تتميز التجربة التأليفية الخلاقة للإمام الراحل آية الله العظمى،
السيد محمد الحسيني الشيرازي (رضوان الله تعالى عليه)، ونحن نعيش في
الذكرى السنوية الحادية عشر لرحيله، بسعتها اولا، وامتدادها لتشمل
جوانب الحياة كافة، ثم توزعها على مسارات تطبيقية حياتية، وعلمية
فقهية، قدمت للمسلمين وللإنسانية عموما، طروحات عميقة وخلاقة، عبر مئات
الكتب والمجلدات، التي بحثت بعمق وباسلوب وصفه كثير من المختصين بالسهل
الممتنع، حيث توجّهت هذه التجربة الفكرية نحو البحث في كل ما يتعلق
بحياة الانسان والطبيعة، ناهيك عن بحث الامام في مجال الفقه بصورة
معمقة ومتواصلة، وسهلة الفهم من لدن المستويات الذهنية المتباينة
للقراء والمتلقين في كل الاصقاع.
التجربة الخلاقة
نعني بالتجربة الفكرية الخلاقة، انها تساعد الانسان على معالجة
اوضاعه ونواقصه المتعددة، بغض النظر عن المكان او الزمان، فالفكر
الانساني للإمام الشيرازي على الرغم من انه موجَّه بالدرجة الاولى
للمسلمين، إلا ان الانسانية كلها تستطيع توظيفه لصالحها، وهذا ما حدث
بخصوص نظرية اللاعنف للامام الشيرازي، ولعل آراء الكتاب والنقاد
الكثيرة التي قيلت بحق تجربة الامام، تؤكد خلاقية هذا الفكر وتجدده
المستمر، ومواءمته للأزمنة كافة، لسبب بسيط جدا، ان هذه التجربة تنطوي
على فكر ذو نزعة انسانية، تهدف الى تحسين الفكر وتطويره لخدمة الانسان،
ومن ثم نشر الصلاح والخير، ومساعدة الشعوب في كفاحها المتواصل، لتحسين
حياتها السياسية والاقتصادية، اضافة الى المجالات الاخرى، الدينية او
العلمية عموما، مع مراعاة ظروف الانسان، ومكافحة ظواهر الانحراف كافة.
لقد أظهرت آراء الكثير من الكتاب الذي درسوا تجربة الامام الشيرازي،
تميّز هذه التجربة وتفردها من حيث الاسلوب والطرح والمضمون ايضا، لذا
يعد الامام من ابرز المصلحين والمفكرين الانسانيين، الذين لم يدخروا
جهدا في سبيل تنوير الانسان، كما يتضح ذلك – على سبيل المثال وليس
الحصر- في المقال الذي كتبه الشيخ عبد الله احمد اليوسف، إذ يقول فيه:
(يعتبر الإمام الشيرازي واحداً من أبرز دعاة الإصلاح والتجديد في
القرن العشرين، فقد كان مجدداً في الفقه، ومجدداً في الفكر والثقافة،
ومجدداً في الحوزات العلمية، ومجدداً في المرجعية الدينية، وقد امتلك
الإمام الشيرازي عقلية مبدعة ومبتكرة مكنته من الإبداع والتجديد
والتطوير في مختلف حقول المعارف الدينية. وقد قام الإمام الشيرازي
بالفعل بتأليف الكثير من الكتب التي تتناول القضايا المعاصرة، والمسائل
المستجدة، كما أجاب في العديد من كتبه عن الكثير من الإشكاليات
المطروحة عن الإسلام، وتمكن من عرض مبادئ الإسلام وقيمه ومثله للأجيال
المعاصرة).
ولعل سمة التجديد ومواكبة العصر، تُعدّ من أهم ما تتميز به تجربة
الامام الشيرازي الفكرية، إذ يقول الشيخ احمد اليوسف أيضا:
(في كل عصر يبرز من الفقهاء من يتميز بالنبوغ والعبقرية والذكاء
الخارق مما يؤهلهم للتجديد في الفقه وأصوله، ومعالجة قضايا العصر
بأسلوب استدلالي معمق، وهذا ما يعطي للفقهاء القدرة على مواكبة قضايا
العصر، واستحداث أبواب جديدة في الفقه للإجابة على تساؤلات العصر
وإشكالياته. وقد كان الإمام الشيرازي من أبرز من لمع في هذا المجال في
العقود الأخيرة من القرن العشرين، حيث تعتبر موسوعته الفقهية سيدة
الموسوعات على الإطلاق، إذ لا توجد موسوعة فقهية ـ لحد الآن ـ قد وصلت
من حيث الحجم أو من حيث البحوث الجديدة أو التفريعات الكثيرة كما هو
عليه الحال في موسوعة الإمام الشيرازي الفقهية).
نظرية اللاعنف للامام الشيرازي
حاول المفكرون والمصلحون نشر قيم الخير وتصدوا لقيم الشر بقوة، كما
هو الحال مع الامام الشيرازي (رحمه الله) في نظريته الشهيرة عن اللاعنف،
حيث فصل رؤيته بوضوح تام، حول أهمية بل وجوب اعتماد اللاعنف كسبيل وحيد،
لمعالجة الخلاقات والصراعات بين الامم والشعوب والجماعات، إذ يقول
الباحث العلمي في جامعة دمشق/ كلية الصحافة/الاستاذ هيثم المولى: (يعد
الإمام محمد الحسيني الشيرازي- قدس سره- الداعية الإسلامي الوحيد في
عالمنا المعاصر وأحد أبرز رجالات القرن العشرين طرحاً وتصدياً لمفهوم
اللاعنف بكل مجالاته العملية والتطبيقية والفكرية وكان قد طرحه كإطار
مرجعي فكري إذ هو بعداً نفسياً وروحياً واجتماعياً في جميع التعاملات
الإنسانية، ويؤكد دائماً بأن مبدأ اللاعنف يحتاج إلى نفس قوية جداً
تتلقى الصدمة بكل رحابة فالإمام الشيرازي - قدس سره- يرى أن النفس
البشرية تمتلك الخصائص النوعية لتدعيم السلوك الإنساني من خلال قوة
التطبع بطابع السلم والمسالمة، فاتجاهات التطبيع الاجتماعي والنفسي
والأساليب الموصوفة تتشابه تشابهاً كبيراً في التربية وفي المجتمع
الواحد والتنشئة الاجتماعية وهذه الآراء تتلاقى مع آراء علم النفس
الاجتماعي).
ويضيف الباحث هيثم المولى قائلا: (يتحقق العصيان المدني عن طريق
العمل المباشر من خلال الاحتجاج أو الضغط السياسي. ويعرفه الإمام
الشيرازي - قدس سره- اللاعنف بقوله:
هو الطريقة التي يعالج بها الإنسان الأشياء سواء كان بناءاً أو
هداماً بكل لين ورفق حتى لا يتأذى أحد من العلاج وقد عرفته الموسوعة
السياسية بأنه سلوك سياسي لا يمكن فضله عن القدرة الداخلية والروحية في
التحكم بالذات وهي المعرفة الصارمة والعميقة للنفس).
وعن نظرية العنف للامام الشيرازي يقول الاستاذ المولى:
(إن مبدأ اللاعنف في فكر السيد الإمام محمد الحسيني الشيرازي - قدس
سره- يأخذ منحى التطبيق الواقعي، وهو يعتمد في ذلك على الرؤية
الإسلامية الواضحة حيث يقول: السلام هو الأصل، والعنف خلال الأصل، وعلى
الذين يريدون تطبيق الإسلام أن يتحلوا بملكة السلام واللاعنف، وهو غاية
ووسيلة فهو يوقض كافة أنواع العنف وينطلق من التاريخ والسيرة والتجربة
والنصوص الشرعية لتثبيت هذا المبدأ ويرى أن الرسول الأكرم – ص- والأئمة
عليهم السلام هم القدوة الحسنة في ذلك المبدأ ويرى أن الإسلام شعاره
السلام والإسلام دين السلام (يا أيها الذين آمنوا أدخلوا في السلم كافة).
ثم يخلص الباحث المولى الى أن الإمام الشيرازي يؤكد على أن (هدف
الحركة الإسلامية يجب أن يكون لنشر السلام على الأرض وليس الحرب..
وانتهاج الطرق السلمية بدلاً من العنف).
سلطان المؤلفين:
ان من يطلع على تجربة الامام الشيرازي بعمق ودقة، سوف يصل الى قناعة
تامة، بأن هذه التجربة الخلاقة، أعطت للبشرية أفكارا ايجابية عميقة
تساعد بقوة على تخليص العالم البشري من أزمات الاختلاف الحادة التي
تعصف به على الدوام، كما ان تنوع تجربة الامام وتعدد مساراتها واهدافها
(باسلوبه الواضح والمبسّط)، تؤكد بأنه من الكتاب والمفكرين القلائل
الذين أفنوا حياتهم في الكتابة والتأليف ونشر الفكر الانساني الخلاق.
يقول الكاتب حسن آل حمادة حول تجربة الامام الشيرازي التأليفية:
(قد لا نعدو الحقيقة لو قلنا بأن الإمام الشيرازي: هو نابغة الدهر
ونادرة التأليف، بل هو سلطان المؤلفين، كما وصفه بذلك الدكتور أسعد علي
أخيراً، فقد تجاوزت مؤلفاته الألف إصدار، بين موسوعة وكتاب وكتيب وكراس،
فسماحته لا يفتأ عن مسك القلم ليكتب ما فيه خير وصلاح لهذه الأمة. وقد
"لا نخطئ إذا قلنا أن الهدف الذي نستنبطه من كتابات الإمام الشيرازي...
يكاد لا يتجاوز تحقيق سعادة الناس، ووحدة المجتمع الإسلامي. ولكنه يعطي
لمفهوم سعادة الإنسان بُعداً أخروياً، أي أنّ الهدف هو رضوان الله جلّ
وعلا).
ومن الجدير بالذكر ان مؤلفات الامام الشيرازي قارب الـ (1500)
مؤلَّف بين مجلد ومتاب وكراس، وهو عدد كبير قياسا للتجارب التأليفية
الاخر، لذلك يعرف عن الامام حبه الكبير للكتابة والقراءة المتواصلة،
ناهيك عن نصحه المتواصل لكل من يلتقي على اهمية الاطلاع، والكتابة وما
شابه، وهنا يقول الكاتب آل حمادة عن الامام الشيرازي:
(مما الأمور التي تتناقل عن سماحته، أنه دائماً ما ينصح زائريه
بضرورة الكتابة والتأليف خاصةً في مجال تخصصاتهم، وفي معظم الأحيان
يقدم لمريديه وبيده الكريمة، بعض مؤلفاته المناسبة لهم، والتي تتلاءم
غالباً مع ثقافتهم؛ فالكثير من زواره لم يخرجوا من بيته، إلاّ وفي
أيديهم ما يناسبهم من كتبه. والإمام الشيرازي لا يكتفي بتأليف الكتاب
ونشره، بل يشجع أفراد الأمة على الإسهام في ذلك، كل من موقعه).
الفرصة لا تزال قائمة
لذلك نلاحظ في الغالب ان الامام الشيرازي، يركز كثيرا على اهمية
الكتابة والتأليف، ثم على الطبع والتوزيع، ويدعو دائما الى اهمية وصول
الكتاب الى جميع المسلمين مهما تباعدت اماكن اقامتهم، بل ويذهب الامام
الى اكثر من ذلك، حين يربط بين التقدم والازدهار من جهة، وبين تأليف
وطبع وتوصيل الكتاب الى المسلمين عموما من اجل زيادة الوعي، لذلك يقول
الامام الشيرازي في كتابه القيّم الذي يحمل عنوان (طريق التقدم):
(سابقاً كانت الأمة الإسلامية مجدة في تحصيل العلوم وتربية العلماء
والاحتفاء بهم والأخذ عنهم، ولذلك تطورت الأمة حتى سبقت جميع الأمم في
مختلف مجالات الحياة فأصبح المسلمون آباء العلم الحديث).
وعندما تخلى المسلمون عن العلم والعلماء كما يحدث هذا الآن، فقد
خسروا الكثير من فرص التقدم ومواكبة العصر، الامر الذي يدل على أهمية
ربط العلم بالعمل مع مكافحة الجهل بصورة دائمة. وهكذا تتأكد خصوصية
التجربة الفكرية الخلاقة للامام الشيرازي، عبر ما نلمسه من مؤلَّفاته
الكبيرة نوعا وكمّا، بالاضافة الى أقوال ودراسات النقاد المعمقة في هذه
التجربة الانسانية الاسلامية التي تستحق التمحيص والملاحظة والاطلاع من
لدن الجميع، للاستفادة منها في تحسين حياة البشرية جمعاء نحو الافضل
دائما.
* مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام
http://annabaa.org |