فكان الاختراع الأوربي في فتح قنوات خاصة لمسلمين في طبقات معيَّنة وهي الخامات الشرقية تحت شعار (حرية الرأي) ليتكلَّموا عن القرآن الكريم والعقائد الإسلامية وما يؤمن به المسلمون؛ بطريقة استهزائية من جانب وطرح إشكالات قد تبدو أنها رصينة من جانب آخر، وهذه الإشكالات كان الاستشراق الأوربي قد...
الاستشراق: هو اختراع أوربي يتصرف بخامات شرقية بأدوات غربية.
من منطلق هذا التعريف نستنبط مدى تأثير الاستشراق بنفسية العربي الشرقي أو بالمسلم بصورة عامّة، حيث استغل الأوربيون النفسية العربية المتأثرة بالقرآن الكريم الذي سمح للمسلمين التعاطي مع الأفكار الأخرى واستجلاب التنمية البشرية الأوربية وحريّة الرأي والدين من خلال مجموعة من الآيات القرآنية، منها:
1- حرية العقيدة: أشار القرآن الكريم إلى حرية العقيدة، وإنَّ كل فرد له الحق أن يختار العقيدة التي يراها حقة وفق معطيات تتجمع لديه، أو من خلال أبويه، وذلك ما جاء في قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}{البقرة/256}. وكذلك في قوله تعالى مخاطبة نبيه الكريم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله): {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}{يونس/99}. فصارت الأفكار والتبشير مباح في الأقطار الإسلامية مما مهد لإنتشارها.
2- التعامل مع الذمي: شجّع الإسلام على التعامل مع الذمي وفق إنسانيته، وصار يُعاملهم معاملة المسلمين عليهم واجبات ولهم حقوق، وقد جاء ذلك في قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }{العنكبوت/46}.
3- مجادلتهم بالتي هي أحسن: حثَّ الإسلام على مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، وإن أصرّوا على رأيهم يجب تركهم ولا يجوز فرض الفكرة الإسلامية عليهم، وهذا ما أشارت إليه الآية المباركة: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}{آل عمران/64}.
4- الأمانة: أشارت العقيدة الإسلامية إلى الأمانة التي يتمتع فيها بعض أهل الكتاب، وهذا ما دفع المسلمين إلى الأمان لهم وعدم تخوينهم، فقد جاء ذلك في قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }{آل عمران/75}، وقد استغل الاستشراق ذلك ايّما استغلال من بث أفكاره من خلال تأمين المسلمين لهم.
5- ايمانهم بالله: جاء في القرآن الكريم إنّ من أهل الكتاب مؤمنون بالله كإيمان المسلمين به، لذا يجب معاملتهم كمعاملة المسلمين، منه ما جاء في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }{آل عمران/199}.
كلُّ هذا وغيره جعل المسلمين يتعاملون مع أهل الكتاب كمعاملتهم فيما بينهم، وكذلك الإنفتاحة التي حدثت للمسلمين بعد الفتوحات الإسلامية وما عقبها من الثورة الصناعية الأوربية وغيرها من الحوادث كانت أدوات جذب إلى العقلية الإسلامية وقبولها بما يُقدمه الاستشراق الأوربي.
ومن هذا استغل العقل الأوربي ميل الفكر الشرقي إليه؛ فقام باستقطابه وعرض ما لديه من أفكار، ومن ذلك حاول تسهيل الأمور للفكر الشرقي بالوصول إلى عمق أوربا وتغذيته بما يُريدون ومن ثمَّ تسليحه بالفكر المادي ليُسقطه الشرقي على عقيدته، ومن هنا ألحدَ البعض من الشرقيين الذين آمنوا بالفكر المادي، لأنَّ العقيدة الإسلامية جلّها مؤمنة بالغيب، فالله غيب، والملائكة غيب، الجنة غيب، النار غيب، وغيرها من الأمور العقدية في الإسلام.
فصار ــ بعد ذلك ــ بعض الشباب المسلم فريسة سهل الإستحواذ على فكرها وأصبحت سهلة الإنقياد، وبالإضافة إلى ذلك سقم بعض التراث الإسلامي الذي يحمل في طياته ألغاماً شديدة الإنفجار، وتحمل كثير من علامات الاستفهام، فالإشكال الذي يُورده المستشرق سهل الحصول عليه، من التاريخ إلى بعض كتب الحديث والعقائد والتفاسير، إلى الخطباء... إلى آخر القائمة.
فكان الاختراع الأوربي في فتح قنوات خاصة لمسلمين في طبقات معيَّنة وهي الخامات الشرقية ـــ تحت شعار (حرية الرأي) ـــ ليتكلَّموا عن القرآن الكريم والعقائد الإسلامية وما يؤمن به المسلمون؛ بطريقة استهزائية من جانب وطرح إشكالات قد تبدو أنها رصينة من جانب آخر، وهذه الإشكالات كان الاستشراق الأوربي قد وضع يده عليها منذ زمن، ولمَّا لم يحصل على الآذان المصغية الكافية؛ جاء بأسلوب آخر، وهو الخامات الشرقية ليكون الكلام مؤثراً في العقل الشرقي تأثيراً كبيراً، والجانب الاستشراقي قام بترويج هذه الأفكار ترويجاً منقطع النظير ليظهر من خلاله مجموعة من الخامات الشرقية تحمل فكراً أوربياً محضاً، فكانت الأدوات الأوربية قوية جداً في وصول أصوات الخامات الشرقية إلى أبعد نقطة يتواجد فيها العقل الشرقي.
وكذلك نجح الاستشراق بجذب العقول التي لا يُستهان بها من الشرق وتهيأة الأمور اللازمة لهم من تجنيس وتعيين وإغداق الأموال إليهم، حتى أنهم وصلوا إلى عقر دار المؤسسة الدينية والبيوتات التي تُسوِّرها العِمَّة الدينية، ليخرج منها مرجعاً دينياً يُشكل على دينه، وآخر بزيِّه الديني يرفض القرآن الكريم، وثالث يرمي زيه الديني ويدخل الحانات رافضاً كل ما كان عليه، واستاذاً جامعياً يفتخر بإلحاده، وغيرها من الأمور.
والذي ساعد على ذلك؛ الوضع المزري الذي يعيشه الشرقي، وهو يعلم أنَّ ما فيه من ألم وجور وظلم هو بسبب الاستعمار المنبثق من رحم الاستشراق، فكان الاختراع الأوربي هو استقطاب العقول الشرقية إليهم، والخامات الشرقية: هم هؤلاء الذين أصبحوا مستشرقين أكثر من الإستشراق نفسه، والأدوات: هي القنوات التي فتحتها المؤسسة الاستشراقية لبث الفكر الاستشراقي بلسان الخامات الشرقية.
ومما تقدَّم نستنتج ما يلي:
1- تغلغل الفكر الاستشراقي في أوساط البلاد العربية والإسلامية.
2- استدعاء الذهنية الإسلامية للأفكار الاستشراقية دون تردد.
3- انعكاس الأفكار الاستشراقية على كثير من النتاج الإسلامي.
4- ضعف التقديس لدى الأوساط الثقافية للمقدَّسات الإسلامية.
5- انتشار النقد الديني تحت عباءة التحرر.
6- ضعف ردود الأفعال تجاه الأفكار الغربية والرد عليها فردي مما ينذر بخطر الاستحواذ والانسحاب.
7- التسليم شبه المطلق للنتاجات الاستشراقية على أنَّها مبنيَّة على علم ومعرفة.
8- انتشار المصطلحات الغربية بشكل كبير في البحوث الإسلامية.
وغيرها من النتائج التي توغلت واستفحلت على الأقلام الإسلامية.
أما الحلول فإنها تكمن في بعض النقاط الآتية:
1- تشكيل فرق بحثية تخصصية: لأنَّ العمل الفردي لا يُجدي نفعاً.
2- تشكيل فرق إعلامية تنشر ما تقوم به الفرق البحثية.
3- التصدي للهجمات بطريقة بيان وهنها ووضع البديل.
4- تفكيك المصطلحات الغربية واستبدالها بالعربية والإسلامية.
5- تثقيف المجتمع وتحصين عقولهم: وهذا يقع على عاتق رجال الدين وأصحاب الثقافة العالية.
6- تشذيب التراث الإسلامي الذي يتشبث به المستشرقون لما فيه من إهانة وضعف.
7- التحلِّي بالصبر والمواجهة العلمية دون التقهقر.
8- عدم التزمُّت بالرأي الفردي؛ وهذا لا يعني أنَّنا نسير خلف العقل الجمعي وإنَّما يكون القرار بيد الفرق المتخصصة.
فإن تم ذلك؛ نرى أن الاستشراق بصوره السلبية والاستعمارية ينزوي شيئاً فشيئاً إلى أن ينتهي وإن طال الأمد.
اضف تعليق