نعني بالتخطيط الاستراتيجي دراسة الحاضر والواقع وتحديد الأهداف والتخطيط اللازم للوصول للهدف ووضع جدول زمني للوصول واستثمار الموارد بالشكل المناسب.
نعلم جيدا بأن العراق بلد بلا تخطيط ولا خطط ولا تفكير بالمستقبل فمنذ عام 1980، وإلى اليوم لا توجد خطط استراتيجية في جميع المجالات على مستوى إدارة الدولة سواء في مجال الاقتصاد او النفط او التعليم او الصحة او الأمن او العلاقات الدولية او النقل او مكافحة الفساد او المياه او التكنلوجيا او الاستخبارات او الاداء الحكومي وغيرها.
فلم يمتلك العراق اية خطط تنموية واستراتيجية منذ تأسيس الدولة الحديثة سوى خطتين خمسيتين للتنمية الاقتصادية كانتا في 1971 إلى 1980 اللتان أدتا إلى بناء بنى تحتية نعيش بكنفها لحد الان.
وسنتناول في مقالنا هذا احد اهم المهام الاستخبارية، وهي مهمة التخطيط الاستراتيجية بشقيها، حيث يتمثل الاول في بناء استراتيجية للاجهزة الاستخبارية تحدد من خلالها الاهداف الاستخبارية وكيفية الوصول اليها ببرنامج عملي وزمني، والشق الثاني يتمثل بقيام الاجهزة الاستخبارية بدور اساسي في تمكين سلطة القرار السياسي من اتخاذ القرارات الاستراتيجية العامة للبلاد.
الاستراتيجية اصطلاحاً وضرورة
مصطلح الاستراتيجية يعد من المصطلحات القديمة المأخوذ من الكلمة الإغريقية Strato وتعني الجيش أو الحشود العسكرية، ومن تلك الكلمة اشتقت اليونانية القديمة مصطلح Strategos وتعني فن إدارة وقيادة الحروب, ويعود أصل الكلمة إلى التعبير العسكري ولكنها الآن تستخدم بكثرة في سياقات مختلفة مثل استراتيجيات العمل استراتيجيات التسويق وغيرها ( انظر ويكيبيديا).
يتيح لنا التخطيط الاستراتيجي وضوح الرؤية والاهداف والاستخدام الأمثل للموارد والإمكانيات و تحقيق التكامل وتوزيع الادوار و تحديد الاولويات حسب الاحتياجات والسيطرة على مشاكل التنفيذ و حصر المخاطر والإضرار.
ان من مشاكل فقدان التخطيط الاستراتيجي هو عدم تحقيق وحدة الهدف بمنظور شامل وعدم ترتيب الأولويات، فمثلا تركيا تدعم داعش والعراق يعترض سياسيا ولكن لاتوجد إجراءات اقتصادية أو أمنية أو اعلامية، فتذهب كل مؤسسة بالعمل بشكل منفرد دون تنسيق ووحدة هدف, ونلاحظ أن الجهد السياسي مع الجانب التركي مربك ويصل إلى حالات من التشنج، لكن الجهد الاقتصادي يتزايد دون انخفاض وهذا أمر لايحدث في الدول وغريب جدا فعندما تدخل الدولة في خصومة سياسية ينعكس ذلك على كل الاصعدة إلا في العراق.
تبنى الاستراتيجية على مفهوم بسيط من ثلاث خطوات تحدد ( أين نحن وأين نريد أن نكون وماذا ينبغي أن نعمل للوصول).
وتتطلب مراحل التخطيط الاستراتيجي تحديد الجهات المعنية والاستعانة بالخبراء وجمع المعلومات المطلوبة و بحث الواقع والرؤية والاهداف وعوامل النجاح والفشل وتحليل البيانات و تصميم الخطة الأولية وتتفيذها ومراجعتها وتوزيع الادوار و المراجعات والتشريعات والتوقيتات والتقييمات أثناء التنفيذ.
ان كل الخطط الاستراتيجية تتأثر بالنظرية الامنية الاستخبارية، فحين تم تأسيس الأنبوب الاستراتيجي الناقل للنفط عام 1974 تم مده غرب العراق رغم أن كل نفط العراق في شرقه (في كركوك و مجنون و الرميلة وغيرها ).
هنا خضع التخطيط الاستراتيجي العراقي آنذاك لنظرية الأمن وفضل الأمن على الجدوى الاقتصادية فلو كان الأنبوب يمتد شرقاً لكان أقصر بحوالي 200 كم، ولكنه سيكون على مقربة من أرض محافظات ذات عداء للنظام( ضمن استراتيجية الأمن آنذاك) ولقرب الجهة الشرقية من البلاد من ايرا ن حيث كان شاه إيران هو التهديد والخطر.
وفي مجال مخازن السلاح، كان من الطبيعي أن تكون لوجستيات ومخازن سلاح الجيش في محافظة النجف الاشرف كونها منطقة تتورع إيران من قصفها جوا بحكم العامل العقائدي، ولكن نظام صدام أسس أكبر مخازن الجيش في منطقة بيجي متأثراً بوجهة النظر الامنية التي تعتبر أن سكان الفرات الأوسط والجنوب يشكلون خطراً امنياً، فدفع مخازنه المركزية إلى بيجي بدل النجف، ففي المثالين السابقين، كان التخطيط الامني صحيحاً وفق حسابات النظام، وهكذا تكون اولويات الامن هي التي تحدد التخطيط ويكون الأمن اولاً.
الاستخبارات والاستراتيجية
كما نوهنا، فإن الاستراتيجية في العمل الاستخباري تكون على مسارين، اولهما ان يكون هنالك تخطيط استراتيجي لعمل الاجهزة الاستخبارية، والثاني ان تتمكن تلك الاجهزة من توضيح الصورة بكل ابعادها لسلطة القرار السياسي كي تمكنها من بناء استراتيجية الدولة العامة.
فلا يمكن أن نتصور أن تقوم الاستخبارات بدور علمي حقيقي وتؤدي ما عليها بلا خطة استراتيجية مرسومة وواضحة للعمل الاستخباري ذاته.
وفي مجال الشق الاول، فلابد من ان يكون مركز التخطيط الاستراتيجي في مقر إدارة المجتمع الاستخباري او الهيئة الوطنية للاستخبارات لتكون جامعة لكل تصورات ومهام الاجهزة الاستخبارية وتحدد الأهداف والمسارات ضمن خطة زمنية تتضمن جميع مجالات تطوير الجهد الاستخباري حسب الإمكانيات والأولويات الامنية والمجتمعية والسياسية والتهديدات والمخاطر.
ويجب أن تضع هيئة الاستخبارات الوطنية برنامج ضمن خطة خمسيه تتوزع على مراحل، لكل مرحلة عام واحد, لتطوير أداء الاستخبارات وتلبية احتياجاتها وتراكم خبرتها وتطويرها لتكون استخبارات محترفة.و تحدد الاستخبارات الرؤية العامة لنظرية الأمن الوطني من خلال معطيات الجهد الاستخباري حيث تنظم استراتيجية الأمن الوطني وبناء المنظومة الأمنية والعسكرية.
اي ان الاستخبارات تعطي الاولويات والتهديدات والمخاطر لتتمكن منظومة الأمن في البلد من وضع استراتيجية امنية شاملة ضمن مراحل زمنية وتعود أيضا لتجعل الاستخبارات أحد المؤسسات الفاعلة ضمن المنظومة لتنفيذ استراتيجية الأمن الوطني.
ويجب أن تعي الاستخبارات أين تقف؟ وأين تريد أن تذهب؟ وكيف تضع برنامجا للجهد الاستخباري؟ وماهو مطلوب منها ؟وكيف تنجز ما عليها في خطة واستراتيجية البلد الامنية؟.
وفي المسار الثاني يجب ان تعى الاجهزة الاستخبارية حقيقة دورها في التخطيط الاستراتيجي للبلاد لتمكين الحكومة في اعداد خططها الاستراتيجية العامة.
فاستراتيجية البلاد العامة والخطط التنموية ( المفقودة في العراق ) تتمثل في التخطيط بمجالات تحقيق الأمن السياسي وإرساء قواعد الحكم وخطة تحقيق الأمن الاقتصادي بكل مفاصلها وخطة التنمية العامة والخطط التربوية، وكلها ترسم من خلال فهم عميق للواقع والفرص والمخاطر والإمكانيات.
فلابد للدولة من تحديد البوصلة والاهداف في جميع المستويات والاجابة على الاسئلة المفصلية من قبيل :هل نحن بلد محايد أو متحالف أو مستقل أو تابع و ماهي أهدافنا الاقتصادية وهل نحن بلد زراعي أو صناعي أو مختلط و هل نذهب في مجال الخصخصة أو الاشتراكية.
وهنا يأتي دور الاستخبارات (بعد ان تكون لديها توجيهات عامة عن توجهات الدولة ) في تحسس المخاطر وبناء تصور كامل لدى الدولة عن ماهية التهديدات وأين نبني وأين نعمل وماهي التهديدات الصلبة والتهديدات الناعمة، لتكون عين الدولة في مواقع الخطر.
وحتى في مفهوم التعايش السلمي والمصالحة و إرساء قواعد المواطنة، تكون الاستخبارات بمثابة جهاز الاستشعار لإصلاح الخراب وتشخيص المؤثرات الداخلية والخارجية لذلك.
ان دور الاستخبارات في جميع أنواع التخطيط الاستراتيجي هي بمثابة العين من الجسد فإذا كانت فاعلة أصبح التخطيط ناجحاً على المبدأ المهم "انظر صح. لتفكر صح. لتقرر صح. لتنفذ صح"
ان أغلب واجبات المجتمع الاستخباري ( ادارة المجتمع الاستخباري او الهيئة الوطنية للاستخبارات ) تدخل في إطار التخطيط الاستراتيجي، كالتحذير من الحرب والاعمال العدائية و تقييم المعلومات لإنتاج وصياغة إطار السياسات الامنية و تشخيص الاضرار الاجتماعية و تحديد مواطن الخلل الامني و التحضير للحرب ورسم الإطار العام واعداد الخطط والبرامج اللازمة لمواجهة التهديدات والمخاطر الداخلية والخارجية وانتاج الحرب النفسية ومواجهة الحرب النفسية المضادة و تطوير قواعد البيانات وحمايتها وتقييم مؤثرات الدول ودول الجوار على الوضع الداخلي، فكل هذه السياسات تحتاج إلى تخطيط استراتيجي علمي يكون محدد وواضح ويوزع لكل جهاز دوره كي تتمكن الدولة من خلال المعطيات الاستخبارية من اتخاذ قراراتها المصيرية عن دراية.
الابعاد الاربع لاستراتيجية الدولة
ان الاستراتيجيات في البلاد على اربعة ابواب هي:
1- الاستراتيجية الاستخبارية
2- الاستراتيجية الامنية
3- الاستراتيجية العسكرية
4- الاستراتيجيات العامة
وتكاد تكون الاستراتيجية الاستخبارية هي الاساس المعلوماتي الذي تبنى عليه الاستراتيجيات الثلاث الاخرى.
فالامن الداخلي لايمكن بناء قدراته وتحديد اهدافه الا من خلال المعطيات الاستخبارية، وكذا الامر في مجال التخطيط الاستراتيجي العسكري الذي تعد فيه الاستخبارات بمثابة العين من الجسد.
وقد اوضحنا مكانة الاستراتيجية الاستخبارية في الاستراتيجيات العامة للدولة وهو امر يشمل كافة الجوانب العامة، فبالتالي لايمكن التخطيط بلا تصورات، ولاتصورات بلا معطيات، ولامعطيات بلا حقائق ومعلومات وهنا يبرز الدور المحوري للاستخبارات، مما يؤكد اهمية الاستخبارات في كافة مفاصل القرارات والخطط الاستراتيجية للدولة.
ان العمل ضمن برنامج واضح في مفاصل الدولة وبضمنها المؤسسات الاستخبارية يجعل الجميع تحت المجهر ويُعرِّف الجميع باعمالهم واهدافهم وخططهم.
خلاصة
بشكل عام اما تخطيط استراتيجي وبرامج حقيقيه للقوات المسلحة وكافة قطاعات الدولة او الاستمرار في منزلقات الضياع المستمر منذ ثلاثة عشر عاماً.
فليس المهم أن تكون لدينا وزارة أو وكالة او مديرية عامة للتخطيط بل المهم أن تكون لدينا وطنية وإرادة و حكم رشيد.
للأسف في العراق لدينا وزارة تخطيط غير قادرة على التخطيط بل غير قادرة على القيام بأي دور تنموي أو وضع برامج وآليات للتخطيط الحكومي.
نتمنى ان تذهب الحكومة إلى التخطيط الاستراتيجي في الاصعدة الاقتصادية والامنية والسياسية والتربوية والعلمية والاجتماعية والاعلامية لنحقق الغاية في الوصول إلى القوة الاقتصادية و الاستقرار الأمني والقوة الامنية و الثبات السياسي وبناء الإنسان والثورة العلمية و ترميم التفكك الاجتماعي بالمواطنة والتماسك والقوة الاعلامية.
ان كل ماسبق يحتاج الى اعادة بناء الاجهزة الاستخبارية لتكون هي نواة التخطيط الاستراتيجي الحكومي.
فنحن بحاجة الى مراجعة شاملة وعامة تشمل جميع قطاعات المؤسسة الامنية وبناء نظرية امنية متكاملة وعلمية على ايدي الخبراء والمفكرين في المجال الامني، وتشريع مانحتاج من ضوابط داعمة وتنفيذ مانحتاج من بنى تحتية لتحقيق امن عام وشامل وهذا غير ممكن حاليا ويحتاج الى قرارات شجاعة وابعاد هذا الملف عن النظرة الحزبية والطائفية واعتماد الكفاءات على المستوى الوطني والافاده من عقولهم.
اضف تعليق