من المشكلات الجوهرية الكبرى التي تواجهها البشرية راهنا، هي مشكلة
التدمير المتعمَّد للبيئة من لدن الانسان نفسه، وكأنه لا يعي خطورة هذا
التدمير، حاله حال الجاهل او المجنون او الطفل الذي لا يعي خطورة ما
يقوم به من أفعال، ولكن هناك اسباب اخرى تُسهم في دفع الانسان لتدمير
البيئة، تتمثل بالطمع واللهاث وراء المصالح القومية والدولية الربحية
وغيرها.
وذلك من خلال الصراع والتنافس الاقتصادي الخطير الذي تخوضه الامم
فيما بينها في ارجاء المعمورة اجمع، ولذلك تنبّه المعنيون والمصلحون
والمفكرون الاخيار لخطورة ما يقوم به الانسان من تدمير متواصل منظَّم
وعشوائي للبيئة، يتزايد في كل يوم وتتضاعف خطورته في كل يوم ايضا.
وقد أوضح الإمام الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني
الشيرازي - رحمه الله- (بأن الإسلام قد بين أحكام البيئة سلباً وايجاباً
ووجوباً وحرمة وندباً وكراهة وتكليفاً ووضعاً، مبينا ان للبيئة سقف
واحد هي السماء ولها قاع واحد هي الارض وسائر ما يتكون منهما من الماء
والمرعى بليلها ونهارها هي التي تكون هذه المجموعة المختلفة الأبعاد
حتى يعيش الإنسان فيها عيشا تتوفر فيه كافة مصادر الديمومة له ولما
حوله)، لذا سيستمد مقالنا هذا ركيزته الاساسية من رؤية الامام الشيرازي
للبيئة وكيفية التعامل معها، استنادا الى ما ورد في مؤلَّفه القيّم (الفقه:
البيئة).
مفهوم البيئة ومشكلاتها
ترتبط المشكلات البيئية بصورة رئيسية بالتلوث، كما وتعرف الملوثات
بانها أية مواد صلبة أو سائلة أو غازية وأية ميكروبات أو جزيئات تؤدي
إلى لزيادة أو نقصان في المجال الطبيعي لأي من المكونات البيئية.
وهناك تعامل بشري مدمِّر للبيئة، يتمثل فيما يُطلق عليه علميا في
مجال البيئة، إستنزاف التنوع الحيوي ويشمل؛ استنزاف الغطاء النباتي،
واستنزاف الحيوانات البرية، فاستنزاف الغطاء النباتي ينتج بفعل القطع
الجائر والرعي الجائر والتلوث والكوارث الطبيعية من حرائق وبراكين
وجفاف، أما استنزاف الحيوانات البرية فينتج بفعل الصيد الجائر والتلوث
والقضاء على موائل الحياة البرية وغيرها.
ولدينا ايضا مشكلة التصحر وهي تتمثل بمجموعة العمليات التي تؤدي إلى
انخفاض إنتاجية أي نظام بيئي، وينتج بفعل عوامل طبيعية مثل انحباس
الأمطار، وارتفاع درجة الحرارة أو انخفاضها، أو بفعل الإنسان مثل الرعي
الجائر وقطع الأشجار المستمر والزحف العمراني واستخدام الملوثات
بأنواعها. ولمقاومة التصحر.
ولعلنا نتفق على ان من أبرز مشكلات البيئة وأكثرها تعقيدا وأصعبها
حلا، هي مشكلة تلوث التربة ومياه البحار والأنهار والبحيرات والمياه
الجوفية، وينتج هذا التلوث من نفايات ومخلفات المصانع، وعن استعمال
المواد الكيميائية، مثل مبيدات الآفات والأسمدة الصناعية في الزراعة،
كما ينتج عن نفايات مخلفات المنازل والمباني والمنشآت الأخرى.
وتزداد مشكلة هذا التلوث بزيادة إنتاج المواد الكيميائية واستخدامها
في الصناعة، حيث يؤدي التخلص من هذه المواد إلى تلوث التربة والماء،
ويزداد حجم مشكلة التلوث من الصناعة حينما يكون هناك إهمال أو عدم
اهتمام بالتخلص من مخلفات المصانع الكيميائية، بالوسائل التي تحافظ على
التربة والماء من التلوث، ففي عمليات صهر النحاس الخام مثلا، يتسرب
عنصر الزرنيخ السام والمختلط بالمعدن الخام إلى التربة والماء، إذا لم
يكن هناك إجراءات دقيقة لمنع تسرب الزرنيخ إلى التربة والماء، وهكذا
نلاحظ أن المشكلات البيئية والتحديات التي تواجه المدن العربية (مثالا)،
وكذلك جهود حماية البيئة، تختلف من دولة إلى أخرى، وذلك استناد إلى
ظروفها الطبيعية وحجم وتنوع الموارد المتاحة وكثافة السكان، وتنوع
التنمية الاقتصادية ونظمها الاجتماعية، وقد زاد من تفاقم المشكلات
وتنوعها في مدن العالم العربي والاسلامي، أن معظم الدول اعتمدت على
أساليب التنمية السريعة، والتي بدورها تعتمد على الاستغلال المكثف
للموارد الطبيعية، وباستخدام تقنيات الانتاج الحديثة التي في كثير من
الأحيان لا تلائم الظروف البيئية، كما أن سياسات توفير الخدمات يتم
بصور لا تتكافأ مع المجتمعات الحضرية والريفية ومعطياتها، مما يؤدي إلى
زيادة معدل التدهور البيئي والمشكلات البيئية.
رؤية الامام الشيرازي للبيئة
اما عن طرق وأساليب مكافحة التلوث التي يفرضها الشرع والعقل على
الناس، فقد أوضح الامام الشيرازي -رحمه الله- هذه المسألة بأنها (مسؤولية
جماعية تشترك فيها الحكومات والجمعيات والمؤسسات والأفراد على حد سواء،
لضمان حماية البيئة من خلال الإلتزام بحماية الهواء أولاً وايصال نسبة
التلوث فيه الى الحد الطبيعي وذلك بضبط مصادر التلوث عن طريق نصب اجهزة
لتنقية الهواء من الغازات والجسيمات الضارة خصوصا في الاماكن العامة
والمستشفيات والمدارس والدوائر الرسمية وغيرها، ثم محاولة الاستفادة من
العوادم ومعالجتها وإعادة استخدامها مرة اخرى، فيما يعرف حديثا
بالتدوير والطاقة المتجددة).
ويرى الامام الشيرازي ان للتلوث قسمين هما مادي ومعنوي، فالتلوث
المادي هو التلوث بأي شيء غريب عن مكونات المادة الطبيعية سواء كانا
شيئين حسَنين او غير حسَنين، وفي الإصطلاح الحديث يقال التلوث بمعنى
إفساد مكونات البيئة من تحول العناصر المفيدة الى عناصر ضارّة في
الهواء او الماء او المخلوقات، والتلوث بهذا المعنى هو صورة من صور
الفساد والإفساد حيث ورد في الذكر الحكيم (ظهر الفساد في البر والبحر
بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا)، والمراد هنا ان يذوقوا
العقاب فأقام المُسبب مقام السبب.
ويحذرنا الامام الشيرازي بوضوح لا يقبل الشك، من أن النتائج التي
ستترتب عليها تجاوزات الانسان على البيئة ستكون وخيمة جدا، وينبهنا
سماحته بجدية عالية على وجوب الكف عن التعامل العشوائي مع البيئة، خاصة
ما يتعلق بقضية التلوث التي تتعرض لها البيئة، بطريقة لم يسبق لها مثيل
في تاريخ البشرية، حيث تتضح نتائج هذا التعامل الخاطئ بل الكارثي مع
البيئة، على تغير اجواء الارض، وحصول بعض الظواهر التي تهدد الحياة
البشرية برمتها، مثل ظاهرة الاحتباس الحراري، او حدوث ثقب في طبقة
الاوزون، الامر الذي يهدد الحياة بالفناء، فيما يتغافل الانسان عن
اخطائه الخطيرة هذه، متذرعا بالمصالح الربحية واطماعه المتصاعدة، التي
لا تبرر اطلاقا ما تقترفه الانسانية من اخطاء كارثية بحق البيئة.
لذلك يرى الإمام الشيرازي (أن ملوثات البيئة إذا تمكنت من القضاء
على البكتيريا النافعة فإن الحياة على كوكب الأرض تكون مهددة بالفناء
وكذلك ارتفاع نسبة الأملاح في التربة عن المعدل الطبيعي يوجب تلوث
التربة، وهنا تكون مسؤولية الإنسان كبيرة نحو الطبيعة والبيئة).
بعض الحلول المقترحة
لاشك أن هناك اجراءات للحد من خطورة التعامل البشري المسيء مع
البيئة، وهناك تشريعات وقوانين دولية ومحلية، تحاول أن تضع حدا لخروقات
الانسان ضد البيئة، بمعنى هناك سعي لوقف الخروقات، ولكن ما هو واضح
للعيان أن الامر (قضية البيئة) لا يمكن حلّها عبر حلول او تشريعات
مجتزأة نظرا لفداحة المشكلة وكبر حجمها وضخامتها، ناهيك عدم الشعور
المتزايد ازاء التعامل مع هذه المشكلة الخطيرة.
هنا يتساءل الامام الشيرازي في كتابه (الفقه: البيئة): (فما هو الحل؟)
ويجيب سماحته بما يلي:
(يبدأ الحل أولاً بالوعي. لابدّ أن تعي البشرية خطورة التلوّث.
وثانيا: عليها الالتزام بالقوانين والسنن التي سنّها الله في الكون
والتي أوصلها إلينا عبر تعاليم الدين الإسلامي الحنيف بالشكل الأشمل
والأكمل.
ثم بعد ذلك تأتي الخطوة الثالثة: وهي الوقوف وقفة حازمة وقوية أمام
المشاريع والفعاليات التي تنتج التلوّث. وهذه الخطوة تتوقف علـى مقدار
ما تبديه البشرية من تعاون وتآزر لوقف هذه المشاريع الخطرة. وهذه
الخطوة تقع مسؤوليّتهـا أيضاً علـى هيئة الأمم المتحدة وهي إصدار قانون
دولي لحماية البيئة، ويكون هذا القانون إلزامياً بحيث تدعمه قوة تعمل
على الحفاظ عليـه كما تقـوم القوات الدوليـة بتطبيق قرارات الأمم
المتحدة.
الخطوة الرابعة: مكافحـة جذور التلـوث سواء كان مصدره دولة أو
مصنعاً أو شركة أو فرداً. فمن مسؤولية المجتمع الدولي ـ حكومات وهيئات
دولية ـ مقاومة أية دولة أو جماعة أو مؤسسـة تقـوم بتلويث البيئـة).
هكذا يقدم لنا الامام الشيرازي، سلسلة من الحلول التي ستعطي ثمارها
المؤكدة، فيما لو تم الالتزام بها دوليا على المستوى الرسمي، وفرديا
وجماعيا على المستوى الاهلي، حيث اوجبت التعاليم الدينية والاخلاقية
والعرفية وسواها، محافظة الانسان على نفسه وبيئته وحياته عموما.
* مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام
http://annabaa.org |