في لحظة تبدو فيها الدولة السورية جسداً بلا نبض، تتقدّم الأطراف الهامشية لتطالب بدورها، لا من موقع القوة، بل من باب النجاة. السويداء ليست وحدها، كما أن الكُرد ليسوا استثناءً. الجميع يواجه سؤال الهوية والكيان والمصير، في وقتٍ تراجع فيه المركز، وتقدّم الهامش...

مقدمة: الجبل الذي استيقظ متأخراً

في عمق الجنوب السوري، حيث اعتادت السويداء على البقاء في الهامش، خرج الجبل من صمته. لكن هذه المرة، لم يكن الصوت احتجاجاً معيشياً فقط، بل نداء وجودياً. لم يعد أبناء الطائفة الدرزية يكتفون بالمطالبة بالخدمات أو الكهرباء، بل رفعوا سقف الخطاب إلى حدود كادت تلامس إعلان الكيان. فهل نحن أمام لحظة انعطاف كبرى في الصراع السوري؟ أم أن الجبل يُستدرج إلى مصيرٍ رُسم له منذ سنوات، ضمن خرائط التقسيم الهادئ؟

قراءة في عمق الحراك

السويداء تشهد دينامية جديدة تُعيد تعريف العلاقة بين الطائفة والنظام. فمع تزايد حالة الانفصال النفسي عن دمشق، والانهيار الاقتصادي، باتت السويداء ترى في استقلالها المحلي ضرورة للنجاة. ورغم أن الطرح لم يتحول رسمياً إلى مشروع انفصال، إلا أن إشارات مثل تشكيل قوى أمن محلية، ومحاولات تنظيم موارد ذاتية، تكشف عن تحوّل في البنية العميقة للهوية السياسية لأبناء الجبل.

في خلفية المشهد، تبرز القوى التقليدية مثل مشايخ العقل، لكنها لم تعد قادرة على الإمساك الكامل بالمشهد. فقد صعدت قوى مدنية وشبابية تعبّر عن وعيٍ جديد يتجاوز المرجعيات الطائفية والدينية، وإن لم يُترجم بعد إلى مشروع سياسي ناضج.

النسيج السوري في اختبار الجغرافيا

أزمة السويداء لا يمكن فصلها عن السياق الأوسع للأزمة السورية. فما يحدث في الجنوب، يتقاطع مع ما يجري في الشمال، حيث يرسّخ الكُرد سلطتهم في شرق الفرات، وسط تباين حاد بين قوى "قسد" المدعومة أمريكياً، وبين تيارات كُردية أخرى تتجه نحو النظام أو تسعى إلى تحالفات إقليمية.

ورغم ما يبدو من وحدة شكلية في الموقف الكُردي، فإن الواقع يعكس انقسامات أيديولوجية وسياسية عميقة. بعض التيارات تسعى فعلياً لتأسيس كيان كُردي فدرالي، بينما يرى آخرون أن الوقت لم يحن بعد لمثل هذه الخطوة، خاصة في ظل الغموض الأميركي وتداخل المصالح الإقليمية.

هكذا يصبح المشهد الكُردي مرآة لما يحدث في السويداء: هوية مهدّدة، وإغراءات الانفصال، وحسابات الخوف من الذوبان أو الاستفراد.

السيناريوهات الممكنة

أمام هذا التعقيد، يمكن تصوّر عدد من السيناريوهات المتوقعة في المدى القريب:

التهدئة المشروطة: يدخل النظام في تسوية مؤقتة مع قادة الحراك في السويداء، تسمح ببعض الحكم الذاتي الأمني والخدمي مقابل وقف التظاهرات.

الانفجار المفتوح: تندلع مواجهات مسلّحة بين فصائل محلية والنظام، تدفع نحو تدخل خارجي أو تفتيت فعلي للجنوب السوري.

تدويل الأزمة: تستغل قوى دولية الأزمة لتوسيع نفوذها (مثل روسيا أو أمريكا)، ما قد يُفضي إلى تقسيم ناعم للبلاد.

التكامل الكُردي-الدرزي: على المدى البعيد، قد تنشأ تحالفات بين مكونات "الهوامش السورية"، تؤسس لمرحلة جديدة من الصراع على شكل الدولة.

خاتمة: نحو وطن بلا ملامح؟

في لحظة تبدو فيها الدولة السورية جسداً بلا نبض، تتقدّم الأطراف الهامشية لتطالب بدورها، لا من موقع القوة، بل من باب النجاة. السويداء ليست وحدها، كما أن الكُرد ليسوا استثناءً. الجميع يواجه سؤال الهوية والكيان والمصير، في وقتٍ تراجع فيه المركز، وتقدّم الهامش.

ما لم تظهر إرادة داخلية حقيقية لإعادة بناء الدولة على أسس المواطنة لا الطائفة، والسيادة لا النفوذ الخارجي، فإن الكيانات ستغدو أمراً واقعاً، لا سيناريوهات محتملة. وقد تتحول سوريا إلى أرخبيل من الجغرافيات الخائفة، كلٌّ منها يبحث عن حماية في ظل غياب الوطن.

اضف تعليق