النبأ العدد 53 شوال 1421 كانون الثاني 2001
|
مرتضــى معــاش |
|||
إن الحياة الإنسانية ترتكز على وجود المجتمع المتكافل وهذا بدوره يتشكل من خلال الجماعات المختلفة التي تلتقي في إطارات ثقافية عامة يستوعبها الحس الجماعي بالمصلحة العامة. والجماعات تتشكل وتتأسس على ضوء وجود قناعات فردية واتفاقات منسجمة تؤدي إلى التقاء مجموعة أفراد تجمعهم أهداف وأفكار مشتركة تبتني عليها دافعية وجود الجماعة وروح وجودها.فالفرد هو الذي يشكل النواة الأساسية للمجتمع ويمثل العضو الحيوي في بناء أساس وكيان الوجود الاجتماعي العام، وهو عبر حاجاته وتواصله واتصاله مع الآخرين تتولد الدوافع الرئيسية للتجمعات البشرية العامة. وهذا يقودنا إلى نتيجة أساسية وهي ان المجتمع لا يتكامل بشكل سوي ولا يتطور إلا مع الصحة الفردية ومع نمو الفرد وتطوره، ذلك ان الفرد هو الذي يصنع التموجات السلبية والإيجابية والتأثيرات المختلفة في جماعته التي تنعكس بشكل مباشر على المجتمع. فإذا ضعف الفرد وانهارت بنيته الفكرية والنفسية تآكلت الجماعة وتفكك المجتمع وغاص في أوحال التشرذم والعكس هو الصحيح أيضا، وهذا الكلام يجري حسب قاعدة الأعم الأغلب في أفراد الجماعة والمجتمع. إن الفرد يشكل البنية التحتية والعضوية للمجتمع والتغيير الاجتماعي العام يبدأ عبر إيجاد عناصر التغيير الفردي في المجتمع بمعادلة تتدرج من القاعدة إلى القمة حيث يتصاعد التغيير بشكل تدريجي وبطيء إلى أن يستوعب معظم المراحل المختلفة لتشكيلات المجتمع. أما التغيير الذي يبدأ من القمة إلى القاعدة ويعتمد على التغييرات الشكلية لا المضمونية للمجتمع بصورة عامة فان هذا الأمر لا يحقق التحول الأساسي في المجتمع. يبدأ التغيير أولا من الأفراد عندما يدرك بعض أفراد المجتمع حقيقة الوضع وتتأصل فيهم روح ونزعة الإصلاح والتجديد ويمتلكون وعيا نوعيا يفتح لهم بصائرهم برؤى قادرة على رؤية الأحداث والوقائع والأشياء وتحليلها بصورة منطقية تؤسس لديهم قناعات وأفكار بضرورة إيجاد حركة تحول جديدة. لتبدأ بعد ذلك حركة تموجات مترابطة ترتد اتجاه الوعي الجماعي. ان التاريخ والحضارة يسيران جنبا إلى جنب ففكرة حضارية تؤدي إلى خطوة حضارية والخطوة الحضارية تؤدي إلى حركة تاريخية والحركة التاريخية تؤدي إلى خطوات حضارية، وعندما تتوقف الحركة الحضارية تتوقف الحركة التاريخية وتجمد الجماعة في مكانها وتبدأ بالتدهور وهذه هي الحضارات الموقوفة أو ما يسمى باسم Arrested Civilizations (1) . لكن الفرد يمثل الطاقة الفردية للحركة التاريخية باعتباره صانعا للتاريخ وهو بتأثره وتأثيره بالآخرين يبدأ عملا جماعيا لتحقيق النمو والتطور والتكامل، لذلك فان الفاعلية الفردية لا تكون بشكل ذاتي إلا في بعض الأفراد الذي يحملون وعيا راسخا وقدرة على التأثير في الآخرين، إذ ان أغلب الناس قد تعودا على التأثر بالآخرين وبالتالي على التحرك في الإطار العملي والفكري للنخبة الواعية. وفي ذلك يرى توينبي انه لابد لكل جماعة إنسانية من صفوة قائدة لكي تتقدم وتتحسن أحوالها وان مصير هذه الجماعة كلها مرتبط دائما بهذه الصفوة وأحوالها فإذا ظلت على هذا الحال من القلق والسعي والحرص على الفتح والكشف والتجديد والإحساس بمسئوليتها عن الجماعة تكونت حولهم جماعة من الناس يسيرون في الطريق بعدهم واطردت مسيرة الجماعة وطال عمر صلاحها. إن التغيير الاجتماعي الذي يبدأ من الفرد لابد ان يتطور بشكل تموج على باقي الأفراد وإلا فان التغيير الذي يجمد في إطار فرد أو مجموعة أفراد بحيث يبقى الآخرون خارج هذه الدائرة سوف لا يحقق التغيير المنشود، وهذا خطأ وقعت فيه الكثير من الجماعات عندما استبعدت بعض أفراد جماعتها ومجتمعها من إطار التغيير الجذري والمنهجي بشعورها بالتفوق الذي أوجد حاجز الاستعلاء على الآخرين، وهذا الأمر أوجد تقاطعات كبيرة بين النخبة والمجتمع ولم تمتزج القناعات والأفكار بشكل تلقائي على كافة المستويات. فعندما تشعر النخبة بالاستعلاء تعزل نفسها وتقبر أفكارها وتندثر مشاريعها وطموحاتها. نحن نبحث عن التغيير الفردي الذي يطّرد بشكل واسع على مختلف المستويات والاتجاهات. فالبحث عن تحول الفرد وتغييره بحث عن تحقق الشعور بالمسؤولية في ضميره والإحساس بحريته وإدراك قدرته على الاختيار والفعل والحركة و لذلك لعلهم قالوا أنا أفكر اذن أنا موجود. إن التحول الاجتماعي والتاريخي العام لايتحقق إلا بعد توفر مجموعة عناصر وشروط في الفرد فإذا توفرت أصبحت لديه القدرة على احداث التموج الفكري والثقافي والتغييري على الآخرين. |
|||
يعتمد بناء الإنسان التكويني على كونه ناقصا ضعيفا لذلك فهو يحتاج إلى الآخرين، وهذا الضعف التكويني كثيرا ما يؤدي إلى وجود إحساس مستمر بالعجز وعدم القدرة على الفعل والحركة. ومن هنا ينطلق التحدي الأساسي للإنسان في عملية تغلبه على عوامل النقص فيه سعيا للتكامل والنمو، ولكن اغلب الناس يفشلون في الاستجابة لهذا التحدي الأساسي عندما يفتقد عندهم روح الاقدام والفعل والمبادرة خصوصا عندما يتفاعل بشكل سلبي مع الضغوطات الخارجية والداخلية ويصبح بحكم المتأثر والمستسلم لها بحيث تكون استجابته آنية منفعلة مع الظروف المتراكمة عليه فلا يستطيع توجيه فكره وعمله باختياره حسب منطلقات عقله ووعيه الداخلي وإدراكه لذاته وطاقاته، وحينئذ فان معظم سلوكياته ستكون دفاعية تعتمد على غريزة الدفاع عن النفس إلى حد التوتر السلبي والانفعالات الارتجالية غير المنطقية. إن فشل الإنسان في اتخاذ قراراته بوعي وقدرة على الاختيار المنطقي هو أساس انهيار ذاته واضمحلال حريته، فيصبح بلا حرية منقادا لاقدار الحياة. إن الحرية هي القدرة على الفعل والتأثير في الآخرين ومتى ما اصبح الفرد قادرا على امتلاك ناصيته فانه يسير في الاتجاه الصحيح لبناء كمالاته وتحرير طاقاته. ونلاحظ ان أهم الأزمات الحقيقية التي تواجه الأمة هو فقدان الفرد المسلم لقدرته على التحكم بذاته واختيار طريقته في الحياة لذلك تتكاثر الأزمات التي تهب عليه من كل حدب وصوب مخلفة ركاما هائلا من التخلف والتبعية، وفقدان القدرة بشكل مطلق على استخدام فكره وحيويته لتحقيق وجوده الإنساني فهو كالمريض الذي فقد قدراته الجسمية واصيب بالشلل بحيث لا يستطيع حتى تحريك يديه أو جفنيه، وقد انعكس الشلل الفردي على الأمة ليصبح الشلل عاما. إن عنصر الذات في جوهره ينطلق من كون الإنسان حراً وقادراً على المبادرة والوجود كعضو حيوي في الجماعة والمجتمع وبهذا الاعتبار يساهم في بنائه وتطويره، لذلك يشعر المجتمع بحيويته وحركته من خلال وجود أفراد وجماعات تتبنى قضاياه الأساسية وتدافع عن مصالحه العامة، وهذا كان دور الأنبياء والرسل (ع) في بث الروح والحياة في المجتمع عبر بناء الفرد ذاتيا وإيجاد روح التكامل الذاتي فيه وايقاظ عنصر الحرية والفعل في ضميره، وقد قال تعالى في فلسفة وحكمة وجود الشريعة: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)، اذ ان تحرير الإنسان من مخاوفه وبث وعي الثقة بقدرته وحريته يمثلان الهدف الأساس لبعثة الإنبياء لاجل تحريك روح المسؤولية في داخله وإثارة كوامن الفكر في عالمه الداخلي ليعطي انعكاسا حقيقيا للإنسان في عالمه الخارجي، وفي الحديث القدسي: (عبدي أطعني تكن مِثلي تقول للشيء كن فيكون). ذلك إن الإنسان في تناغمه مع عالمه الداخلي يعثر على نفسه ويحس بحريته فيستطيع أن يحقق المعجزات بارادته وحريته، فكل إنسان هو رسول إلى مجتمعه لو امتلك نفسه ووجد حريته. |
|||
ومن عناصر بناء الذات هو امتلاك الثقة بالذات ومجاراة التحديات القوية، فمع ضعف الفرد واهتزازه الداخلي يفقد ثقته بنفسه لينصاع أمام قوة الآخرين ويذوب فيهم ويقتات من قيمهم وهذا هو اصل التبعية والانقياد الاستسلامي للقوى الاستعمارية، فروح الانهزامية أمام قوة الحضارات الغالبة هي التي سهلت مرور قيمهم المادية والفاسدة إلى عقول الأفراد الذين فقدوا وجودهم الذاتي واصبحوا على هامش حياة الآخرين. ان التغرب والانصهار هو انسلاخ عن الذات والتلبس بعباءة الغير وحمايته الموهومة. وهذا الأمر يقود الفرد بشكل خاص والامة بشكل عام إلى فقدان وجودها الحقيقي لصالح وجودات مهترئة يغلفها الجمال الظاهري المزيف وتسيطر عليها روح الانقياد المطلق والذيلية العمياء. والمجتمعات التابعة في عالمنا هي دليل على هامشيتها وفقدانها لأصالتها وضياعها الحضاري في خضم استغلال استعبادي لها. إن استرجاع الفرد لثقته بنفسه والتمسك بأصالة ذاته وحريته والتغلب على الروح الانهزامية يعطيه قدرات هائلة في بناء ذاته وبالتالي في قدرته على ايجاد التموج في جماعته ومجتمعه. |
|||
في الذات جانبان جانب معنوي يرتقي بالإنسان لكمالات متعددة عقلية وفكرية وأخلاقية وهذا الجانب الذي يجب ان يبحث عنه للعثور على نفسه وبناء إرادته، وجانب مادي تستثيره الغرائز والشهوات وحب إشباع اللذات فتقوده نحو الطمع والجشع والاستبداد وتظهر بصورة أجلى في أنانيته التي تبث الحقد والبغضاء اتجاه الآخرين وهذا هو أوضح صور التدمير الذاتي والاجتماعي. فالأنانية هي تعبير عن حب مطلق واعمى للذات ونزعة للسيطرة المطلقة على الغير ولو كان باستباحة حقوقهم ومصالحهم. فالأناني لا يفكر إلا في مصلحته الشخصية ولو كان ذلك على حساب المصالح العامة، ولكن رسالة الفرد التغييرية في المجتمع تتناقض مع وجود النزعات الشخصية المصلحية وهو ما نلاحظه حين تتقمص الفرد الأنانية فإنه يعمل على تقديم مصالحه الشخصية. ولذلك يسقط الكثير من أصحاب المبادئ في هذا الوحل عندما يبدأون في التفكير بمشاريعهم الخاصة التي تنطوي في إطار الأهداف التي رسموها لنيل مكاسبهم لوحدهم. وهذا هو أهم إشكال يفقد النخبة مقدرتها على ترجمة المصالح العامة والذوبان فيها، اذ يعتبرون أو يحاولون ان يوهموا لأنفسهم انهم حراس للمصالح العامة عندما يحرسون مصالحهم الشخصية، وكثيرا ما ضاعت الأهداف والمبادئ وضاعت معها آمال الناس عندما خاضت النخب صراعات مدمرة على السلطة والمكاسب. إن مشروع الفرد التغييري الذي يهدف إلى تحرير المجتمع وبناء وعيه الجماعي لابد ان ينطلق من قمة المصلحة العامة للامة إلى حد الذوبان فيها ونكران الذات وهنا يستطيع الفرد ان يحرر نفسه من قيم الأنانية التي تصبح حاجزا سميكا أمام رسالته السامية. يقول تعالى: (لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ).التوبة88 فالفلاح الحقيقي ليس في حراسة الأموال والخوف من فقدان النفس انما الفلاح في بذلها في خدمة الصالح العام وتحقيق الهدف الأسمى عبر بناء مجتمع متقدم في قيمه الإنسانية والأخلاقية ورشيد في فكره ووعيه. إن الإنتاج الاجتماعي يرتقي بقدر تفاعل الإنسان مع المصلحة العامة بحيث ينسجم تدريجيا معها ويعي بان مصلحته تتحقق عبر توجيهها في إطار المصلحة العامة. وعندما يسعى الفرد ويتحرك في إطار المصلحة العامة فانه ينسجم ويتفاعل ويتطور اكثر، وعلى العكس من ذلك فان الانغلاق على المصالح الشخصية وتفويت العامة منها يجمد الفرد ويعزله عن المجتمع ويولد حركات متضادة ومتنافرة تؤدي إلى تفكك المجتمع وفقدان لحمته وبالتالي فقدان غايته الوجودية في تحقيق التكافل. ويمكن رؤية هذه الحقيقة من خلال الآيات القرآنية التي تؤكد على ضرورة انصهار الفرد في القيم المعنوية للذات والتغلب على نوازعه الأنانية وأطماعه لكي يستطيع ان يحقق التناغم مع الآخرين ويؤدي رسالته وبالتالي ينال غاية الكمال والنجاح، يقول تعالى في كتابه الحكيم: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ).الحشر: 9-11. وهذه رؤى تعبر عن قمة المرحلة التي يصل فيها الفرد في نكران الذات لصالح بناء الذات. |
|||
إن الأزمات التي تواجه الفرد تقوده في بعض الاحيان إلى اتخاذ قرارات غير صائبة والى توجهات غير متوازنة يثقل كفتها الإفراط في التفاعل مع الظروف الصعبة أو التفريط في التعامل مع الآخرين خصوصا عندما ينتاب الفرد الغرور أو محاولة الحصول على المكاسب بصورة سريعة وسهلة، أو عندما يتهاون وتنتابه الشكوك من جدية رسالته ويحاول نتيجة ذلك التنصل من مسؤولياته، لذلك كان الجهاد مقارنا للصبر والاستقامة، لان الجهاد قوة إيمانية تحرك الفرد وتغذيه بالحيوية، والصبر يعطي توازنا للفرد في حال جموحه أو ضموره، يقول تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ).محمد: 31. فالصبر يلهم الفرد الحكمة والتوازن والقدرة على التحكم بالذات لذلك ينجح الفرد الصبور في فهم مجتمعه وفهم حركة التغيير التي تعتمد على التحمل الطويل والتدرج في التغيير، لذلك كانت سمة الأنبياء والرسل الرئيسية هي الصبر والاستقامة كما قال رسول الله: ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت. إن الاعتدال في عملية التغيير تعطي توازنا إيجابيا واستقراراً آمنا وبالتالي ثقة مطمئنة تثير فيه حيوية اكبر في العمل والحركة لانه يشعر بقيمة النتائج التي يحصل عليها ويدرك قدرة تأثيره على جماعته ومجتمعه في فكره واخلاقه. أما التطرف فانه يفقد الفرد توازنه ويصبح غير قادر على الرؤية الحكيمة والتبصر العميق لحركة التغيير وهذا ما يثير فيه الشعور بالفشل والإحباط وعدم الجدوائية. ذلك ان التطرف والتشدد يعمل على إكراه الآخرين وفرض التغيير السريع دون وجود قناعات حقيقية وتشرّب مركّز بالأفكار والمبادئ مما يؤدي إلى أن تنفر الجماعات والمجتمع عنه وعدم وجود إيمان حقيقي به، بينما الاعتدال يعطي للفرد القدرة والطاقة الإيجابية على اكتساب الناس واستيعابهم بإقناع وانجذاب وبالتالي الإيمان الحقيقي بالرسالة، يقول تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). وكذلك فان التوازن يعطي الفرد القدرة على التعامل الحكيم مع الأزمات والصراعات التي تلهب الأمة فيديرها بوعي ويمتصها وبالتالي يطفئها، أما الفرد غير المتوازن والمتطرف فإنه يفقد ذكاءه لصالح عنفه فيزيد هذه الصراعات التهابا ويعمق من تأثير الأزمات. |
|||
تبدأ عملية التأثير في الفرد على جماعته ومجتمعه عندما ينبع من وعيه التفكير الحيوي الذي ينبض بالتجديد والتحديث من اجل التطور التصاعدي للامة والتفوق على الآخرين، لان الأرض والكون في حركة متغيرة دائمة غير منقطعة وهذا هو معنى التاريخ الذي يشمل الماضي والحاضر والمستقبل حيث تتحد كلها مشكلة كلاً واحداً لا ينقطع كالنهر المتدفق الجاري المتجدد الذي لا يتوقف ولاينتهي وقد ينحدر بسرعة أو يصبح شلالا هادرا لذلك لا يستطيع الإنسان ان يقف متحديا له وإلا فانه سيجرفه بل لابد أن يسايره حتى يتأقلم مع حركة التغيير المستمرة وان يتفوق عليه ويسبقه، والامم التي تقف جامدة أمام شلال التاريخ فإنها سوف تنجرف ويقضي عليها الماء الهادر أو سيقودها إلى مستنقعات الظلام حيث الجمود والكسل والمرض والتخلف والاستبداد. والفرد الذي يريد تحقيق التموج الاجتماعي في الآخرين لابد ان يسبق التاريخ وان يحرك عملية التغيير عبر التحديث والتجديد ومقاومة الانغلاق والجمود، وهذا من اصعب الأمور لان الناس في طبيعتهم النفسانية الضعيفة قد تشربوا بالخوف من التغيير وفقدان ما في أيديهم والمحافظة على الموروث ففي اعتقادهم ان ما في اليد هو افضل من مستقبل غامض، وهذا القلق الذي جبل عليه الإنسان يجعله متمسكا بشكل مميت بالنظام التقليدي الموجود حفاظا على مصالحه وخوفا من ضياعها، ولكنه لا يدرك حقيقة أساسية هي أن التاريخ حركة جارفة لا يستطيع ان يقاومها الجامدون والواقفون في طريقه وسيجرفهم ان لم يغيروا أنفسهم وأفكارهم وادواتهم. لذلك يبقى التاريخ مخلدا لأولئك الأنبياء والمصلحين والمفكرين الذين قدموا للبشرية الفكر والأخلاق والتطور، أما الجامدون المحاربون للتجديد باسم المحافظة على التقاليد فقد دفنهم التاريخ تحت ركامه ومسح ذكرهم. إن الفرد عندما يخرج من دائرة التفكير في ذاته ويفكر في حل أزمة الأمة وتجديد روحها يستطيع ان يفعل ذلك بارادته والاستهانة بالصعوبات التي تواجهه، أما عندما يسيطر الخوف عليه ويكبله القلق فإنه يفقد روحه وارادته ويصبح أسيرا في سجن الجمود والتخلف والنسيان. فهل يقف الفرد عند حد معين ويوقف حركته المتصاعدة وبالتالي يختار حياة الخاملين ؟ أم انه يستمر في حركته المتجددة والمستمرة وان واجه اشد الصعوبات؟ ولكنه لابد ان يذعن لحقيقة كونية لايمكن معارضتها وهي ان الحياة قامت مع الحركة والتطور والتجدد والتغيير وان الموت يعني الجمود والتوقف والسكون والتحجر. |
|||
من اكثر المساوئ التي قد يبتلي بها الفرد هي الانغلاق على محيطه ودائرته الجغرافية والتمسك بهذا المحيط إلى حد كبير. وهذا يناقض جوهر حركة التغيير التي يقوم بها المصلحون، لان الانغلاق يؤدي إلى محدودية الحركة وعدم فاعليتها، فقدان التأثير الفعال على مستويات اكبر، محدودية الأفكار والمعارف والتجارب التي يمكن اكتسابها من الآخرين، فقدان روح العمل والمثابرة وسيطرة روح الكسل باعتبار ان السكون الجغرافي يؤدي إلى هذه النتيجة، سيطرة روح التملك والتعلق مما يتعارض مع روح الإصلاح والتغيير التي تعتمد اساسا على سمو المبدأ والهدف فوق كل الاعتبارات، عدم مجاراة التغييرات الحاصلة في مناطق أخرى وبالتالي التخلف عن الآخرين. لذلك نرى ان القرآن الكريم يحث على الحركة الجغرافية ويؤكد على التنقل عبر الهجرة التي تعتبر من آليات نشر الرسالة الإسلامية الفعالة في العالم. وكان منهاج الأنبياء والرسل هو الحركة الجغرافية الدائبة بين المجتمعات والأمم والانتقال الدائم من بقعة لبقعة، لان الانتقال الجغرافي يوفر التواصل الإيجابي والفهم المتبادل مع كافة البلاد والأمم والطوائف والأديان ويفتح قنوات حوار تساهم في تقريب الناس إلى أهداف الرسالة لتحقيق المجتمع البشري المؤمن. إن أولئك الذين انغلقوا في كانتونات جغرافية وتمسكوا بممتلكاتهم وفرحوا بما يعيشون به في حياة دنيوية لا يستطيعون ان يكونوا مؤثرين في حركة الإصلاح والتغيير، لانهم يحكمون على أنفسهم بالانغلاق الفكري والانعزال النفسي. وقد يعلل بعضهم ذلك بالخوف على دينه أو أسرته أو أطفاله من الضياع وهذا يعبر عن ثقة مهزوزة بالذات وخوف من مواجهة الواقع وهروب من تحمل المسؤولية. إن الإسلام دين عالمي يخاطب الجميع: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وكل مسلم مكلف بتبليغ هذه الرسالة إلى من لم يصلهم التبليغ فكيف يمكننا ان نقوم بالتبليغ وقد أوصدنا ابواب بيوتنا على أنفسنا وعزلنا أنفسنا عن الأثير العالمي..؟ قد يدعي البعض أن قدسية المكان تستوجب التمسك به وملازمته..! ولكن ألم يكن رسول الله (ص) مقيما في مكة المكرمة وهاجر منها خدمة للرسالة. إن العالم اليوم يتداخل بشكل كبير بتوسع دوائر الاتصال والالتقاء وهذا يعني ان الفرد والجماعة لابد أن يعمقوا روح التواصل العالمي مع الآخرين لإيصال الأفكار والرؤى إليهم، فالكثير لا يعرف عن الإسلام شيئا أو ينظر إليه بسوء فهم متراكم نتيجة لعدم وجود التواصل الحي معه. وهناك الكثير من الآيات القرآنية الكريمة والروايات الشريفة التي تؤكد على الاخوة الإنسانية والبشرية مع الاختلاف الحاصل في الاعتقاد الديني والفكري وهي دعوة تشكل نهجا لتقريب الناس فيما بينهم نفسيا وأخلاقيا، يقول تعالى: (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ)، (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً)، (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً ). وقبل أن يكون مشروعنا في الانتقال الجغرافي من بقعة إلى أخرى لابد ان يحقق الفرد في ذاته العالمية أي ان يحرر ذاته من الانغلاق وينفتح على الآخرين ويحاول ان يتفاهم معهم دون تعصب أو تشدد أو موقف مسبق تحدده تراكمات قبلية، لابد ان يتعامل مع الجميع بروح مرنة وقلب كبير يستوعب مختلف الاتجاهات والتوجهات ويحاورهم بصدر رحب بعيدا عن الغلظة والشدة والعنف، وهو بهذا الانفتاح الإيجابي يستطيع ان يملك عقلا راجحا على الغير وحكمة متبصرة تغفر للمسيئين له وفكرا ثاقبا يقرأ فيه آراء الآخرين بفهم وتروي ليستطيع ان يغير قناعاتهم بمعرفة وعلم. إن الإنسان في طاقاته هو اكبر من العالم ولكن نزعات الانغلاق والتعصب والتمحور والتحزب تحجب فكره الواسع وعقله الكبير وتضعه في زنزانة صغيرة اسمها الجهل والتكبر والاستبداد. ولكي يستطيع الفرد ان يحقق تموجه الفكري والإصلاحي لابد ان يحرر عقله ليكون اوسع من العالم ونفسه لتكون اكبر من الأرض وروحه لتكون اعظم من الدنيا، وعبر ذلك فانه يسير في طريق الأنبياء والمصلحين الذين استوعبوا الإنسانية بتاريخها وافكارها وآمالها في قلوبهم الصنوبرية الصغيرة حجما الكبيرة معنويا. . |
|||
الهوامش |
|||
1- الحضارة عالم المعرفة: ص124. |
|||