عند الكشف عن طبيعة المشروع الحضاري، فرق الدكتور عبدالملك بين ثلاثة أنماط من المشاريع عرفت في تاريخنا المعاصر، النمط الأول أطلق عليه عبدالملك تسمية المشروع الاجتماعي، ويتخذ عادة حسب قوله، شكل البرنامج، ويهدف إلى تنظيم هيكل النظام الاجتماعي، وتشكيل الأرضية الاجتماعية لبلد معين على مدى...

إذا لم يكن المفكر المصري الدكتور أنور عبدالملك هو أسبق من طرح فكرة المشروع الحضاري في المجال العربي، فهو أكثر من ظل يتحدث عن هذه الفكرة، ويلفت النظر إليها بصور مختلفة، وفي مناسبات متعددة، وضمن إطار اهتمامه بالفكر الاجتماعي، وحقل الدراسات الحضارية.

فعند العودة إلى كتابه (الجدلية الاجتماعية) الصادر سنة 1973م، والذي يعتبره الدكتور عبدالملك أول ثمار مشروعه الفكري، ويضم كتاباته المنجزة في الفترة ما بين (1962-1972م)، عند العودة إلى هذا الكتاب، نجد فيه كتابات تحدثت عن فكرة المشروع الحضاري وحملت هذا العنوان، وتحددت في مقالتين، الأولى حملت عنوان: (المشروع الحضاري)، والثانية حملت عنوان: (لحظة ريح الشرق في صياغة المشروع الحضاري الجديد).

ولا أعلم إن كانت هناك كتابات أخرى لكتاب آخرين، سبقت كتابات الدكتور عبدالملك، أم أنها كانت الكتابات الأولى بهذا المسمى في المجال العربي.

ولعل المقالة الأهم للدكتور عبدالملك حول فكرة المشروع الحضاري، هي المقالة التي قدمها لمهرجان القاهرة للإبداع العربي في مارس 1984م، ونشرها فيما بعد في مجلة (فصول) المصرية، المجلد الرابع، العدد الثالث، أبريل- يونيو 1984م، وحملت عنوان (الإبداع والمشروع الحضاري).

 وظهرت أهمية هذه المقالة، حين اختارها الدكتور عبدالملك لتكون عنواناً لكتاب له صدر سنة 1991م، ضمن سلسلة كتاب الهلال المصرية، وضم الكتاب المقالة نفسها إلى جانب كتابات ودراسات أخرى نشرت في الفترة ما بين (1973-1990م)، واعتبرها المؤلف أنها تأتي تكملة للكتابات والدراسات المنشورة من قبل في كتابه (ريح الشرق) الصادر سنة 1983م.

والفارق بين هذه الكتابات في نظر المؤلف، أن الكتابات المنشورة في كتاب (الإبداع والمشروع الحضاري)، يغلب عليها الطابع الفكري والثقافي، بينما يغلب على الكتابات المنشورة في كتاب (ريح الشرق)، الطابع السياسي والاستراتيجي، ولكنهما يشتركان ويلتقيان صوب إرساء ركائز النهضة الحضارية، بوصفها الوجهة والهدف والغاية والأمل.

في مقالة (الإبداع والمشروع الحضاري)، حاول الدكتور عبدالملك أن يقدم تحديدات واضحة لفكرة المشروع الحضاري، وذلك من جهة المعنى والمضمون الفكري، ومن جهة الغاية والمقاصد، ومن جهة الملامح والمكونات.

وأول ما توقف عنده عبدالملك هي التسمية نفسها، وحسب رأيه أن المشروع الحضاري الفكرة والتسمية تبدو في نظره وكأنها جديدة ومحدثه، لم تبدأ الدعوة إليها إلا بعد ربيع 1973م، وما ظهرت في أفق علوم الإنسان والاجتماع إلا منذ سنوات قلائل، والكلام يعود إلى سنة 1984م.

وعند الكشف عن طبيعة المشروع الحضاري، فرق الدكتور عبدالملك بين ثلاثة أنماط من المشاريع عرفت في تاريخنا المعاصر، النمط الأول أطلق عليه عبدالملك تسمية المشروع الاجتماعي، ويتخذ عادة حسب قوله، شكل البرنامج، ويهدف إلى تنظيم هيكل النظام الاجتماعي، وتشكيل الأرضية الاجتماعية لبلد معين على مدى وسيط من الزمن.

النمط الثاني وهو أشمل من النمط السابق، وأطلق عليه عبدالملك تسمية المشروع القومي، ويهدف حسب قوله، إلى إعادة تشكيل الحياة الاجتماعية في إطار الوطن بأسره، وعلى أساس تكويناته المتعددة، انطلاقا من مبادئ عامة يلتف حولها الوطن.

النمط الثالث وهو أشمل من النمطين السابقين، ويطلق عليه عبدالملك تسمية المشروع الحضاري، ويهدف بشكل صريح وواضح حسب قوله، إلى أن يكون الإطار الأعم لكافة الخطط والمشروعات والمبادرات داخل مجتمع معين، وفي أغلب الأحيان بالنسبة لعدد من المجتمعات القومية التي تشكل دائرة جيو- ثقافية، وأحيانا بين عدد من هذه الدوائر الجيو- ثقافية في قالب أعم هو القالب الحضاري الشامل، أي قالب الشرق الحضاري، أو قالب الغرب الحضاري.

في مقالته (الإبداع والمشروع الحضاري) المنشورة سنة 1984م، اعتبر الدكتور أنور عبدالملك أن جوهر المشروع الحضاري يهدف إلى تحديد مكانة صاحب المشروع، أي مجموعة المجتمعات القومية، أو المناطق الجيوـ ثقافية، من المسيرة التاريخية للإنسانية جمعاء، وكيف يمكن لصاحب هذا المشروع أن يصبح طرفاً فعالاً في المبادرة التاريخية، وتحقيق الريادة الفكرية والعلمية والفنية والسياسية، وفي قلب هذه العملية كلها يعمل المشروع الحضاري على إدراك المسببات والعوامل التي صاغت ولا تزال تصوغ مفهوم العالم.

هذا عن جوهر المشروع الحضاري بصورة عامة، أما جوهر المشروع الحضاري العربي فيعني في نظر الدكتور عبدالملك توضيح المضمون الممكن لهذا المشروع في عصرنا، والذي في إطاره يمكن أن تنطلق موجات الإبداع، وحركة الريادة لتحقيق المستقبل المرتقب.

والمضمون الممكن للمشروع الحضاري العربي، يتحدد في تصور الدكتور عبدالملك في الملامح والسمات الآتية.

أولاً: يفترض أن يتسم المشروع الحضاري العربي المرتقب، بقدرة نادرة على تعبئة طاقات الاستمرارية الحضارية عبر التاريخ، مستفيدا من تعدد وثراء التجارب والخبرات التاريخية والحضارية لمجتمعات العالم العربي.

ثانياً: هيمنة معاني الوحدة على معاني الفرقة في المشروع الحضاري العربي، أي أولوية كل ما يجمع على كل ما يفرق، وتقديم معاني وقيم الجماعة والتضامن على نهج الفردية والعزلة والتنكر للغير.

ثالثاً: سيادة النهج الاستراتيجي على الأسلوب التكتيكي في المشروع الحضاري العربي المرتقب، بمعنى النظر إلى التاريخ البعيد، وليس الإنجاز المتعجل القصير المدى.

رابعاً: ضم العناصر الثلاثة السابقة إلى بعضها في إطار بناء مبدئي كبير، يرتكز على قاعدة الاستمرارية الحضارية، ويقبل الإبداع والريادة، وبشكل يتحول فيه مقام مركز السلطة الاجتماعية إلى بوتقة لتعبئة الإمكانات والطاقات.

هذه هي أبرز ملامح رؤية الدكتور أنور عبدالملك لفكرة المشروع الحضاري العربي، وهي الرؤية التي ظل يتابعها، ويذكر بها من دون توقف أو انقطاع، مع ذلك بقت هذه الرؤية بعيدة عن التداول والاهتمام في الكتابات العربية التي جاءت بعدها، ولم تنفتح عليها، وتتواصل معها نقدا أو تحليلا أو تفسيرا أو قراءة.

وأهمية هذه الرؤية تكمن في أنها حاولت منذ وقت مبكر نسبياً، تقديم تحديدات تكون واضحة لفكرة المشروع الحضاري في المجال العربي، وهذا من أكثر ما انشغلت به لكتابات العربية فيما بعد، والتي كانت تعطي هذه الفكرة، صفة الغموض والالتباس والإبهام والضبابية إلى غير ذلك من الأوصاف التي تتصل بهذا النسق.

وفي مقابل هذا التجاهل أو الإهمال لهذه الرؤية في الكتابات العربية، كانت هناك لفتة مميزة من عالم الاجتماع الأمريكي البارز إيمانويل والرستاين رئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع في الفترة ما بين (1994-1998م)، الذي اعترف لأنور عبدالملك بأنه قد كرس حياته لطرح ما سماه المشروع الحضاري البديل، وناقش حججه الفكرية، لأنه حسب قوله تجاوز في نقده، مجرد نقد الأعمال السيئة للغرب، سعيا لاكتشاف البدائل.

جاء هذا الكلام في الخطاب الرئاسي الذي ألقاه إيمانويل والرستاين، بمناسبة انعقاد المؤتمر الرابع عشر للجمعية الدولية لعلم الاجتماع في مدينة مونتريال الكندية صيف 1998م، بحضور جمع كبير من علماء الاجتماع المنتمين لمختلف ثقافات ومجتمعات العالم.

وهذه هي المفارقة الغريبة، فالرجل الذي كرس حياته لفكر المشروع الحضاري البديل، نادرا ما تجد ذكرا له في الكتابات العربية، التي تناولت هذه الفكرة في المجال العربي.

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة

http://www.almilad.org

اضف تعليق