الربيع العربي بين الدكتاتورية والشورى

قراءة في استشراف الامام الشيرازي

علي حسين/مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام

من يطّلع على التأريخ السياسي للعرب والمسلمين سوف يكتشف من دون عناء، أن سمة الاستبداد لازمت أنظمة الحكم العربية والاسلامية منذ قرون، ويرى البعض أن الجذور الثقافية للشخصية العربية هي التي تقف وراء السمة القمعية لتلك الانظمة، حيث البيئة القاسية والنظام الأبوي التسلطي وخشونة الطبع، كلها اسهمت بطريقة واخرى في صنع الشخصية ذات الطابع التسلطي، لتشمل العائلة والمنظمة والدائرة والوزارة وكل ما يرتبط بالحكومة، إذ غالبا ما يكون المدير او الرئيس صعودا الى القائد الاعلى شخصية متزمتة منغلقة ذات نزعة فردية في اتخاذ القرارات كلها حتى المصيرية منها.

إرهاصات الربيع العربي

من المؤكد أن الانتفاضات العربية التي انطلقت شرارتها من تونس، لم تكن وليدة الصدفة، فقد أخطأ كثيرون حين اعتبروا ان الشاب التونسي بو عزيزي الذي اشعل النار في جسده، هو السبب في كل ما حدث في الساحة السياسية العربية، بل كانت درجة الاحتقان الجماهيري وارهاصات الربيع العربي تتصاعد يوما بعد آخر في عموم الدول العربية وبعض دول الشرق الاوسط، خاصة بعد أن أتاحت وسائل الاتصال للجمهور العربي، أن يرى ويلمس درجة التقدم الكبيرة التي يعيشها عالم الغرب والشعوب المتقدمة الاخرى في الصين ونمور آسيا وغيرهم.

وهكذا لم يعد النظام السياسي القمعي العربي قادرا على ضبط الشارع، حيث أخذت موجة الانتفاضات تنتقل من مدينة الى اخرى ومن بلد الى آخر، وتم إطاحة عروش حديدية كان رؤسائها يحكمون شعوبهم بالحديد والنار كما هو الحال مع مصر وتونس وليبيا وغيرها لا تزال تتقد فيها درجة الاحتقان العالية كما في البحرين التي شهدت احتجاجات عارمة متواصلة، قوبلت من لدن النظام الملكي البحرين بعنف وقسوة، بيد أنها لا تزال تتفاعل وترتفع حدتها يوما بعد آخر، نظرا للظلم الذي تتعرض له نسبة كبيرة من الشعب البحريني على ايدي اجهزة النظام الملكي القمعي.

ولعل المفارقة الكبرى لدى هذه الانظمة وحكامها، أنهم يظهرون غير ما يبطنون ويعلنون غير ما يعملون، فهم غالبا ما يدّعون التحرر والانفتاح والشورى ومراعاة حقوق الشعب، إلا أنهم في الحقيقة يتصرفون كالجبابرة المتوحشين مع شعوبهم، لذا فالاسلام ليس لفظ واقوال او كلمات مجردة، بل هو موقف وفعل وعمل ملموس، فاذا ادعيت انك قائد اسلامي ينبغي ان يظهر ذلك في افعالك واعمال وما تقدمه لشعبك واقعا.

يقول المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي في كتابه القيّم الذي يحمل عنوان (الشورى في الاسلام):

(لا يكفي للحاكم الإسلامي ان يُطبّق مبادئ الإسلام وقوانينه، بدون تطبيق مبدأ الشورى الذي هو ركن من أركان الحكم في الإسلام، ذلك لأنّ الناس عندما يرون أنهُ لم يُطبَّق قانون الإسلام الذي هو الشورى ينفضّون من حوله ثم يثورون عليه حـتى إسقاطه؛ هذا إذا فرض انـهُ حسن الاستنباط وحسن التطبيق، وذلك قليل أو يكاد يكون معدوماً، بل الظاهر أنّـه من غير الممكن إن يُحسن الاستنباط ويُحسن التطبيق، من غير الاستشارية في أصل مجيء الحاكم، وفي مدة امتداده بعد المجيء، إذ الاستنباط المحتاج إلى العمل المداوم لا يكون حسناً، فكيف بالتطبيق الخالي عن الاستشارة الدائمة).

مظاهر القمع واسبابه

ان المتابع للوضع العربي عموما، يمكنه أن يكتشف مظاهر القمع التي تتعرض لها الامة بسهولة كبيرة، إذ نتيجة للقمع تظهر للعيان حالات الاضطهاد الكبرى التي يتعرض لها الناس، لاسيما اصحاب الصوت المعارض للنظام، فسرعان ما يتعرض الى السجن والملاحقة والتشريد والنفي، فضلا عن الاقصاء والتهميش، حتى يصبح المواطن مواطنا من الدرجة العاشرة وهو يعيش في بلده وارضه التي يترعرع فيها، فلا حقوق ولا حريات ولا عمل ولا كرامة، حيث يهان المواطن من لدن اجهزة النظام كما هو واضح فيما حدث ويحدث في الانظمة العربية القمعية التي اخذت تتهاوى تحت ضربات الجماهير الغاضبة، ولعل السبب يتضح بجلاء من خلال مظاهر القمع الحكومي، وعدم رعاية حقوق الناس وصيانتها، وابتعاد النظام السياسي كليا عن تطبيق مبدأ الشورى كمنهج سياسي يصون حقوق الجميع، يقول الامام الشيرازي الراحل في الكتاب نفسه:

(إنّ عدم تطبيق الشورى سيجعل الفاصلة بين الحاكم والمحكومين شاسعة وكبيرة، فيأخذ كل طرف بقذف الطرف الآخر، وهنا يبدأ الصراع، فيأخذ الحاكم الـذي يسمي نفسه بالإسلامي بمهاجمة المسلمين ويقذفهم بمختلف أنحـاء التهم، ابتداءاً مـن ضد الثورة أو ضد الحاكم أو عملاء للاستعمار والأجنبي وانتهاءاً بأنهم رجعيون خرافيون، وانهم كسالى عاطلون، إلى غير ذلك من التُهم والافتراءات). ويضيف الامام الشيرازي قائلا:

(وكلّما اشتد الصراع سيعجّل من سقوط الحاكم. ان مثل هذا الحاكم مثل لص دخل الدار وسرق أثاثها، ثم لما رأى هجوم صاحب الدار عليه، أخذ يتهِّم صاحب الدار بأنهُ لص وكذا وكذا، فـهل يكون ذلك إلاّ سبباً لتعجيل القبض عليه وإخراجه من الدار ومعاقبته؟).

اما اسباب القمع فهي واضحة للعيان، حيث تكمن في طبيعة شخصية الحاكم العربي نفسه، وتكوينه وميله الشديد نحو التسلط والفردية، ولعل النظام العالي الابوي السلطوي يشكل اساسا لكل انظمة الحياة السلطوية في المجتمعات العربية، حيث يشعر الحاكم العربي بتضخم ذاتي كبير، يفقد معه قدرته على التوازن، فيذهب بعيدا في تعامله القاسي بل المتوحش مع الشعب الذي يبقى قيد الحرمان والفقر والجهل، فيما تتنعم الطبقة الحاكمة بأموال الشعب المحروم من ابسط حقوقه السياسية والصحية والاجتماعية وسواها.

معالجات لابد منها

لقد استقرأ الامام الشيرازي الحال العربي الاسلامي الراهن قبل عشرات السنين، وتوقع ما سيحدث الان بسبب القمع الذي مورس مع الامة من لدن حكام قمعيون، لا يحسنون سبيلا لبقائهم في الحكم سوى القتل والتشريد والتكميم وما الى ذلك من وسائل تتجاوز على كرامة الشعب وحقوقه، وقد ادرك الامام الشيرازي ما سيؤول إليه الوضع العربي بل الوضع في الشرق الاوسط كله، وقد حذّر الحكام من مغبة سلوكهم واعمالهم المضادة لحريات الناس والتي تغمط حقوقهم، وقد وجّه الامام الشيرازي قوله الى الجميع حين اكد على اهمية الاستفادة من تجارب الامم الاخرى لاسيما في الجانب السياسي.

يقول سماحة الامام الشيرازي الراحل في هذا المجال في كتابه (الشورى):

(كان علينا أن نـقف ولو ملياً عند تاريخ الغرب الـذي ابتُلي بحكام مستبدين سواء بإسم الدين كما هو في حكام الكنيسة، أو باسم الدنيا، كما كان في الملوك والدوقات، وكان أوضاع الإمارات الأوربية تتقهقر من سيئ إلى أسوء، حتى ألَّفَ عقلاء الغرب عشرين ألف نوع من الكتب التوعويةـ كما قرأت في إحدى النشرات وقاموا بتوزيع هذه الملايين من الكتب على الناس، وقد أدّت هذه الكتب إلى ايقاظ الناس وتنبيههم إلى أنّ المشكلة التي يعانون منها سببها الحكام المستبدون، وان الخلاص لا يتحقق إلاّ بتوزيع السلطة).

وقد اكد الامام الشيرازي على النتائج الجيدة للبدايات الجيدة، كما حصل مع الغرب، فمن يتخذ من المبدأ الاستشاري طريقا له ومنهجا لحياته، لابد أنه يحقق النجاح المطلوب، إذ يقول الامام الشيرازي ايضا:

(وكانت الحصيلة انتصار الغرب على مشكلاته وارتفاعه فوق الحضيض، حتى أنهُ أصبح سيداً ليس على نفسه بل على العالم بأسره. ونحن هنا لا ندعي أنّ الغرب قد وصل حدّ الكمال، لأنّ الكمال في الإسلام، إلاّ إننا لابدّ أن نقرّ بأن الغرب لمّا حاول تطبيق الشورى ـ إلى حدّ ماـ ارتفع عن ذلك الحضيض إلى هذا المكان المرتفع الذي وصله).

وهكذا تم الخلاص من دكتاتوريات حكمت طويلا كما في تونس ومصر وليبيا، وغيرها دول اخرى ذات انظمة قمعية ستزول، تحت ضربات الجماهير القوية، بيد أن الامر ينبغي ان لا يقود الى ولادة دكتاتوريات جديدة، تتعامل باسلوب الانظمة السابقة من حيث القمع والتقييد ومصادرة الحريات، لان زوالها سيكون حتمي ايضا، إذ لم يعد هذا العصر مناسبا للأنظمة القمعية.

* مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام

http://annabaa.org

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 9/أيلول/2012 - 21/شوال/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م