ينبغي لها أن تشكل كتلة داخل الاتحاد الأوروبي للعمل مع المسؤولين في بروكسل لتحويل "أوروبا الجيوسياسية" إلى حقيقة واقعة. تتطلب استجابة أوروبا لعودة ترمب الإبداع، والمرونة، والتزام ثابت لا يتزعزع بالدفاع عن مصالحها. الواقع أن كل أزمة تعرض فرصة، والأوروبيون لديهم الفرصة لصياغة كتلة أعظم قوة...
بقلم: مارك ليونارد
برلين- مع استفاقة الزعماء الأوروبيين على واقع عودة دونالد ترمب الوشيكة إلى البيت الأبيض، يتعين عليهم أن يحرصوا على تجنب فخين كبيرين: الذعر والإنكار. لن يكون الأمر سهلا، لكن الرهان أعلى كثيرا من أن يسمحوا لأنفسهم بالاستسلام للفشل.
أسباب الذعر واضحة. ربما يكون ترمب متقلب المزاج ومن غير الممكن التنبؤ بتصرفاته، ولكن لا شك أن غرائزه السياسية وخططه المعلنة ستزعزع أركان الأمن والاقتصاد والنظام السياسي في أوروبا. فيما يتعلق بالأمن، فإن الأوروبيين لديهم كل الأسباب التي تدعو إلى الخوف من أن تُـسـفِـر "خطة السلام" التي اقترحها ترمب لأوكرانيا عن حرمان ذلك البلد من سلامة أراضيه وتتركه منزوع السلاح ومستبعدا بشكل دائم من حلف شمال الأطلسي. وقد يصبح حلف شمال الأطلسي ذاته "خاملا"، مع اتجاه أميركا إلى تقليص مشاركتها بشكل جذري وتسليم المسؤولية عن قيادة الحلف العسكرية وموارده للأوروبيين.
وفي الشرق الأوسط، يخشى الأوروبيون بحق أن خطة ترمب لتأمين السلام تعني دعم الخطط التوسعية التي يدبرها الائتلاف المتطرف الذي يقوده رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وربما حتى طرد الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية وإعادة توطينهم في مِـصر والأردن.
والسيناريوهات الاقتصادية أشد هولا وترويعا. فقد تحدث ترمب عن فرض تعريفة جمركية شاملة على الواردات تتراوح بين 10% و20%، وتعريفة جمركية بنسبة 60% على السلع القادمة من الصين. تهدد مثل هذه السياسة بإشعال شرارة حرب تجارية عالمية، مع لجوء الحكومات إلى اتخاذ تدابير انتقامية ضد الولايات المتحدة. وإذا استُـبـعِـدَت الصين من السوق الأمريكية، فسوف يكون الأوروبيون أشد عُـرضة لتأثيرات العرض الناجمة عن فائض قدرتها التصنيعية. ما يزيد الطين بلة أن استجابة أوروبا لرئاسة ترمب الثانية قد يعرقلها "التيار الدولي غير الليبرالي"، والذي يضم رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني.
لكل هذه الأسباب، يكاد الزعماء الأوروبيون يستسلمون لحالة من الذعر وإغراء الاندفاع إلى واشنطن لإبرام صفقات ثنائية ــ كما فعل كثيرون منهم خلال فترة ولاية ترمب الأولى. وإذا فعلوا، فسوف يأتي ذلك مباشرة على حساب الوحدة الأوروبية.
لكن الفخ الثاني خطير بذات القدر. فإذا وقع الزعماء الأوروبيون في خطأ إنكار حجم التهديد الذي يشكله ترمب، فلن يتخذوا الخطوات اللازمة لبناء المرونة. لقد أدرك الأوروبيون على مدار السنوات الأربع الأخيرة أن ترمب قد يعود، وقد أحرزوا بعض التقدم نحو معالجة ضعفهم الجيوسياسي الجديد من خلال زيادة الإنفاق الدفاعي (ينفق الأوروبيون الآن أكثر من 2% من ناتجهم المحلي الإجمالي على الدفاع) وتنويع المصادر بعيدا عن الغاز الروسي. لكنهم في عموم الأمر، كانوا أبطأ مما ينبغي. يشعر بعض القادة بثقة زائفة، فيقولون لأنفسهم إنهم إذا نجوا من فترة ترمب الأولى، فيمكنهم النجاة من أخرى. لكن ترمب في الفترة 2017-2020 كان دخيلا فوجئ بانتخابه وكان يتوق إلى الحصول على الاعتراف من قبل المؤسسة. أما هذه المرة فهو مصمم على الانتقام من المؤسسة التي قاومته وأحبطته من قبل، وكان لديه متسع من الوقت للتحضير لمنصبه. ويتعين على القادة الأوروبيين أن يتعاملوا بجدية مع تهديداته وأن يتأهبوا للأسوأ.
في مواجهة هذه السيناريوهات، تتلخص المهمة الأكثر إلحاحا التي يتعين على القادة الأوروبيين إنجازها في استغلال ما يقرب من سبعين يوما بين الآن والعشرين من يناير/كانون الثاني 2025، للاتفاق على مصالحهم المشتركة واستنباط الكيفية الواجبة للدفاع عنها ــ جنبا إلى جنب مع الولايات المتحدة إن أمكن، ولكن بمفردهم إذا لزم الأمر. وهذا يعني صياغة خطة ملموسة لحماية أوروبا من الضغوط الأمنية والاقتصادية.
تُـعَـد أوكرانيا مصدر القلق الأشد إلحاحا. ولمنع التوصل إلى اتفاق يترك أوكرانيا منزوعة السلاح ومستبعدة من حلف شمال الأطلسي، تحتاج أوروبا إلى ضمان تدفق ثابت من الذخيرة والدفاعات الجوية في الأمد القريب، في حين توفر لأوكرانيا ضمانات أمنية طويلة الأجل ويمكن التعويل عليها. يتعين عليها أيضا أن تتوصل إلى كيفية الإنفاق بكفاءة أكبر على الدفاع، وزيادة حجم القوات الجاهزة للقتال المتاحة لحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وإذا لزم الأمر، تعزيز قوتها النووية الرادعة.
القضية الثانية الأكثر إلحاحا ستكون التجارة. فإذا صَـدَقَ ترمب في وعيده بفرض تعريفات جمركية شاملة على الواردات، فإن اندلاع حرب تجارية بين الاتحاد الأوروبي وأكبر سوق تصدير لمنتجاته أمر لا مفر منه. في عالم حيث يتشابك العالَمان الجيوسياسي والجيواقتصادي على نحو متزايد، يتعين على الكتلة أن تحضر التدابير المضادة اللازمة في مواجهة الولايات المتحدة وأن تسعى إلى توسيع التجارة مع بقية العالم. يعمل فوز ترمب أيضا على تغيير سياق علاقة الاتحاد الأوروبي بالمملكة المتحدة تماما. فمنذ تولى حزب العمال مقاليد الحكم في يوليو/تموز، تزايدت الاتصالات عبر القنوات بدرجة كبيرة. ولكن الآن يجب أن تشمل هذه الجهود دَفعة متسارعة لتقديم عرض كبير وجريء للمملكة المتحدة لإنشاء شراكة جديدة.
من جانبه، يتعين على رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر أن يلتزم بالعمل في اتجاه أوروبا أكثر قوة واتحادا. ينبغي له أن يضع كل شيء على الطاولة، بما في ذلك استكشاف كيف من الممكن أن يساهم الرادع النووي البريطاني في تعزيز الأمن الأوروبي الجماعي. كما ينبغي له أن يُـظهِـر الكيفية التي قد تمكن المملكة المتحدة من المساعدة في توسيع نطاق قوة أوروبا وأمنها من خلال التعاون في العقوبات، وضوابط التكنولوجيا، وسلاسل التوريد، والمواد الخام الـحَـرِجة، وأمن الطاقة، والهجرة، والعمل المشترك ضد العصابات والمتاجرين بالبشر، بين قضايا أخرى.
لكي يحدث هذا، يتعين على أكبر دول الاتحاد الأوروبي ــ فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وبولندا، وإسبانيا ــ تجاوز سياساتها الداخلية من أجل إرساء إجماع أوروبي شامل. وقد أصبحت الزعامة الألمانية ــ سواء كانت آتية من الحكومة الحالية أو من ائتلاف جديد بقيادة الحزب الديمقراطي المسيحي بعد انتخابات الربيع ــ أكثر أهمية الآن من أي وقت مضى، لكن الدول الأصغر حجما والأكثر عُـرضة للخطر في شمال وشرق أوروبا تستطيع أيضا أن تضطلع بدور مهم.
وعلى هذا، ينبغي لها أن تشكل كتلة داخل الاتحاد الأوروبي للعمل مع المسؤولين في بروكسل لتحويل "أوروبا الجيوسياسية" إلى حقيقة واقعة. تتطلب استجابة أوروبا لعودة ترمب الإبداع، والمرونة، والتزام ثابت لا يتزعزع بالدفاع عن مصالحها. الواقع أن كل أزمة تعرض فرصة، والأوروبيون لديهم الفرصة لصياغة كتلة أعظم قوة، وأكثر قدرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي والدفاع عن نفسها في عصر من الفوضى العالمية.
اضف تعليق