|
1 |
إبراهيم محمد جواد(1) |
|
تمهيــد |
|
بين يدي اليوم موسوعة صغيرة كبيرة، صغيرة في حجمها، كبيرة في مضمونها ومحتواها، إنها موسوعة (طرق مختصرة إلى المجد)(2). وهي فعلاً مختصرة في مبانيها، عميقة في معانيها، توصل من وعاها إلى مجد الدنيا ونعيم الآخرة، من أقصر طريق، ألا وهو الصراط المستقيم، الذي لا عوج فيه ولا التواء. إنها حكم بالغة، رشح بها قلب يقظ وعقل راجح وفكر واسع، لعالم عامل، ومربٍّ كبير، ومفكر راسخ القدم(3)، سالت من مداد قلمه، لتعبّر عن بصيرة نافذة، وتكشف عن فقه عميق لأبعاد الحياة وآفاقها، وأغوار النفس الإنسانية واتساعها، والجسور التي يجدر أن تجتازها لترقى عرش المجد، وتمتطي سفينة النجاح. |
مفــــاهـيـــم وقيـــم |
دعونا نسارع إلى قرع حصن الموسوعة، ونحاول أن نلج من بابه الواسع (الإيمان)، إلى عالم من القيم والمفاهيم التي تشيع في أرجاء الموسوعة النادرة، وها هو السيد المدرسي يطل علينا ببسمته المعهودة، وصدره الرحب، ليسلمنا المفتاح الذي يضع بين أيدينا - ونحن لا نزال على الباب - حقيقة أن (الإيمان لا يبحث لنفسه عن سبب.. فهو دائماً غاية بذاته) (4). فإذا سألناه من أين نلج، حدثنا حديثه الدافئ: (قال: من أين نبدأ؟ قلت: من الله. قال: إلى أين ننتهي؟ قلت: إلى الله. قال: وبينهما بماذا ننشغل؟. قلت: بالله. قال: أترى أن في ذلك ضمانة لدخول الجنة؟ قلت: ذلك يرجع إلى الله) (5). فإذا استفسرنا من السيد عن الفرق بين الحياة الدنيا التي تحتوشنا والحياة الآخرة التي تنتظرنا، أجابنا بقوله: (قف أمام مرآة صافية، وانظر إلى صورتك فيها، ترى ما الفرق بينك وبين تلك الصورة؟ ستقول: إن الفرق هو أنني الحقيقة، وتلك صورتها. وهكذا أمر الدنيا والآخرة، فالدنيا صورة الحياة، أما الآخرة فهي الحيوان لو كانوا يعلمون) (6). سماحة السيد؛ وأين الطريق الآمن، والصراط الضامن لعبور الدنيا إلى الآخرة؟ ألا توجز لنا الدليل، وتضعنا على جسر العبور؟ ويجيب: (دليل المؤمن إلى منابع الخير أحد أمرين: إما الشوق إلى رضى الرب، أو الخشية من غضبه) (7). وإذا عصفت بنا الحيرة عند بعض مفارق الطريق طمأننا قائلاً: (لا تخش الحيرة، فهي أحياناً أم الإيمان) (8). وإذا عجزنا عن فهم سر النقيض، أرشدنا إليه بقوله: (ليست نعمة الظلمة بأقل من نعمة النور، وليست نعمة الليل بأقل من نعمة النهار، وليست نعمة التعب بأقل من نعمة الراحة، وليست نعمة الجوع بأقل من نعمة الشبع، وليست نعمة الحرمان بأقل من نعمة الغنى، وليست نعمة الموت بأقل من نعمة الحياة، إن كل ما يأتي من الله جميل) (9). سيدي المربي.. نحن على جسر العبور، تجاوز مركبنا بعض المفارق ونحن لا نزال نخشى السقوط في المهاوي السحيقة من حولنا. نعم.. تخوفكم له ما يبرره، والمصدر هو الضعف، وتعلمون أن (ضعف الضمير يؤدي إلى ضياع التفكير، وضياع التفكير يؤدي إلى انحراف المسير، وانحراف المسير يؤدي إلى خراب المصير) (10) وهذا ما تخشونه. وكيف نتجنب ضعف الضمير وانحراف المسير وخراب المسير؟. إنه أمر واحد لا غير، هو أن تجعل كل توجهك إلى وجه الله تعالى، فإنه: (من يتوجه دائماً إلى وجه الله تعالى، فهو كمن يسير باتجاه الشمس.. فبينما هو يمشي في النور، فإن ظله يبقى أبداً وراءه. أما من يكشح بوجهه عن ربه فهو كمن يعطي ظهره للشمس، فهو يسير أبداً في ظلمات نفسه) (11). وكيف نضمن ذلك؟ (بتشييد قلعة الإيمان في القلب) (12)، (وعدم الخروج من حصن الدين) (13)، فالإيمان (قوة لا تقهر) (14) وهو (قلعة الأمل، والأمل قلعة العمل، والعمل قلعة النجاح) (15). وأما الدين، فإنه يساعد على الصراع في ثلاث جبهات: (جبهة الشهوات في النفوس، وجبهة السلطان في المجتمع، وجبهة المال في الناس) (16). إذن فالحياة الدنيا مليئة بالمتناقضات، ولابد أبداً من احترام الصراع بين جبهة الحق وجبهات الباطل. فهناك صنوف الطمع والجشع والحسد والأنانية والاستئثار، والظلم والطغيان والاستغلال، وأنواع كثيرة من الشرور والمفاسد المستشرية في المجتمعات الإنسانية في مختلف أصقاع الأرض، ولابد من مواجهتها، والجهاد المتواصل لدفعها، وإن كانت المواجهة تحتاج إلى عدد وعدة، وإن الجهاد يستلزم الاستعداد للكفاح، والتزود بالسلاح، وإلا (لو كانت عدالة القضية وحدها تكفي لكسب المعركة لما استطاع الطغاة إنزال الموت بالشهداء.. ) (17). لا يمكن دفع الباطل بحق أعزل، لكن الخطوة الأولى لانتصار الحق تكون أبداً بـ(رفض الباطل من أجل بناء الحق) (18)، فإذا خطوت هذه الخطوة الأولى برفض الباطل، ووقوفك إلى جانب الحق، (فإن كل ما في الكون سيقف معك، فالرياح ستجري لك، والشمس ستشرق عليك، والنجوم تلمع من أجلك. لأن الكون بناه الرب على الحق لا على الباطل) (19). وفوق ذلك فإن الله سبحانه (لن يقف في المواجهة بين الحق والباطل على الحياد) (20). صحيح أنه (لا يمكنك الوصول إلى حقك إلا بشرطين: الأول أن تكون قادراً على انتزاعه من الذي صادره منك، والثاني أن تكون قادراً على الدفاع عنه) (21). لكن في كل الأحوال (إذا لم تكن تمتلك القوة الكافية لانتزاع حقوقك، فعلى الأقل لا تتنازل عنها) (22). (فالحق ينتصر في النهاية، إنما أنت من يقطف ثماره إذا تمسكت به، أو تخسرها إذا تقاعست عنه) (23). وبالمقابل؛ فعلى المظلوم أن يمسك نفسه عن الانزلاق من حالة المظلومية إلى حالة الظلم، لأنه (مهما كان الظلم الذي وقع عليك فهو لا يبرر ظلمك لغيرك) (24). ولأن (الهزيمة مع الحق أفضل ألف مرة من الانتصار مع الباطل) (25). ولأن (القوة كل القوة في العدالة، والضعف كل الضعف في الظلم، والبطولة كل البطولة في الثورة من أجل الأول ضد الثاني) (26). |
بصـــــائـــــر ورؤى |
إن ما حفلت به الموسوعة من قيم رفيعة ومفاهيم سامية - يمثل الذي أوردناه جزءاً بسيطاً منها - قد أحيط بعالم شفاف من الرؤى والبصائر، التي تعتبر نتاجاً طبيعياً للفكر النير الذي حازه السيد المدرسي خلال مراحل جهاده المتواصل، ونضاله المرير، على الساحة الإسلامية بشكل عام والساحة العراقية بشكل خاص، قارع من خلالها الطغيان والظلم بشتى أشكالهما وألوانهما، فكان له ذلك الحصاد الكبير من الرؤى والبصائر، مما جعله يقرر أن (إغراء السلطة من أشد إغراءات الحياة خطراً وأكثرها ضرراً) (27)، وأن (السلطة تضم في أحشائها - لا محالة - إغراءات قوية إلى الانحراف والفساد) (28)، وأنها بما تملك من وسائل القوة (سرعان ما تتكتل حول ذاتها وتنعزل عن الناس) (29)، وأن (ريح السلطة يشل عقول الكثيرين، ويخرس ضمائرهم، ويميت قلوبهم) (30). وهكذا - وفي ظل السلطة - ينشأ الاستبداد والطغيان، و(في ظل الاستبداد يكون العلم في خدمة الظلم، والتعليم في خدمة التعتيم، والعلماء في خدمة الظلماء) (31)، وما كل ذلك إلا لأنه (لا شريعة للاستبداد) (32). وإن سألنا السيد المدرسي عن منشأ الاستبداد، كشف لنا ببصيرته النافذة عن ذلك بقوله: (الاستبداد نتاج أمرين: قوة الضعف في ضمير الحاكم، وضعف القوة في إرادة المحكوم) (33). والواقع أنه لا سبيل إلى إيقاظ الحاكم المستبد، لأنه (مثل المنشار المزدوج، الذي يأكل الخشب ذهاباً وإياباً) (34)، فهو لا يزال في شره ونهم، وطمع وغرور، ولا يمكنه كبح هذه النوازع الشريرة في نفسه، ولكن ماذا عن إرادة المحكوم؟ إنه نصف المعادلة، وهو الميدان الذي يمارس الحاكم المستبد استبداده فيه، وطغيانه عليه. ولذلك لابد من تحرير إرادة المحكوم، ورفع وهم الضعف عن قوته وقدرته. ويحدثنا السيد المدرسي عن الطريق إلى ذلك فيقول: (أسقط الطاغوت في وجدانك، فتلك هي الخطوة الأولى لإسقاطه في الحياة) (35)، لأنه (لا معنى لمحاربة الطاغوت إلا إذا حاربت فيه الطغيان القائم في نفسك)(36)، حيث أن (جبروت النفس أشد وطأة من جبابرة الزمان، فالجبت هو الحليف الأول للطاغوت في مسرح الحياة) (37). فإذا أنت فعلت ذلك، كان لك أن تتحرك لإسقاط الطاغوت بالعصيان والتمرد، بالقلم والبندقية، بالتصميم وقوة الإرادة، والصبر في المقاومة والمقارعة. ولتكن على يقين (أن وحشة الظالم من المظلوم أشد من وحشة المظلوم من الظالم، إلا أن الأول يخفي وحشته في قناع قوته، أما الثاني فلا يجد شيئاً ليخفيها فيه) (38). ولتكن على يقين أيضاً أنك (إذا رأيت الظالم مستمراً في ظلمه بلا هوادة فاعرف أن نهايته محتومة، وإذا رأيت المظلوم مستمراً في مقاومته بلا هوادة أيضاً فاعرف أن انتصاره محتوم كذلك) (39). بل وأكثر من ذلك فإنه (تبدأ هزيمة الظالم من لحظة انتصاره على المظلوم، ويبدأ انتصار المظلوم من لحظة مطالبته بظلامته) (40). إنها رؤىً وبصائر تنير للسالك درب الحياة، وتفتح عينيه على الوجود، وترشد خطاه نحو السعادة والمجد. لنستمع إليه وهو يدلي لنا ببعض بصائره ورؤاه: عن حقائق الحياة يقول: (حقائق الحياة ثلاث: العدل لا يشيخ، والحق لا يتحول إلى باطل، والخطأ لا يصبح صواباً) (41). وعن المال: (المال الكثير كالفقر المدقع، كلاهما مفسد لضمير صاحبه) (42). (جمع المال مقبرة القيم، أما إنفاقه فمزرعتها) (43). (كلما زاد المال زاد معه همان: هم الحفاظ عليه وهم الاستزادة منه) (44). (المال نصف المشكلة ونصف الحل، ونصف السعادة ونصف الشقاء، ونصف الصلاح ونصف الفساد، ونصف الراحة ونصف التعب، ونصف الخير ونصف الشر) (45). وعن السعادة: (السعيد كل السعيد من يقنع بمطلق المتعة، بدل أن يطلب المتعة المطلقة) (46). (السعادة لا تهبط عليك من السماء، بل أنت من يزرعها في الأرض) (47). (من استهدف سعادة نفسه فقط، خسر نفسه ولم يربح السعادة، ومن استهدف إسعاد الآخرين، ربح السعادة والآخرين معاً) (48). (ازرع بسمة تحصد فرحة، وازرع وردة تحصد سعادة، وازرع فكرة تحصد أمة، وازرع شجاعة تحصد حضارة) (49). (يمكنك أن تنام وحدك، وأن تأكل وحدك، وأن تسافر وحدك، وأن تمشي وحدك، وأن ترتاح وحدك، ولكن من المستحيل أن تحب وحدك) (50). وعن الحرية: (بعض الحرية لكل الناس، أفضل - بما لا يقاس - من كل الحرية لبعض الناس) (51). (قيمة الحرية في وجود الاختيار، وقيمة الاختيار في تحمل المسؤولية، فلا معنى لحرية لا اختيار لصاحبها في استخدامها، ولا قيمة لاختيار لا يتحمل صاحبه مسؤولية ممارسة الحرية) (52). (الحرية مسألة شخصية تهم الفرد، ومسألة حضارية تهم البشرية، ومسألة إلهية أرادها الله سبحانه وتعالى للمجتمع، ومن يصادرها إنما يصادر حق الفرد وحق المجتمع وحق الله تعالى في وقت واحد) (53). (الأحرار وحدهم يفهمون طعم الحرية،أما العبيد فكيف يمكنهم أن يفهموا طعم ما لم يتذوقوه؟) (54). وعن الأمل: (أن تعيش في الآمال الكبيرة خير لك من أن تسبح في وحول الهموم الصغيرة، فالآمال الكبيرة قد تحملك إلى عالم الكبار، أما الهموم الصغيرة فلا يمكنها إلا أن تشدك إلى عالم الصغار) (55). (لكي تحقق آمالك فإن عليك أن تقبل الآلام كجزء من متطلبات الحياة) (56). (كل الحقائق الموجودة على الأرض اليوم كانت مجرد آمال في يوم من الأيام) (57). (الأمل الكاذب مطية الشيطان، تماما كما كان الشيطان مطية الأمل الكاذب) (58). (من يملك الأمل يملك دائماً سفينة يمخر بها عباب بحر النجاح) (59). وعن النجاح: (لكي تنجح فإنك بحاجة إلى رؤية بعيدة وثقافة واسعة، ولكن لا الرؤية البعيدة ولا الثقافة الواسعة تضمنان لك النجاح، وإنما العمل الشاق المضني الذي يستنير بالرؤية ويتسلح بالثقافة) (60). (قوة الإرادة هي القاعدة المشتركة عند جميع الناجحين) (61). (النجاح الحقيقي هو في أن تكون لديك دائماً الخطوة التالية للبناء على ما أنجزته من قبل) (62). (ليس هناك نجاح كامل ولا فشل كامل، فالنجاح والفشل - كباقي قضايا الحياة - يخضعان لقانون النسبية) (63). (أحياناً يمكن أن يكون وراء كل نجاح فشل، كما يمكن أن يكون وراء كل فشل نجاح، فإذا أدى النجاح إلى الغرور كان سبباً للفشل، وإذا أدى الفشل إلى التواضع كان سبباً للنجاح) (64). (كل الناس يرغبون في النجاح، إلا أن بعضهم يقرر بالفعل أن ينجح، وبعض هؤلاء لا يكتفي بذلك وإنما يسعى لتنفيذ ما قرر، والبعض الآخر يزيد على ذلك بأنه يستمر في المحاولة رغم الفشل. وهذا وحده الذي يمكنه أن يضمن النجاح لنفسه) (65). (لكي تنجح افعل أولاً ما هو ضروري، ثم افعل ثانياً ما هو واجب، ثم افعل ثالثاً ما هو ممكن، وعندئذٍ تستطيع إنجاز ما هو مستحيل) (66). (أن تحمل مشعلاً كبيراً حتى ولو لم تنجح في وضعه على قمم الجبال، أفضل من أن تحمل شمعة صغيرة يمكن أن تضعها في أي مكان) (67). وفي مجال الحكمة يقول: (تعلم الحرية من الهرة، والكبرياء من الديك، واليقظة من الدلفين، وهدوء الأعصاب من الفيل، وخفة الحركة من الغزال، والإصرار على العمل من النمل، والتخطيط من العنكبوت، والوثوب على الهدف من الصقر) (68). (الغضب نوعان: غضب مطلوب وهو ما يكون من أجل المبدأ، وغضب مرفوض وهو ما يكون من أجل المصلحة) (69). (شتان بين شمعتين، شمعة تضاء في عيد ميلاد، وأخرى تحترق في ذكرى وفاة. وشتان بين قبلتين، قبلة الفرحة عند اللقاء وقبلة الحزن عند الفراق. وشتان بين وردتين، وردة تهدى في مناسبة زفاف، وأخرى تقدم في مناسبة عزاء. وشتان بين دمعتين، دمعة الفرح عند الوصال، ودمعة الحزن عند الوداع. وشتان بين صرختين، صرخة الأمل في ساعة الولادة وصرخة الذعر في لحظات الكارثة، وشتان بين ميتتين، ميتة في سوح الجهاد في سبيل الله، وميتة في مواجهة الحق في سبيل الطاغوت) (70). (إذا تعبت من السير فلا تقطع المسير، وإذا عجزت عن التقدم فلا تبدأ بالتراجع فإن لك خيار الاستراحة على قارعة الطريق قبل المواصلة من جديد) (71). (تخلص من الخوف من المجهول، وحينئذٍ لن يستطيع المعلوم أن يخيفك) (72). (أنت بين خيارين: إما أن تسيطر على أعصابك فتكون أعصابك وقوداً لك، أو أن تسيطر عليك أعصابك فتصبح أنت وقوداً لها) (73). (لا يمكن إزالة المخاوف من قلب ابن آدم، ولكن يمكن التغلب عليها أو تجاهلها، وفي ذلك تكمن الشجاعة الحقيقية) (74). وفي مجال التربية يقول : (من أراد من الأطفال التصرف كالكبار، فهو مثل من يريد من الكبار أن يتصرفوا مثل الصغار. إن لكل عمر مقتضياته) (75) (عرش الأمومة أرفع من أن تمسه أخطاء الأمهات بسوء) (76). (في داخل كل طفل رجل ناضج يمنعه من ركوب الأخطار، وفي داخل كل رجل طفل يدفعه إلى ارتكاب الحماقات) (77). (قال الولد لأبيه: يا أبت أحتاج إلى رأيك ورايتك ورؤيتك، فقال الوالد لابنه: وأنا احتاج لشخصك وشاخصك وشخصيتك) (78). |
الحيــــــاة والمــــوت |
الحياة لغز كبير، والموت لغز أكبر، وهما مرتبطان معاً لا ينفك أحدهما عن الآخر. والإنسان منفعل في كليهما، يقعان عليه بلا إرادة منه ولا اختيار، لا دور له في الإيجاد ولا في العدم، ولا مشيئة له في الحياة ولا في الموت. ومهما حاول الفلاسفة والمفكرون، فلن يجدوا إلا المشيئة الإلهية والإرادة الربانية مصدراً يقينياً للحياة والموت، ولن يصيبوا الحقيقة إلا فيما يقدمه الدين من حقائق عنهما وعن كنههما، والحكمة من كل منهما. والسيد المدرسي كمفكر إسلامي، وعى جوهر الإسلام وغاص على حقائقه الكبرى، واستوعب مفاهيم القرآن الكريم الظاهرة والباطنة، تطرق في موسوعته إلى هذين اللغزين الكبيرين، فكيف ينظر السيد المدرسي إليهما؟ وبماذا يتحفنا حولهما؟. إنه بداية يعتبر أن (الحياة مقدمة للموت، كما أن الموت مقدمة للحياة، وتلك واحدة من أعجب مفارقات الدنيا) (79) فما معنى ذلك؟. الحياة الأولى هي الحياة الدنيا، والنتيجة الحتمية لها هي الموت. والموت ما هو إلا تعبير مجازي يعني موت هذه الحياة الدنيا، وأما حقيقته فهو المجاز إلى الحياة الآخرة، فهو الجسر الذي يربط بين حياتين. إنه نقلة من حياة مؤقتة زائلة يختلط فيها الخير بالشر، والراحة بالتعب، والسعادة بالشقاء، والنعيم بالجحيم، إلى حياة حقيقية خالدة لا تختلط فيها الأمور، ولا تمتزج فيها الحالات فإما سعادة وإما شقاء وإما نعيم أو جحيم. إن الموت ما هو إلا انتقال من الظل إلى الشاخص أو بشكل أوضح من صورة الحياة إلى حقيقتها، كما سبقت الإشارة إليه(80). ويرى السيد أن (كل ما في هذه الحياة إنما هو صورة باهتة عما بعدها، وأنها المرة الأولى والأخيرة التي تسبق الصورة الأصل) (81). فالحياة إذن حياتان: دنيا وآخرة، لا يحجز بينهما إلا برزخ الموت، الذي هو نقلة من الأولى (الدنيا) إلى الثانية (الآخرة). أما الحياة الأولى فقد وصفها الخالق سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بأنها دنيا، وهي دنيا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، وهي دار تعب ونصب وشقاء، ولهذا السبب فإن السيد المدرسي يقول عنها (الحياة في بعض الأحيان كالبصلة، كلما توغلت فيها أكثر كلما دمعت عيناك أكثر) (82). ويقول (الدنيا بلاء وابتلاء، بلاء مع النفس وابتلاء مع الناس) (83). على أنه يحمل عن الحياة الدنيا صورة أخرى، فهو يراها (هبة الله الكبرى) (84)، ويرى أن (ليس في الحياة شر مطلق، فحتى العواصف الهوجاء تترك خلفها أجمل أنواع قوس قزح) (85). كما أنه يرى أن (جمال الحياة يكمن في تشكيلتها المتنوعة، وأطوارها المتفاوتة، والاختلاف الكبير بين منظر الجبل ومنظر الوادي، وأمواج البحر وطبيعة البر، وثبات الشجر وحركة السحاب، واختلاف البشر في الألوان والعادات والتقاليد واللغات والأذواق، واختلاف الليل والنهار، والصيف والشتاء، والربيع والخريف) (86). ومن هنا فإن الحياة جديرة بأن يعيشها المرء وهي ليست عبثاً، بل هي ضرورية للإنسان كممر له إلى الآخرة. والحياة الدنيا غامضة واضحة، باطنة ظاهرة، خفية وجلية، وهي (لا تكشف لنا إلا بعض أسرارها، ولا يكتشف الإنسان فيها إلا بعض نفسه) (87). و(الدنيا نموذج مصغر عن الآخرة، فعذابها نموذج من عذاب الآخرة ونعيمها نموذج من نعيم الآخرة، ونورها نموذج من نور الآخرة، وظلامها نموذج من ظلام الآخرة، ولكن الفارق بينهما كالفارق بين الذرة والمجرة، أو أكبر من ذلك) (88). على أن (من عجائب هذه الحياة، أنك لا تجد بديلاً عن أي جزء منها، فلا بديل عن الماء إلا الماء، ولا بديل عن الطعام إلا الطعام، ولا بديل عن النوم إلا النوم، ولا بديل عن اليقظة إلا اليقظة، ولا بديل عن الحركة إلا الحركة، ولا بديل عن الكلام إلا الكلام، ولا بديل عن الصمت إلا الصمت) (89). هذا عن الحياة، فماذا عن الموت؟. إنه السفر الطويل الذي يستحق أن يستعد له الإنسان كل الاستعداد، وأن يتزود قبله بكل ما يحتاجه للوصول إلى المحطة النهائية. فمن (يعترف بالموت ويتوقعه سيكون سهلاً عليه إذا واجهه، أما الذي يتجاهله ولا يتوقعه فسوف ينزل عليه مثل الجبال الراسيات) (90). إنه (قفزة عظيمة إلى عالم أعظم لمواجهة أمور عظمى) (91). وهو ولادة جديدة، فكما (أننا ولدنا لكي نموت، فنحن نموت لكي نولد) (92). يقول السيد المدرسي: (الموت موتان: موت يأتي إليك، وموت تذهب إليه. فالموت الذي يأتي إليك يشينك، أما الموت الذي تذهب إليه فيزينك، وهذا هو الفارق بين ضحايا الطاغوت والشهداء على يديه) (93). و(مع أن الموت والولادة محطتان متشابهتان في حياة الإنسان، إلا أن الناس يرحبون بالولادة ويكرهون الموت) (94) رغم أنهم لا يجدون إلى الفرار منه سبيلاً. ولعل (من أسباب العداء للموت أنه خطوة في مجهول، والناس أعداء ما جهلوا) (95). ولذلك فإن السيد المدرسي يواسي كل الأحياء - لأنهم سيموتون - ويعزيهم بقوله: (يا ابن آدم.. أنت في الدنيا غريب مهما التفّ حولك الناس، وأنت فيها فقير مهما جمعت من أموال، وأنت فيها عاجز مهما امتلكت من وسائل الحياة، وأنت فيها ضعيف مهما امتلكت من قوة، فلا وطن لك في النهاية إلا قبرك، ولا مال لك إلا كفنك، ولا نهاية لك إلا الموت، كل شيء هالك إلا وجهه) (96). ومن هنا فإن (أفضل الناس من يعرف أمرين مهمين: كيف يعيش وكيف يموت، فيعيش عيش السعداء، ويموت ميتة الشهداء) (97). وذلك لا يتحقق لدى امرئ، ما لم يتيقن من الحياة الخالدة بعد الموت، وهي الحقيقة التي تحمل الدليل على ذاتها بذاتها، لأنه (إذا كان العدم هو نهاية هذا الكون، فمنذ البداية لا تستحق الحياة أن تعاش) (98)، لأنها تكون حينئذٍ عبثاً في عبث، وهذا ما ليس يقبله العقل، ولا يستسيغه المنطق. ولهذا فإنه (لا مجال للشك في حياة بعد موت، كما لا مجال للشك في موت من هو حي. فالحياة كامنة في بطن الموت، والموت كامن في بطن الحياة، وفي كل واحدة نواة الأخرى) (99). (وإنما أنكر البعض الحياة بعد الموت، لأن ما بعده مهول وعظيم، يعجز العقل عن تصوره واستيعابه، سواء في جانب الخير أو الشر) (100). ويبقى (الموت كالحياة، لا يمكن فهمه بالعقل ولا بالعلم، ولا بالعاطفة، فقط يعرفه من جربه) (101). قد أرى أنه آن الأوان لأن أختم هذه التأملات في ذلك السفر العظيم، رغم أني لم أرشف فيها سوى قطرات من بحر محيط، ولم أتنسم سوى نفحات قليلة من عطرها الفواح، وأنّى لي أن أنثر من هذه المشكاة سوى النزر اليسير الذي نثرته منها؟. لذلك لابد لي أن أرغم القلم على التوقف، لأترك الصيد الثمين للصياد الساهر، والدر المصون للغطاس الشاطر، والجوهر المكنون للفنان الماهر. شاكراً الله سبحانه على ما أتاح لي من التأملات في موسوعة السيد هادي المدرسي، العالم العامل، والمفكر المبدع، والمربي الناصح، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. |
الهـــوامـــش : |
(1) إجازة في الشريعة الإسلامية من جامعة دمشق. (2) وهي عبارة عن (18) جزءاً من القطع الصغير، بلغ عدد صفحاتها (1294) صفحة، تحمل العناوين التالية: الإيمان، الأمل والسعادة، الحق، المال والغرور، المرأة والعلاقات الزوجية، الحياة والموت، النجاح، الحقيقة، تحقيق المكاسب، المحبة والصداقة، الحضارة، السلطة الطاغوت، الجهاد والحرية، الموازين، اجتناب السوء، التربية، الخير، العدل والظلم. (3) إنه سماحة السيد هادي المدرسي، وهو أحد عمالقة مدرسة ضاربة الجذور في العلم والفهم والجهاد والحكمة والتربية. (4) الكتاب الأول (الإيمان): ص7. (5) المصدر السابق: ص10. (6) المصدر السابق: ص18. (7) المصدر السابق: ص14. (8) المصدر السابق: ص21. (9) المصدر السابق: ص23. (10) المصدر السابق: ص61. (11) المصدر السابق: ص53. (12) المصدر السابق: ص67. (13) المصدر السابق: ص59. (14) المصدر السابق: ص84. (15) المصدر السابق: ص87. (16) المصدر السابق: ص84. (17) الكتاب الثالث (الحق): ص5. (18) المصدر السابق: ص7. (19) المصدر السابق: ص7-8. (20) المصدر السابق: ص5. (21) الكتاب الثالث (الحق): ص13. (22) المصدر السابق: ص15. (23) المصدر السابق: ص14. (24) الكتاب الثامن عشر (العدل والظلم): ص7. (25) الكتاب الثالث (الحق): ص27. (26) الكتاب الثامن عشر (العدل والظلم): ص6. (27) الكتاب الثاني عشر (السلطة والطاغوت): ص6. (28) المصدر السابق: ص8. (29) المصدر السابق. (30) المصدر السابق: ص47. (31) المصدر السابق. (32) المصدر السابق: ص49. (33) المصدر السابق: ص50. (34) المصدر السابق: ص41. (35) المصدر السابق: ص38. (36) المصدر السابق. (37) المصدر السابق: ص39-40 (38) المصدر السابق: ص39. (39) المصدر السابق: ص40. (40) الكتاب الثامن عشر (العدل والظلم): ص7. (41) المصدر السابق: ص17 - 18. (42) الكتاب الرابع (المال والغرور): ص6. (43) المصدر السابق: ص7. (44) المصدر السابق: ص9. (45) المصدر السابق: ص13. (46) الكتاب الثاني (الأمل والسعادة): ص23. (47) المصدر السابق: ص24. (48) المصدر السابق: ص29 - 30. (49) الكتاب الثامن (الحقيقة): ص147. (50) المصدر السابق: ص92-95. (51) الكتاب الثالث عشر (الجهاد والحرية): ص32. (52) المصدر السابق: ص33. (53) المصدر السابق: ص53. (54) المصدر السابق: ص46. (55) الكتاب الثاني (الأمل والسعادة): ص8. (56) المصدر السابق: ص5. (57) المصدر السابق: ص6. (58) المصدر السابق: ص11. (59) المصدر السابق: ص13 - 14. (60) الكتاب السابع (النجاح): ص6. (61) المصدر السابق: ص8. (62) المصدر السابق: ص8. (63) الكتاب السابع (النجاح): ص13. (64) المصدر السابق: ص16. (65) المصدر السابق: ص36 - 37. (66) المصدر السابق: ص49 - 50. (67) الكتاب الرابع عشر (الموازين): ص10. (68) المصدر السابق: ص9 - 10. (69) الكتاب السادس عشر (التربية): ص28. (70) الكتاب الرابع عشر (الموازين): ص98 - 99. (71) المصدر السابق: ص25. (72) المصدر السابق: ص39. (73) الكتاب السادس عشر (التربية): ص13. (74) المصدر السابق: ص18. (75) المصدر السابق: ص20. (76) المصدر السباق: ص8. (77) المصدر السابق: ص25. (78) المصدر السابق: ص14. (79) الكتاب السادس (الحياة والموت): ص92. (80) الكتاب الأول (الإيمان): ص14. (81) الكتاب السادس (الحياة والموت) ص92. (82) الكتاب السادس (الحياة والموت): ص5. (83) المصدر السابق: ص8. (84) المصدر السابق: ص9. (85) المصدر السابق: ص9. (86) المصدر السابق: ص5. (87) المصدر السابق: ص24. (88) المصدر السابق: ص26.س (89) المصدر السابق: ص41. (90) المصدر السابق: ص53 - 54. (91) المصدر السابق: ص54. (92) المصدر السابق. (93) المصدر السابق: ص52. (94) المصدر السابق: 54. (95) المصدر السابق: ص56. (96) المصدر السابق: ص52. (97)المصدر السابق: ص66-67. (98) المصدر السباق: ص67. (99) المصدر السابق: ص69 - 70. (100) المصدر السباق: ص67. (101) المصدر السابق: ص70. |