مشاهد ومسارات صراع محور المقاومة مع الكيان الصهيوني بعد عملية اغتيال شكر وهنية دخلت مرحلة تصعيدية جديدة تنذر بأكثر من مشهد محتمل، فإما اندلاع حرب واسعة وهو تطور له تداعيات خطيرة، او استمرار نطاق المواجهة المحدود والحفاظ على قواعد الاشتباك السابقة، او الوصول الى تهدئة وصفقة...
اتخذ الكيان الصهيوني مساراً تصعيدياً خلال الايام الماضية بتبنيه اغتيال القائد العسكري في حزب الله اللبناني فؤاد شكر، بغارة جوية على بناية سكنية في حارة حريك بالضاحية الجنوبية أدت إلى وقوع شهداء وجرحى مدنيين، وبعد عدة ساعات، اعلن عن اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الفلسطينية إسماعيل هنية في مقر اقامته في العاصمة طهران، بعد انتهاء مشاركته في مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان، ورغم ان الكيان الصهيوني لم يعلن رسميا مسؤوليته عن اغتيال هنية الا ان مؤشرات التوقيت والمكان والشخصية وطريقة التنفيذ، تجمع انه وراء ذلك.
في الحقيقة هاتين العمليتين تنذر بنقل المواجهة بين الكيان ومحور المقاومة الى مرحلة جديدة من الصراع والمواجهة ويمكن رصد هذه المسارات وفق المشاهد الاتية:
المشهد الاول:- المواجهة المباشرة والحرب الواسعة:
حسب متبنيات الخطاب الذي القاه امين عام حزب الله حسن نصر الله بعد حادثتي الاغتيال، الذي اشار فيه الى وجود رد حقيقي ومدروس في الميدان يتعدى كل مستويات الصراع السابقة، وسيكون من محاور مختلفة تجاه الاراضي الفلسطينية المحتلة، مشيراً الى لهجة المرشد الاعلى في ايران التصعيدية ازاء حادثة اغتيال هنية في طهران بشكل يتجاوز التصعيد والغضب الايراني من استهداف احد قادة الحرس الثوري في القنصلية الايرانية في دمشق، اذ نقل عن مسؤولين إيرانيين إن المرشد الاعلى أمر بضرب الكيان الصهيوني بعد اغتيال هنية، هذا التصعيد قد يتجاوز المواجهة المحدودة الى المواجهة الاقليمية المباشرة التي ستتحول الى حرب اقليمية شاملة.
دون ادنى شك ان الكيان الصهيوني بتنفيذه للعمليتين يدرك عواقب رد محور المقاومة بحصول خطوات تصعيدية ومنها اندلاع حرب إقليمية واسعة، وهذا ما أوضحه نتنياهو في قوله إن "إسرائيل تتأهب لجميع الاحتمالات"، ومحذراً من أن "الأيام المقبلة ستكون صعبة"، إذ يبدو أن الكيان أخذ في حساباته أن يواجه ردا انتقامياً شاملاً ومشتركاً ينطلق من فتح كل الجبهات الإيرانية واللبنانية واليمنية والعراقية، وتحرك حزب الله بتحصين مواقع قياداته ونقلها من الضاحية الجنوبية وتبليغه سكان المنازل الموجودة في المباني القريبة من مؤسساته بضرورة المغادرة إلى أماكن أكثر أمانا، قد يعزز فرضيات حصول هذا المشهد.
كما ان اجتماع ممثلي جبهات محور المقاومة في طهران لدراسة الرد على التصعيد الصهيوني وهذا يحصل لأول مرة ويعلن عنه، كذلك اعلان فصائل المقاومة الشيعية في العراق استئناف شن هجماتها على المصالح الصهيو-امريكية، اذا ماشن الكيان حرباً على حزب الله، يعزز هذا المشهد.
مع ذلك يبقى هذا السيناريو باندلاع حرب اقليمية واسعة احتمالاً يواجه قيود محددة لحصوله، متمثلاً بعدم رغبة ايران بالركون اليه، وهذا يمكن استدراكه من سلوكها في الصراع منذ عملية (طوفان الأقصى) في السابع من أكتوبر/تشرين الاول من العام الماضي، اذ لم تلجأ الى تدشين الحرب من المحاور كافة بشكل مباشر حتى مع استهداف الكيان لقنصليتها في دمشق، رغم توعُّد القادة الإيرانيين للكيان بانه سيتلقى (صفعة) لمهاجمته القنصلية، لكن الرد الايراني كان محدوداً، باستهداف قاعدة جوية في دون اي خسائر بشرية، وكان واضحاً أن إيران لم ترغب الدخول بحرب واسعة مع الكيان ودفعه إلى مواجهة واسعة وقوية تؤدي الى حرب مباشرة بينهما.
المشهد الثاني: المواجهة والتصعيد المحدود
حسب متابعة السلوك الايراني في الصراع مع الكيان منذ طوفان الاقصى فإن أكثر المشاهد والسيناريوهات التي قد يلجأ اليها الايرانيون بشكل مباشر او غير مباشر من خلال اذرعها في جبهات محور المقاومة هو شن هجوم قد يشمل أهداف عسكرية صهيونية في محيط تل أبيب وحيفا ويافا وعكا، لكنهم سيعملون على تجنُّب الأهداف المدنية منعاً للتصعيد الواسع من قبل الكيان.
ويتضح من هذا المسار، أن إيران ستكون مضطرة للرد على حادثة اغتيال هنية في عمق اراضيها، اذ يعد هذا العمل انتهاكاً مباشراً لسيادتها وتجاوزاً على امنها القومي ومساساً بهيبتها ومكانتها، لكن بذات الوقت ترى انها غير معنية بفتح حرب مباشرة وواسعة مع الكيان، وهذا ما أعلن عنه النائب الأول للرئيس الإيراني الجديد محمد رضا عارف، بعد اغتيال اسماعيل هنية مباشرة، بقوله: "ان طهران ليست لديها نية لتصعيد الصراع في الشرق الأوسط".
كما يؤكد فرضية هذا المشهد: ان ايران بانتخاب الرئيس الايراني الاصلاحي مسعود بزشكيان تريد ان تستأنف المفاوضات مع الغرب للوصول الى اتفاق نووي جديد، ومحاولة تخفيف العقوبات الاقتصادية عليها نتيجة تزايد التراجع الاقتصادي في ايران، وتأثير سياسة الضغوط القصوى التي فرضتها الولايات المتحدة عليها، على الواقع الاقتصادي والاجتماعي، واحتواءً لذلك تجد ايران نفسها مضطرة للتفاوض مع بقاء مسار التهديد بنهج المقاومة كعامل ضغط يعزز مسار القبول بشروط ايران في الوصول الى اتفاق جديد وليس العكس، اي ان ايران لا تريد استخدام جبهات المقاومة لشن حرب عسكرية شاملة تكون كلفها باهظة، بل تسعى لاستثمارها في التوازن الجيوبولتيكي في المنطقة وزيادة هامش المناورة بين نسقي التعاون والصراع.
لذلك فإن الغالب من رد طهران على عمليتي الاغتيال يشير الى رد مشترك ومنسَّق بين ساحات المقاومة في إيران والعراق ولبنان واليمن، وسيقتصر على أهداف عسكرية ويتجنَّب التعرُّض لأهداف مدنية.
اذ ان اندلاع حرب اقليمية واسعة الان لا يصب بمصلحة الولايات المتحدة حالياً نظراً لقرب الانتخابات الرئاسية ولهذا ستسعى ان تبذل جهود لعدم اتساع نطاق المواجهة والصراع وصولاً الى الحرب بالضغط على الكيان الصهيوني لضمان ذلك.
رغم ان نتنياهو يسعى بقوة الى جر ايران وحزب الله الى حرب واسعة ولديه اهداف من ذلك، تتمثل بهروبه من الضغط الداخلي الذي يتعرض اليه، اذ فشل لغاية الان بتحقيق نصر محسوم في غزة، ولم يستطع ادارة ملف اطلاق سراح الرهائن المحتجزين لدى حماس، ولم يستطع ترميم قدرة الردع العسكري منذ اكتوبر الماضي، فضلاً عن ضغوطات اقتصادية وملفات فساد متهم فيها منذ سنوات واخفاق سياسي، ولهذا لا يسعى نتنياهو الى اي حل سياسي دبلوماسي؛ بل تقويض مسار التوصل إلى صفقة تهدئة وتبادل المحتجزين والأسرى مع حماس وإدامة الحرب على غزة وافتعال متغيرات لإدامتها كما حصل بحادثة مجدل شمس الدرزية في الجولان التي على اثرها تم التصعيد بعمليات الاغتيال الاخيرة.
المشهد الثالث: الهدنة والتهدئة
يحاول نتنياهو من خلال خطواته التصعيدية اثبات ادارته حرباً يدافع فيها عن مصالح الولايات المتحدة وحلفاءها في المنطقة خاصة بعد خطابه في الكونغرس والتصفيق له عن نهجه في هذه الحرب خاصة من الحزب الجمهوري.
قد تؤيد الادارة الامريكية الحالية نتنياهو في مقاربته التصعيدية المحدودة ضد محور المقاومة لترهيب حماس ومن يدعمها وضرب معنويات محور المقاومة، لكنها لا تؤيد في الوقت الحاضر توسيع نطاق الحرب في غزة لتكون حرب اقليمية واسعة كما اسلفنا، ولن تسمح بهذا السيناريو وسيتعين عليها وفقاً لذلك تكثيف جهودها الدبلوماسية الدولية والإقليمية بخفض التصعيد، وتحويله إلى فرصة للدفع سريعاً باتفاق التهدئة وتبادل المحتجزين، الأمر الذي سيسهم في تهدئة الصراع في المنطقة، وبالتالي يخدم المعطيات الانتخابية للرئاسة الامريكية خاصة دعم الجهود لوصول هاريس للسلطة، عبر هذا السيناريو المتمثل بتكريس جهود السلام والاستقرار بدل التوتر والنزاع.
لكن ذلك لا يعني انها ملتزمة بهذا المسار، بل لديها خيارات تلجأ اليها في حال حصول تصعيد من قبل ايران وحزب الله، ومنها الابقاء على مسار المواجهة المحدودة، مع العمل على ان لا يتدحرج هذا المسار إلى حرب إقليمية واسعة، وما يعزز الركون الى التهدئة سعي ايران اليه خاصة بعد وصول الاصلاحي مسعود بزشكيان لرئاسة الجمهورية في ايران، فبالنسبة لإيران، بعد اغتيال هنية على اراضيها اصبح لديها إدراك مقلق بأن الاستهداف كشف عن مدى نطاق الاختراق والعمل المتقدم الذي يمتلكه الكيان الصهيوني لتنفيذه داخل الأراضي الإيرانية.
نستنتج مما سبق، ان مشاهد ومسارات صراع محور المقاومة مع الكيان الصهيوني بعد عملية اغتيال شكر وهنية دخلت مرحلة تصعيدية جديدة تنذر بأكثر من مشهد محتمل، فإما اندلاع حرب واسعة وهو تطور له تداعيات خطيرة، او استمرار نطاق المواجهة المحدود والحفاظ على قواعد الاشتباك السابقة، او الوصول الى تهدئة وصفقة لإيقاف الحرب على غزة، بعد رد انتقامي محدود لمحور المقاومة، تعمل ايران بعده على تخفيف موقفها الإقليمي واعادة تنشيط قنوات الاتصال مع الولايات المتحدة للوصول الى اتفاق نووي جديد، والمسار الاخير هو الاقرب للمعطيات الواقعية في المدى المنظور.
اضف تعليق