الدعوى قد يكون فرد أو هيئة من هيئات الدولة، والمدعى عليه هو القانون المطعون في دستوريته، فضلا عن توفر شرط المصلحة في الدعوى لمن يرفعها، أي أن يكون قد أصابه ضرر، أو احتمال حصوله في حالة تطبيق القانون عليه بمعنى ان الدعوى الدستورية تجمع بين الطبيعة العينية لان أصل الدعوى يتعلق بخصومة تجاه القانون أو النص القانوني المطعون فيه ولا تمثل حقاً شخصياً مثل طلب التعويض أو غير ذلك
3. كما تمتاز تلك الدعوى بان المحكمة الدستورية لا تقف عند طلبات المدعي أو الطاعن فيها، وإنما لها ان تبحث في أي أمر يتعلق بدستورية النص وتفتش عن الأسباب الأخرى التي تغافل عنها المدعي او الطاعن، بمعنى ان القاضي الدستوري يقلب القانون على كافة وجوهه حتى لو لم يذكرها المدعي، وهذا الأمر وان كان محل جدل وخلاف فقهي لدى المختصين في القانون الدستوري لان بعضهم يقصر الأمر على ان الدعوى الدستورية هي دعوى عينية فقط[2]، الا ان المشرع العراقي مثلما فعل المشرع المصري أضفى على الدعوى الدستورية جانب آخر يتعلق بالصفة الشخصية حينما اشترط في المدعي المصلحة وان يكون قد تضرر من القانون محل الطعن.
4. ومن الخصائص الاخرى للدعوى الدستورية وجوب أن تتضمن الدعوى مطالبة المحكمة بإلغاء ذلك القانون الذي يتعارض مع الدستور أو إعلان عدم دستوريته بحسب ما يقرره الدستور أو القوانين المختصة ومن ثم تكون النصوص القانونية هي محل الخصومة الدستورية أو هي بالأحرى محلها، وهي لا تبلغ غايتها إلا بإهدار تلك النصوص بقدر تعارضها مع الدستور[3]، وأشارت إلى ذلك المحكمة الدستورية العليا في مصر في قرارها الصادر في الدعوى 1 لسنة 8 قضائية دستورية مشتركة مع الدعوى 2 لسنة 6 قضائية دستورية وعلى وفق الآتي ( الأحكام الصادرة في الدعاوى الدستورية هي بطبيعتها دعاوى عينية، توجه الخصومة فيها إلى النصوص التشريعية المطعون عليها بعيب دستوري، تكون لها وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة حجية مطلقة حيث لا يقتصر أثرها على الخصوم في الدعاوى التي صدرت فيها، وإنما ينصرف هذا الأثر إلى الكافة وتلتزم بها جميع سلطات الدولة، سواء كانت هذه الأحكام قد انتهت إلى عدم دستورية النص التشريعي المطعون فيه أم إلى دستوريته ورفض الدعوى على هذا الأساس)[4].
5. كذلك فان الدعوى الدستورية هي التي تتعلق بالرقابة على دستورية القوانين حصراً، ولا خلاف على ذلك سواء على مستوى الفقه او غيره، الا ان بعض المحاكم تنظر بالرقابة على دستورية القوانين، إضافة لمهامها الأخرى، حتى لم لم يسميها الدستور او القانون بالمحكمة الدستورية، الا ان نشاطها يكون بمثابة المحكمة الدستورية فيما يتعلق حصرا بالرقابة على دستورية القوانين، اما المهام والصلاحيات الأخرى فان لها وصف اخر يتفق وطبيعة تلك المهام،
6. الدستور العراقي حينما اقر وجود المحكمة الاتحادية العليا فانه لم يقصد ان تكون محكمة مختص بالقضاء الدستوري فقط، وانما منحها مهام وصلاحيات أخرى تتولى من خلالها المحافظة على النظام الفدرالي في العراق، وذلك من خلال صلاحية فض النزاع بين مكونات الدولة الفدرالية سواء بين الأقاليم والمركز او بين الأقاليم والمحافظات او بين الجميع، فاعتبرها الهيئة القضائية الأعلى في البلد، واختصاصها يشمل جميع الأراضي العراقية، على خلاف بقية الهياكل القضائية الوارد ذكرها في الدستور.
7. وعند النظر في الاختصاصات والمهام التي تتولاها المحكمة الاتحادية العليا فإنها وردت على سبيل الحصر في الدستور العراقي النافذ، وفي ثلاث مواد فقط المادة الرئيسية في تحديد الاختصاص وهي المادة (93) التي حددت الاختصاصات في ثمان فقرات، كما وردت اختصاصات أخرى في فقرات فرعية، في المادة (52/ثانيا) المتعلقة بالطعن في قرار مجلس النواب بصحة عضوية النائب، وفي المادة (61/سادساً/ب) المتعلقة بإدانة رئيس الجمهورية،
8. ولابد من التنويه الى رأي سبق وان عرضته وما زالت اتبناه، والمتمثل بعدم جواز إضافة أي مهام أخرى الى المحكمة الاتحادية العليا لم يرد بها نص في الدستور، لان إضافة اختصاص أو سلب اختصاص من المحكمة الاتحادية العليا هو بمثابة تعديل دستوري لا يجوز لمجلس النواب ان يمارسه، وإنما يجب ان يكون على وفق اليات تعديل الدستور
9. وعند العودة الى قرار المحكمة الاتحادية العليا محل القراءة نجد ان موضوع الدعوى كان طلب المدعي بإلغاء البند (16) من قرار مجلس الوزراء رقم 24043 لسنة 2024 والامر الوزاري الصادر عن وزير التربية العد 4920 في 13/2/2024، وهذه الدعوى بمضمون طلب المدعي لم تتضمن طلب الحكم بعدم دستورية أي نص تشريعي او نظام او تعليمات، لان المادة (93/أولا) من الدستور منحت المحكمة الاتحادية العليا صلاحية الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة والتعليمات حصراً وعلى وفق النص الاتي (تختص المحكمة الاتحادية العليا بما يأتي: أولا: الرقابة على دستورية القوانين والانظمة النافذة).
10. لذلك فان المدعي قد أسس دعواه استناداً الى الصلاحية الممنوحة للمحكمة الاتحادية العليا على وفق احكام المادة (93/ثالثا) من الدستور التي جاء فيها (الفصل في القضايا التي تنشا عن تطبيق القوانين الاتحادية، والقرارات والانظمة والتعليمات والاجراءات الصادرة عن السلطة الاتحادية، ويكفل القانون حق كل من مجلس الوزراء وذوي الشأن من الافراد وغيرهم حق الطعن المباشر لدى المحكمة).
11. تخرج هذه الدعوى عن نطاق الدعوى الدستورية وانما تكون من دعاوى فض النزاع التي تنظرها المحكمة الاتحادية العليا باعتبارها محكمة موضوع انيط بها النظر في النزاع الناشئ عن تطبيق القوانين الاتحادية وعلى وفق الاختصاص الوارد في المادة (93/ثالثا) من الدستور،
12. السبب الرئيسي لعدم اعتبار تلك الدعوى من الدعاوى دستورية، يعود الى عدم وجود طعن باي نص تشريعي او في نظام او تعليمات، وانما كان طلب الغاء قرار اتخذته السلطة التنفيذية بمناسبة تطبيقها للقانون،
13. لكن ما يلفت النظر اليه، ان المحكمة الاتحادية العليا بقرارها محل القراءة والنظر قد بينت في أسباب رد الدعوى الى ان هذه الدعوى هي دعوى دستورية ويجب ان يتوفر فيها شرط المصلحة، وعلى وفق ما ورد في السطر العاشر من الصفحة الأخيرة من قرار الحكم، وانها اضفت عليها صفة الدعوى الدستورية على خلاف الواقع الدستوري،
14. لذلك فان المحكمة الاتحادية لها وبموجب الدستور ان تنظر في الدعاوى الدستورية بموجب رقابتها على دستورية القوانين الواردة في المادة (93/اولا) من الدستور حصراً، وان تنظر دعاوى أخرى بموجب سائر الاختصاصات باعتبارها محكمة موضوع تفصل في نزاع بين شخصين من اشخاص القانون سواء كانوا الاشخاص الطبيعية او المعنوية، وتجري مرافعاتها بموجب قواعد المرافعات في قانون المرافعات المدنية، على خلاف نظرها الدعوى الدستورية فلها ان تتجاوز نص قانون المرافعات بمقدار خصوصية الدعوى الدستورية، باعتبار ان الخصم فيها النص الطعين وليس شخص معنوي او طبيعي، ومن هذه الخصائص، ان للمحكمة ان تنظر في اكثر مما يطلبه المدعي، على خلاف الدعوى الاعتيادية، التي لا يجوز فيها ذلك والا عد الحكم قد وقع فيه خطأ جوهري على وفق احكام المادة (203/5) من قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 المعدل.
الخلاصة:
مما تقدم عرضه فان ليس جميع دعاوى المحكمة الاتحادية العليا من الدعاوى الدستورية، وانما فقط تلك الدعاوى التي يكون الطلب فيها هو الحكم بعدم دستورية أي نص تشريعي او في نظام او تعليمات، وما عدا ذلك فإنها تنظر في الدعاوى باعتبارها محكمة موضوع مثلها مثل سائر المحاكم الأخرى، وتتقيد بالنصوص الإجرائية الواردة في قانون المرافعات والنصوص الأخرى، ولا يجوز مخالفة او اهمال أي من تلك النصوص باعتبار القواعد الإجرائية من النظام العام التي لا يجوز مخالفتها، والمخالفة ترتب البطلان لأنه متعلق بالنظام العام أيضا وعلى وفق ما أشار اليه الفقه القانوني[5]، وهذا ما ورد في الأسباب الموجبة لقانون المرافعات المدنية حيث جاء في تلك الأسباب بان القواعد الإجرائية من النظام العام، التي لا يجوز مخالفتها او الاتفاق على خلا ف ما ورد فيها، حيث جعلها علاقات قانونية لا يمكن ان يتم كسرها او خرقها حتى لو كان باتفاق الخصوم انفسهم.
والدعوى التي صدر بموجبها الحكم محل البحث العدد 87/اتحادية/2024 في 30/4/2024 لا يمكن ان تكون من الدعاوى الدستورية، وانما دعوى طلب الفصل بنزاع ناشئ عن تطبيق القوانين، وتنظره المحكمة الاتحادية وتفصل فيه باعتبارها محكمة موضوع، وقد يتنازع الاختصاص معها القضاء الإداري باعتبار ان الطعن انصب على الغاء قرار يمثل نشاط اداري تمارسه السلطة التنفيذية ممثلة بمجلس الوزراء وامر اداري صادر عن وزير التربية.
اضف تعليق