قد لا يتنبّه الناس إلى هذه الأزمة في ظل تفاقم أزمات أخرى أكثر مساسا بحياتهم، لكن عند التدقيق الجيد للواقع وقراءته بوضوح وعلمية، سوف نجد أن أزمة البرود الجنسي أثرت بشكل كبير على طبيعة العلاقات الاجتماعية، وانعكست على السلوك الفردي، وزرعت مشاعر سلبية بين الناس تجاه بعضهم بعضا...
(إن الكون لم تتغير سماؤه، ولا أرضه، ولا مياهه، ولا أشجاره، ولا حيواناته، وإنما نحن تغيَّرنا) الإمام الشيرازي
مع تسارع المدّ التكنولوجي في العصر الحديث، تبرز مشكلات وأزمات ترافق هذا اللهاث والجري المحموم وراء الأرباح، وكنز الأموال، بعيدا عن القيم التي تضبط هذا الحراك المادي، ومن هذه الأزمات التي أفرزها واقع العصر أزمة (البرود الجنسي) عند الرجال والنساء، مما أدى إلى مشكلات اجتماعية تهدد بنية المجتمع وتزرع فيه أسباب التفكك.
وقد لا يتنبّه الناس إلى هذه الأزمة في ظل تفاقم أزمات أخرى أكثر مساسا بحياتهم، لكن عند التدقيق الجيد للواقع وقراءته بوضوح وعلمية، سوف نجد أن أزمة البرود الجنسي أثرت بشكل كبير على طبيعة العلاقات الاجتماعية، وانعكست على السلوك الفردي، وزرعت مشاعر سلبية بين الناس تجاه بعضهم بعضا.
ولم تنحصر هذه المشكلة عند كبار السن كما هو متوقَّع، وإنما نجدها منتشرة بين شباب اليوم بشكل واضح، مما أدى إلى مشكلات أخرى رافقتها، منها المشاعر السلبية تجاه الحياة، والخمول والكسل الذي يرافق الشباب، مع العلم أن مرحلة الشباب يجب أن يكون الإنسان فيها في ذروة نشاطه وتفاؤله وكثرة انتاجيته.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) رصد هذه الأزمة في المجتمع، ونبّه عليها من يهمه الأمر، لتنقية المجتمع الإسلامي من هذا الوباء، وذكر في كتابه القيّم الموسوم بـ ( الأزمات وحلولها):
(من الأزمات التي أخذت تنتشر وتشيع يوما بعد يوم هي (البرود الجنسي)، وقد شاعت كثيراً بين شباب اليوم، حتى أنك تجد أعداداً كبيرة من الشباب وصلوا إلى سن الثلاثين وهم يعانون من البرود الجنسي!).
ومما يزيد الطين بلّة أن هذه المشكلة لم تكن موجودة فيما مضى، ولم تكن معروفة بين الناس، وكانت علاقات التقارب والارتباط في قضايا الزواج وغيرها، تسير بشكل طبيعي، ولكن مع تقدم الزمن برزت هذه المشكلة في المجتمع، وصار يعاني منها الناس، حتى الشباب منهم، في حين كان حتى كبار السن لم يعانوا منها.
التمدّد الإعلامي والتغوّل المادي
وهذا دليل على أن هذه الأزمة رافقت ما يسمى بالحداثة اليوم، ورافقت العولمة، والتمدد الإعلامي، وتغوّل المادة، وهيمنتها على كل شيء، فانتشرت هذه الأزمة كونها تلازم انتشار النزعة المادية بين الناس، وضعف أواصر الترابط الاجتماعي بسبب ضعف القيم.
لذا يقول الإمام الشيرازي: (بينما في الزمن السابق لم يكن لهذا الأمر عين ولا أثر حتى عند كبار السن، فكان يبلغ الرجل الستين والسبعين والثمانين وأحياناً يصل إلى المائة بل وأكثر وهو لا يزال له القدرة على النشاط الجنسي).
ويستدل الإمام الشيرازي والآخرون على هذه المشكلة، من خلال ما تنشره المجلات والكتب الطبية المتعلقة بقضية (البرود الجنسي)، حيث أخذت حيزا واسعا بين الناس وشغلت أفكارهم، وصارت الحوارات فيما بينهم كثيرة وتدل على عمق هذه الأزمة.
وهذا ما يؤكد أن هذه الأزمة رافقت العصر الحديث، ولم يكن لها أي تأثير سابقا، فالبرود الجنسي كمعنى أو كمشكلة لم يكن موجودا ولا شائعا في المجتمع الإسلامي، ولكن مع دوران عجلة التقدم، وتراجع سلطة الضوابط والتقاليد وضعفها، بدأت هذه المشكلة بالظهور.
حيث يؤكد الإمام الشيرازي قائلا: (هناك في كثير من المجلّات والكتب الطبية المختصة، تنشر بحوثا حول البرود الجنسي تحت عناوين مختلفة، ومحاورات مع عديد من الرجال والنساء في هذا الموضوع، حتى أصبحت هذه المشكلة (البرود الجنسي) مشكلة العصر).
ولو أننا بحثنا عن الأسباب التي تقف وراء هذه الأزمة، لاكتشفنا أن الناس أنفسهم (الرجال والنساء) لهم دور في ظهورها وانتشارها، فأول الأسباب هو نظام التغذية الرديء وغير الصحي، مما جعل معظم الرجال والنساء عرضة لأمراض العصر، كالإصابة بمرض السكري وارتفاع ضغط الدم وغيرها من الأمراض المزمنة التي باتت شائعة بين الناس.
علما أن الكثير من الأغذية والشراب يدخل في صنعها مواد كيمياوية تتسبب بشكل مباشر في انتشار هذه الأمراض، التي تؤدي إلى إصابة الناس بشكل سريع بأمراض مزمنة، تتسبب بدورها بإصابة الناس بالبرود الجنسي، فالقضية تتعلق بطبيعة النظام الغذائي الخاطئ.
حيث يقول الإمام الشيرازي حول هذه النقطة:
(من الواضح أن هذه المشكلة حصلتْ بسبب الرجال والنساء أنفسهم.. فهناك أمراض كثيرة سكرية وغيرها، وتوجد أسباب مختلفة نتيجة للمأكل والمشرب المصنّع من المواد الكيماوية، وكذلك تلوث البيئة من قبل الإنسان نفسه).
وثمة أسباب أخرى تقف وراء انتشار هذه المشكلة، ومنها هدر الشاب أو الناس عموما للطاقة الجنسية في غير محلّها، حيث ينشغل معظم هؤلاء بصرف طاقاتهم بمتابعة قنوات فاضحة، أو هدرها بالنظر إلى نساء غير محتشمات، وقد يصل الأمر إلى ملامسة أيدي بعض النساء مما يتسبب بهدر طاقات الشباب دون أن يتنبّهوا لعمق هذه المشكلة.
(فهنالك سبب مهم آخر وهو صرف الطاقة الشهوانية في غير مواردها الصحيحة والمحلّلة، فبعضها يتم هدره في النظر إلى النساء السافرات في الشوارع أو في القنوات الفضائية وغيرها، وبعض هذه الطاقة يُهدَر بسبب ملامسة أيديهن، فتكون النتيجة ضياع للطاقة الجنسية) كما يؤكد الإمام الشيرازي في كتابه نفسه.
خارطة عمل لمكافحة الأزمات
علما أن هنالك أسباب أخرى أسهمت بطريقة أو أخرى في انتشار مشكلة البرود الجنسي، ومنها ما يظن البعض بأن ممارسته من القضايا العصرية، فيهدر طاقاته ويشتت أفكاره بالغناء والموسيقى والمخدرات مع وجود عوامل فردية اجتماعية تساعد على البرود الجنسي.
يقول الإمام الشيرازي:
(هنالك أيضا مشكلة تشتت الفكر، وكثرة الغناء والموسيقى، واستعمال المخدرات، وغيرها الكثير، مضافاً الى ذلك العوامل الفردية والاجتماعية التي تولَّد البرود الجنسي).
وهكذا يمكننا أن نكتشف بسهولة أن هذه الأزمة أو هذه المشكلة من صنع أيدينا، ونحن الذين صنعناها بأنفسنا، وإلا فهي لا تفرض وجودها على الناس إلا حين يكونوا على استعداد لتقبّلها، فالوسط الكوني الذي نعيش فيه باقٍ كما هو ولم يتغيّر فيه أي شيء.
وهذا يدل على أن البشر هم السبب في ظهور وانتشار مثل هذه الأزمات والمشكلات التي تفتك بالمجتمع وتشتت أواصر الترابط الاجتماعي، وخير دليل على دور الإنسان في تدمير ذاته وبيئته ما حدث من ظاهرة التغيّر المناخي وحدوث ثقب في طبقة الأوزون ومن ثم حدوث ظاهرة الاحتباس الحراري التي ضاعفت من حرارة الأرض.
لذا يقول الإمام الشيرازي:
(إذن المشكلة نابعة من أنفسنا، وهي ليست مشكلة حقيقية، فإن الكون لم تتغير سماؤه، ولا أرضه، ولا مياهه، ولا أشجاره، ولا حيواناته، ولا غير ذلك، وإنما نحن تغيرنا، حدثت مثلا بعض التغيّرات الفردية كما ذكرنا، وبعض التغيّرات الاجتماعية وحتى الطبيعية مثل خرق (طبقة الاوزون) بسبب الانبعاثات من المعامل والمصانع وما أشبه).
أما البحث عن الحلول، فهي ليست مستعصية ولا مستحيلة، بل هي موجودة و واضحة، ويمكن استخلاصها من كتاب الله الكريم وآياته الحكيمة، فمعالجة هذه الأزمة يمكن أن نعثر عليه بسهولة في التعاليم الإسلامية، ولكن يجب الإيمان وتوفر التقوى قبل الحديث عن المعالجات لأزمة البرود الجنسي.
هناك خرق للضوابط وللقيم وللتقاليد، وهناك ضعف في الالتزام، وإذا أراد الناس أن يتخلصوا من هذه الأزمة وغيرها من الأزمات، عليهم قبل كل شيء أن يُبصروا الحلول الصحيحة وهي موجودة ومن السهولة العثور عليها في الشروحات الدينية المبسطة و الواضحة.
ينبهنا الإمام الشيرازي على الحلول فيقول:
(المعالجات موجودة في التعاليم الاسلامية حيث تأخذ بحلّ هذه المشاكل من جذورها: قال الله تعالى: والذين هم لفروجهم حافظون سورة المعارج: 29. .وقال عزَّ وجل: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن الا لبعولتهن. سورة النور: 30 - 31).
المهم في هذا الأمر أن يكون هناك إصرار على التخلص من هذه المشكلة، ومن ثم وضع خارطة عمل واضحة الخطوات، وبعد ذلك إمكانية التحرك المنتظم لكبح جماح الظواهر الخطيرة التي أخذت ترافق اندفاع العالم نحو العولمة والتكنولوجيا وأخيرا كما نلاحظ اليوم مخاطر الذكاء الاصطناعي، فالأمر منوط بنا قبل الآخرين، ونحن الأكثر مسؤولية على معالجة أزماتنا المعاصرة.
اضف تعليق