تبدو أفكار هيغل عن دورة التاريخ تستشرف عودة "الاستعمار" في تسريبات الصحافة الإسرائيلية عن إعلانات كبرى لتوسيع الاتفاقات الإبراهيمية، لتشمل ماليزيا وإندونيسيا وربما حتى باكستان بعد توقيع السعودية. فهل ننتظر سفن الغزاة أم أنها بين جدران سيادة دولنا بعناوين الذكاء الاصطناعي؟ ...
تطرح التطورات في الشرق الأوسط خاصة، والعالم عامة، تساؤلات عما يمكن أن يكون في استشراف المستقبل، من حيث نموذج القوة وتطبيقاته في العلاقات داخل الدول وفيما بينها، وفق اعتبارات متغيرة لثوابت الجغرافيا السياسية. إذا حاولت مقارنة ذلك ما بين فلسفة "هيغل" في حتمية الامتثال التاريخي ودورته الزمنية، وبين شكوك "ديكارت" وإرادة القوة والإنسان الأعلى في عهود الحداثة الأولى، انتهت إلى حقبة الاستعمار الكولونيالي، فهل تطرق أبواب الشرق الأوسط الجديد نموذجه الاستعماري مجددًا؟
تطبيقات القوة: من الغزوات القديمة إلى الشركات متعددة الجنسيات
لم تتغير تطبيقات القوة على مر العصور، إذ تنبع من الفوائد التي تُجنى أموالًا في الغزوات أو الفتوحات، ومن ريع الضرائب على الأرض والتجارة، حتى صح قول هارون الرشيد للغمامة: "أمطري أينما شئت فخراجك عائد لي".
اليوم، يكرر الرئيس الأمريكي ترامب والرئيس الصيني شي جين بيغ، وأيضًا دول الاتحاد الأوروبي، فضلًا عن روسيا الاتحادية والهند ودول النمور الآسيوية، يضاف لها دول في أمريكا اللاتينية والقارة الإفريقية، أن يقولوا كل بطريقته لتلك الغمامة التي تمر فوق أراضيهم، وتلك التي يرغبون النفوذ إليها، ما قاله هارون الرشيد بشتى العناوين ومختلف التبريرات.
لكن، يقول ذلك كل منهم، وفق قدراته الذاتية في مقاييس القوة المتجددة التي تُجمع في بوتقة المال لشركات متعددة الجنسيات. يُترجم العرس الأسطوري لجيف بيزوس، رئيس شركة أمازون، هذا النموذج. فهناك شركات كبرى اعتمدت نموذج "متعدد الجنسيات" الذي ظهر ما بعد الأزمة النفطية عام 1973، لتكون لها القدرة على المواجهة في القفز من مركب موجات الركود الاقتصادي.
وهناك أكثر من مدرسة اقتصادية في جامعات مرموقة تتعامل مع الأفكار التي تتعدل وفق متغيرات السوق والمنافسة، لعل أبرزها مدارس لندن وفرانكفورت وسان فرانسيسكو، التي تتعامل مع هذا الطيف المتوسع من الشركات متعددة الجنسيات لتحاكي منظومة القوة المالية وتأثيراتها على الدول بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية.
الدولار الأمريكي وحماية المصالح
وفق هذا المنظور، منحت الولايات المتحدة الملاذ الآمن لأصول الشركات متعددة الجنسيات. تراكم وجودها في الصناعة المصرفية الأمريكية جعل "الدولار" عملة دولية تدير أكثر المعاملات النقدية عبر جهات العالم الأربع. وبذات معايير "المصالح" التي تحركت فيها السفن لنقل الجيوش الأوروبية بحثًا عن المستعمرات ومنها الأرض الجديدة التي تحولت إلى الولايات المتحدة، تتنقل الأساطيل الأمريكية في قواعدها عبر جهات العالم لحماية مصالح هذه الشركات، التي يتعامل معها الكثير من متعصبي الأيديولوجيات الثورية. فلم ينجح مصدق في تأميم نفط إيران، وكان تأميم نفط العراق إعلانًا للحرب عليه، كما لم ينجح كاسترو في الحد من نفوذ شركات زراعة قصب السكر، وانتهت الثورة الصينية إلى نظام اقتصادي مزدوج ما بين الاستثمار المفتوح لذات الشركات التي كان الشعب الصيني يقاتل ضد الدول "الإمبريالية" التي تمثلها، كذلك فعلت فيتنام، وأيضًا النمور الآسيوية، بعد أن توصلوا إلى ذات قناعة هارون الرشيد، أن تلك الغمامة التي تمر فوق سيادة أراضيهم لا بد وأن يعود لهم خراجها!
مشروع "القرن الأمريكي الجديد" وتداعياته في الشرق الأوسط
في نهاية القرن العشرين، كلفت مجموعة من مراكز الأبحاث الأمريكية بتصميم مشروع "القرن الأمريكي الجديد". ولعلي أتذكر تلك الندوات التي كانت تُعقد في قناة CNN لمناقشة المصالح التي يمكن أن تجنيها الشركات متعددة الجنسيات من تلك الأفكار التي انطلقت من ذات المدارس الفكرية الاقتصادية، باعتبار الاقتصاد المحرك الحيوي لعجلة الاستراتيجيات السياسية والعسكرية. فهناك ثلاثة كارتلات: الأولى مصرفية، والثانية صناعية تشارك فيها الصناعات العسكرية والثقيلة وصناعة الأدوية، والثالثة صناعات الأتمتة التي تطورت إلى الذكاء الاصطناعي. وكانت برامج البحث والتطوير الأمريكية، مثل أبحاث وكالة ناسا للفضاء التي أنتجت ما يُعرف اليوم بنظام الإنترنت، أو مؤسسة العلوم الوطنية (National Science Foundation) التي تدعم الأبحاث الأساسية والتعليم في جميع المجالات. لذلك أثارت تلك العقود التي وقعها الرئيس ترامب مع السعودية والإمارات وقطر للمشاركة في هذه البرامج حفيظة اليمين الأمريكي المتشدد، فيما تُعد هذه البرامج حصرية لولاية الملكية الفكرية الأمريكية.
وهناك منازعات كبرى بين واشنطن وبكين في هذا المجال. فقد أعلن الرئيس ترامب قبل زيارته لهذه الدول تخصيص 500 مليار دولار في برامج البحث والتطوير المستقبلية، لإنتاج معارف متجددة لها السبق في مضاهاة ما يمكن أن تصل إليه الدول المنافسة بما فيها الدول الحليفة في الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال. وقد سبق لولي العهد السعودي محمد بن سلمان أن صرح في أحد احتفالات إطلاق مشروعه "نيوم 2030" أن التطور الاقتصادي والصناعي وتقنيات الذكاء الاصطناعي ستحول السعودية والشرق الأوسط إلى أوروبا جديدة، وقارن بين نموذجي الموبايل القديم والأكثر تطورًا وسط تصفيق كبار المدراء التنفيذيين لذات الشركات متعددة الجنسيات.
السياسة الخارجية والداخلية: أثمان باهظة
لست متعلقًا بنموذج المؤامرة وتحليلاتها، بل هي وقائع منشورة في المشروع الأمريكي للقرن الحادي والعشرين، أفصح عنها الرئيس ترامب في رئاسته الأولى بعنوان مشروع "القرن" وفق طرفي معادلة: الأول تصفية القضية الفلسطينية وإطلاق مشاريع تنموية ضخمة في المنطقة أحد روافعها الاتفاقات الإبراهيمية، وكان من المتوقع أن تمضي السعودية لتوقيع ذات الاتفاقية أو على أقل تقدير المضي بالمفاوضات مع إسرائيل لولا معركة السابع من تشرين الأول في غزة، وما صاحبها من تداعيات امتدت إلى تصفية حزب الله وتغيير نظام بشار الأسد والحرب الإسرائيلية على إيران.
وما زالت تداعيات الدومينو تمضي بإدارة الرئيس ترامب. فيما لم تظهر أي قراءة واقعية لكل ذلك غير ما نشره الأمير تركي الفيصل على صفحات مجلة "THE NATION" الأمريكية مقارنًا بين حتمية القوة النووية الإسرائيلية وازدواجية قرار الرئيس ترامب في المشاركة بهذا العدوان. لكن فات الأمير السعودي أن في ذلك أثمانًا لا بد وأن تدفع، ومنها ما سبق وأن دفعته بلاده في المتغير الثقافي من دولة توصف سنويًا في تقارير حقوق الإنسان الأمريكية بالدولة "الراديكالية المتشددة" التي أضحت اليوم دولة رفاهية، جعلت هيئة الأمر بالمعروف تنأى جانبًا، فيما ما زالت تلك التقارير تتهم إيران بتلك التهم.
وربما لم تفهم إيران مغزى أحاديث ترامب عن رفضه استهداف المرشد خامنئي خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة، فقط لأنه قدم له هذا العرض على "طبق القنابل العميقة" التي قصفت المواقع النووية الإيرانية، لينتهج ذات تطبيقات النموذج السعودي وصولًا إلى قبول المشاركة وإن كان في الأقسام الخلفية لقطار الشرق الأوسط الجديد، الذي بات على ترامب إعلان انطلاقه بموافقة إيران أو رفضها، مما يجعلها تدفع أثمانًا باهظة، بعد أن دفعت الأمة العربية في سنوات الكفاح العربي عامة والفلسطيني خاصة ولم تحصل غير تلك الوعود بـ"مشروع الدولتين" فقط لا غير.
هل يعود الاستعمار في ثوب جديد؟
وفق كل ما تقدم، تبدو أفكار "هيغل" عن دورة التاريخ تستشرف عودة "الاستعمار" في تسريبات الصحافة الإسرائيلية عن إعلانات كبرى لتوسيع الاتفاقات الإبراهيمية، لتشمل ماليزيا وإندونيسيا وربما حتى باكستان بعد توقيع السعودية. فهل ننتظر سفن الغزاة أم أنها بين جدران سيادة دولنا بعناوين الذكاء الاصطناعي؟ وإن بقي الشك غالبًا كما عند "ديكارت"، لكن الإفصاح عنه، فقط على طاولات الأبواب الدوارة في لعبة الأمم للقرن الحادي والعشرين!
اضف تعليق