الجنوح غير المبرهن الى اعتقاد ما بأفكار يعدها النهايات الأخيرة للحقيقة، وبناء على ذلك فهو يرى انه يمتلك الحق والحقيقة والحقانية وان الاخرين ينطوون على الباطل والوهم. ولا يرتبط التطرف بفكرة محددة، فليس من الصحيح ربط التطرف بالفكر الديني فقط، انما كل الأفكار قابلة...
الاستاذ الدكتور عبد الامير كاظم زاهد/مركز دراسات الكوفة-جامعة الكوفة.

بحث مقدم الى (المؤتمر الوطني حول الاعتدال في الدين والسياسة) يومي 22 و23 اذار 2017، الذي عقد من قبل مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام ومركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة كربلاء ومركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

المقدمة:

اخترت في البداية الوقوف على المراد مجموعة المفاهيم المطروحة ومنها الظاهرة وهي عدد من الحالات السلوكية المتكررة والمتزايدة في مجتمع ما على نسق النشأة والآثار المترتبة عليها في المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فاذا وجدت (حالة جزئية من التطرف الفكري او السياسي أو الديني... الخ فهي نقطة توتر اجتماعي تتقد في مكان ضيق لكنها حينما تتكرر وتتزايد نوعاً اي (إضطراد التطرف) وكما، اي (زيادة المتطرفين) فان الأمر ينتقل الى (الظاهرة) وهي الفعل المتكرر الحاصل كسلوك فردي وجمعي بحيث يتبادلان بينهما التأثير والتأثر لتعظيم الظاهرة، وتكون احيانا معطياتها ايجابية ((مثل تحويل مفهوم الجهاد من معنى الحرب والقتال والغزو الى تعظيم الجهود للبناء والتقدم والتضحية للبلد والأمة وبذل المزيد لأجل اسعاد الناس، وتعظيم ظاهرة الوقف وتطوير اشكاله وانواعه ومشروعاته، فالوقف وان كان حكماً شرعياً الا انه في نطاق الاستحباب فان تحول هذا الاستحباب الى رغبة عامة ومعياراً للتفاضل الاجتماعي فتنتج عنه آثار إيجابية على مستوى الكم والنوع وذلك بتأثير الافراد ببعضهم أو على مستوى النوع بابتكار مشروعات جديدة في الوقف مثل بيوت نقل الخبرة، في مثل اوضاع بلداننا.

واحيانا اخرى تكون الظاهرة عدمية سلبية فانها تجلب لها عدداً أكبر من (متدني الوعي) وتؤثر على المستوى المدني الحضاري للأمة وغالبا ما تفتقد الظاهرة السلبية الى مشروع حضاري فالأصل والنشأة هما اللذان يحددان طبيعة الظاهرة ومعطياتها وآثارها على مستوى راهن المجتمع ومستقبله.

ويراد بالتطرف: الجنوح غير المبرهن الى اعتقاد ما بأفكار يعدها النهايات الأخيرة للحقيقة، وبناء على ذلك فهو يرى انه يمتلك الحق والحقيقة والحقانية وان الاخرين ينطوون على الباطل والوهم. ولا يرتبط التطرف بفكرة محددة، فليس من الصحيح ربط التطرف بالفكر الديني فقط، انما كل الأفكار قابلة لكي تكون مادة للمتطرفين حينما يغادر اصحابها مبدئي نسبية المعرفة والبرهانية.

فلقد عرف تاريخ الفكر البشري موجات من التطرف عند الماركسيين واليهود في اسرائيل (1) والتيار الانجيلي البروتستانتي، الذي صدرت عنهم عشرا من المدونات التي تزعم انها وصلت الى نهاية التاريخ (2)، بيد أن التطرف يظهر تارة وكأنه حالات فردية ثم يتحول الى ظاهرة اجتماعية، وقد يطول زمن استحكام الظاهرة وقد يقصر بحسب نوع الوعي الذي يواجه الظاهرة، والبيئة الحاضنة، ووجود أسباب موضوعية تديم الظاهرة.

ولابد من أن نسجل أن ليس كل تطرف يلزم أن يقترن بالعنف فهناك متطرفون لا يستخدمون العنف لغرض افكارهم، وقد تجبر الحركات المتطرفة على عدم استخدام العنف مع رغبتها فيه، لظروف قاهرة لها تمنعها.

وتجربتنا في بلدان العالم الاسلامي تكشف أن ممارسة العنف الديني الناشئة عن التطرف هي من خلايا نائمة لا تظهر الا في حالة ضعف اجهزة الدولة أما لعدم وجود الكفاءات التي تدير مؤسساتها أو لعوامل اخرى. ويكاد يكون موضوعياً أن التطرف رؤية فكرية لممارسة العنف.

ويقابل مناخ التطرف الوسطية وهي القدر من التوازن بين المتبنيات الفكرية وبين ما يختلف معها من أفكار، بحيث يبدأ الاعتدال من ذلك القدر من المقبولية للآخر، على أنه ليس بالضرورة أن ينتج عن المقبولية مشروعية تلك الأفكار ولعل ذلك هو مفهوم التعارف الوارد في القرآن الكريم (أنا خلقناكم شعوباً...... الآية)، ولعل الوسطية التي يراد منها ان تكون المناخ الذي يغلق الطريق على تدني الوعي المنتج للتطرف، هو الاعتبار الممنوح لكل صاحب رأي، والسماح للاستماع له، ثم مطالبته بالبرهنة على ما يرى، فهو أذن في البداية منهج معرفي ينطوي على قدر من الشمولية في الرؤية متعددة الأبعاد.

ان الازمة: في غياب الوسطية في إشكالنا الراهن (التطرف والعنف) مردها ان الانسان الفطري يرتبط بالفكر الديني بسرعة، وبانجذاب قوي ثم يقدّس فهم الناس للتعاليم الدينية صعوداً الى كل ما يرتبط أو يعبّر عن فكر ديني، ويتماهى مع القراءات البشرية للدين، حتى يصبح السؤال عن محتوى ديني أو التساؤل عنه (مروقاً) عن الدين

لذلك ويؤكد جان بول ويليم ((أن الدين عبارة عن نظام رموز يعمل ويثير لدى البشر حوافز قوية وعميقة ومستديمة ومقدسة لا يجوز السؤال عن حقائقها عبر صياغة مفاهيم عن الوجود والحياة والانسان ودوره الوظيفي واعطاء هذه المفاهيم تجسيدات سلوكية يتحدد نوعها بمقدار الوعي الحقيقي والبرهاني)).

ويرى: أن الدين يوحد طريقة تصرف الجماعة عبر الطقوس الدينية ويمارس بها جاذبية شديدة ويسوق مفاهيم تفوق ما تطرحه التجربة أو الحقيقة الارتقائية (3)، وعندئذ تكون فرصة الحوار والمراجعة والتأمل غير كافية.

لهذا: يكون الجهل، وعدم إخضاع الفكر الديني للمنهج العلمي سبباً مهماً في غياب التوازن والبرهانية وشمولية الرؤية الفكرية هي عوامل مهمة للتطرف وغياب الممارسة النقدية، وكذلك غياب الاستعداد للتكيف الايجابي مع المتغيرات.

وفي ظني: أن الوسطية حاضنة للاعتدال وليس رديفة له، ذلك ان صفة الاعتدال بمعنى وضع الأمور في مواضعها لا تتكون الا بعد أن يتوسط العقل بين التجاهل التام لحقائق الدين وبين الغلو في اعتبار كل ما جاء عن طريق القراءات البشرية سواء من المنتفعين من الدين أو المتصدين للفكر الديني هو قول الله تعالى: المعبّر عن الحقيقة الدينية النهائية.

فالاعتدال ناتج عن وسطية تنظر باعتبار فكري لمتبنيات الآخر بحيث لا يبقى للتشدد داعٍ، وبذلك تكون نفس المتدين تحترم ذاتها الفكرية.

إن إدراك مناشئ التطرف وتداعياته التي تسبب ازمات فكرية ومجتمعية يعد مقدمة ضرورية لاكتشاف السياسات المجتمعية للمواجهة ويعتقد كثير أن مواجهة الظاهرة العنفية ذات الغطاء الديني يلزم أن تنطلق من النطاق ذاته أو من جنس الظاهرة ذاتها بحيث تكون مواجهة ((الظاهرة العقائدية)) بالعقائد، والثقافية بالثقافة، والاقتصادية بالوسائل الاقتصادية، فهذا هو الأصل ولا يمنع من أن تعضّد المواجهة الاصلية بمعززات أخرى بحيث ترسم سياسة المواجهة رسماً استراتيجياً، شمولياً يبدأ من الفكر الى إعادة بناء المجتمع الى اقتصاديات ماحقة للتفاوت الى تطلع مدني للحاضر والمستقبل لا يقف من الدين موقفاً سلبياً.

أما الارهاب فلا يرادف العنف، لان الارهاب تحول من استخدام القوة لأجل نشر (فكر متطرف) الى سياسة مرسومة وقصدية تستهدف إشاعة أجواء الرعب والإفادة من سيكولوجية الخوف لأهداف سياسية، فالإرهاب استخدام مرسوم وقصدي للعنف وتبني نماذج من القوة لترسيخ قناعات ((غير برهانية)) عند الاخر ولتعظيم الشعور بالهزيمة والوهن وعدم القدرة على الصمود أو المواجهة عنده.(4) فيما يطلق عليه بالتوحش بالمراحل الثلاث: استخدام العنف الديني، تحويله الى الارهاب ثم تحويله الى التوحش

ومما تقدم من تحديد للمصطلحات: فإن التطرف: سلوك ناشيء عن اسباب ذاتية وموضوعية ونفسية وان الوسطية والاعتدال هما البديلان اللذان يواجهان موجة التطرف وأن الأزمة: عبارة عن اشكالية مركبة لها أثار سلبية على الوضع العام وأن السياسات المجتمعية عبارة عن لائحة عمل استراتيجية تشتغل عليها أجهزة الدولة ومؤسسات المجتمع المدني والأفراد وأن الارهاب وسيله بدائية لفرض القناعات من خلال الخوف

وعلى تحديد مصطلحات البحث سنعرض اسباب شيوع ظاهرة التطرف واسباب انتشاره ودواعي واهداف استخدام الارهاب ومحاولة رسم استراتيجيات المواجهة ومكملاتها.

مناشيء التطرف:

نظراً لأننا معنيون بظاهرة التطرف ونشوء الجماعات التكفيرية التي تزعم انها حركات إسلامية فإننا ملزمون بتتبع أسباب النشوء ويظهر من التتبع أن مناشيء ذلك النمط من التطرف أربعة: -

أ‌- المناشيء الذاتية ((الأصول النظرية للدين)).

ب‌- المناشيء الموضوعية أزمات الواقع والحدث.

ت‌- المناشيء النفسية ((أزمات الوضع النفسي المتوتر)).

ث‌- المناشيء المنهجية في تلقي المعرفة الدينية.

أ- المناشيء الذاتية ((الأصول النظرية للدين)).

اذا أجرينا مقارنة مضمونية بين القرآن الكريم ومحتوى التوراة والإنجيل فإننا نرى أن التوراة نص تاريخي يحكي سيرة (بين إسرائيل) كاملة، بينما يحكي الإنجيل سيرة النبي (عيسى) والرسل الذين بشروا بالمسيحية بعده، امل الخلاف الذي يقع فيما بين الاحبار والرهان أو بين بعضهم فهو خلاف في فهم حقائق التاريخ الديني (5) المعبّر عنه في العهدين ونجد في القرآن الكريم ثلاثة محاور أساسية للدين هي محور آيات العقيدة، وآيات التشريع، وآيات القيم الأخلاقية وهذه الآيات فيها ما هو محكم وفيها ما هو متشابه والفارق بينهما أن المتشابه له أكثر من معنى وأكثر من دلالة بينما المحكم نص في معنى واحد محدد (6) وهو نص حاكم ومعياري للمتشابه.

ولكثرة المتشابه في القرآن الكريم، فقد تعددت دلالات النص المؤسس وزاد في سعة تداعيات النص تنوع مسالك التأويل التي كثرت بازدياد طرق تحصيل المعرفة بحيث صار بإمكان اي اتجاه أن يلتمس لنفسه مستنداً من القرآن الكريم.

وهذا الحال: يفسح المجال لتفسيرات متطرفة وراديكالية لا سيما مع غياب ضوابط التأويل المتفق عليها لذلك لابد للمؤسسات الدينية المعترف بها والتي تعد مرجعيات للمسلمين أن تعمل على نشر منهجية علمية للتغيير ومع تعدد اتجاهات التفسير ومدارسه، والتعامل مع أراء المفسرين بانها بمنزلة النص المؤسس من جهة احتوائه على الحقيقة النهائية فان يزداد عدم الوصول الى المراد وفي ظني أن هذا العامل يعد من أبرز مناشيء التطرف ويذكر القرآن ذلك يقول: ((فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)). (7)

والذي يفهم من الآية: أن جماعات قاصرة تنطلق من مقولاتها الفكرية ثم تتبع المتشابه لإسناد وجهة نظرها، والهدف تحقيق الفتنة، وتأويل النص على وفق مرادها الايديولوجي.*

ثم يعقب القرآن بأسلوب الدعاء قوله ((رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا))(8) أي أن غياب ((الأصول العلمية والبرهانية المقارنة)) في صناعة تفسير النص القرآني، والتعامل مع فكر المفسر بوصفه (حقائق نهائية) دون اجراء مقارنة مع من سبقه او الحق به بما يشكل واحدة من المشكلات المعرفية التي ينمو فيها التطرف لفقدان الرادع الفكري أو الضد النوعي له.

وقد اتفق أهل العلم على أن سيرة الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) قولاً وفعلاً وإقراراً هي المصدر الثاني للفكر الديني لكن هذا المصدر قد عانى من مجموعة من المشكلات من أبرزها إيقاف تدوين الحديث لقرن من الزمان، وتناول مضامينه ومعانيه تناقل ذاكره في وسط ظهرت فيه جماعات مختلفة الدوافع والأهداف عقائدياً وسياسياً بحيث تسلل الى مضامين الحديث ((ما هو منكر وغريب وضعيف ومرسل وموضوع))، وحينما نلحظ موازين التعرف على صحة حديث ما نصطدم باختلاف المحدثين في الموازين بحيث اضحت كل مشكلة تؤدي الى متاهة فكرية أكبر ومثلما يتشبث المتطرفون بآراء شاذة للمفسرين ويستندون الى أحاديث ضعيفة ومن أبرز مشاكل هذا المصدر، أن اهل العلم بهذا التخصص لم يستكملوا صياغة المعيار الذي يفرق في الحديث النبوي بين ما هو (زمني) أي في حدود زمن النبوة أو ما يقترب منه، وبين ما إطلاقي يعمل به في كل العصور والبيئات بمختلف المجتمعات حتى بات لباس أهل ذلك الزمن وطريقهم تعاملاً مقدساً لما يجب أن يعمل به أهل الأزمان اللاحقة وعقائدياً انقسمت (أمة المسلمين) الى مدارس لها مصنفات يعتمده بعضهم وغير معتمدة عند آخرين بحيث تهاوت وحدة الاصول النظرية الحاكمة والمعيارية التي نتحاكم اليها سواء من جهة القرآن، أو من جهة السيرة النبوية، أو من حيث نصوص العقائد أو من جهة النص الفقهي، فهناك اتساع وتباين وأراء لكل الموضوعات المستجدة، من دون أن يكون في هذا الشأن معيار ترجيحي أو ميزان تفضيلي، مع اهمال كامل لمتطلبات الحاضر باعتماد طريقة العيش في الأزمنة التاريخية الأولى.

لقد ظهرت في العصر الأول مدرستان تفسيريتان إحداهما تتوسع في تفسير النص مستعينةً بالعقل معتقدة أن الحقائق النهائية موجودة في النص ذاته فقط (9) ولم نلحظ قدراً من التقارب بين المدرسين ولأن النص القرآني نص معجز بلاغة وصياغة نص اطلاقي يتخطى الأزمنة والمدنيات وعندما نعتمد فان القراءة الحرفية نكون قد وقعنا في اتجاه يحول الرأي البشري الى نص مقدس ويعجز عن التكيف مع العصور اللاحقة ومقتضياتها، ونتيجة لاصدام الفهم المتقدم للنص مع واقع متغير فقد وضع أصحاب الاتجاه أنفسهم أمام أمرين أما التحول نحو القراءة العقلانية الواقعية وبذلك يتخلون عن اتجاه آمن بأنه مقدس ونهائي، أو التشدد على تلك القراءة فيقع في التطرف الذي يدّعوه حتى جرهم ذلك الى أن يرووا عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال ((من قال بالقرآن برأيه وأصاب فقد أخطأ)) (10) وهذا الحديث على الرغم من مخالفة (متنه) للاعتياد اذ الوصول للحقيقة أو أصابه الحق غرض شرعي لا ينسجم مع وصفه بأنه (أخطأ) لأن ذلك إقرار بالإصابة وتوصيف بالخطأ وهذا لا يتصور صدوره عن النبي (صلى الله عليه وآله) (11)

ولقد ترتب على الاعتماد على فهم الزمن الأول لمتلقي النص ان آراء الصحابة وفهمهم صارت آثاراً ملزمة لأهل الأزمنة اللاحقة فصار الفهم الصحابي وضع مرجعي حتى لو وقف الحديث عليه فقد اعتبروه مرفوعاً وقد وضعوا لذلك قاعدة ان موقوف الصحابي كمرفوعه (12) وبرروا ذلك أن الصحابي ربما قد سمع ذاك من النبي (صلى الله عليه وآله) فصار بحكم المرفوع.

مما تقدم يتبين أن الجذر الأول الذي شكل أساساً تاريخياً ودينياً للتطرف القراءة الحرفية والأحادية الرؤية وكان مد تأسس في عصر الصحابة وقد أطلق عليه بعد قرنين من الزمان مرجعية (فهم السلف) أو عقيدة السلف وارتبط هذا المفهوم بمبدأ عدالة الصحابي مطلقاً حتى لو ثبت عليه ما هو خلاف العدالة، او حتى لو لم يكن الصحابي فقيهاً او عنده شيء من العلم.

لقد ظهرت مرجعية السلف في فكر الامام أحمد بن حنبل وفي أراء تابعيه الذين زادوا على ارائه وسميّ ذاك بتيار الحنابلة الذي طور لمفهوم البدعة حتى شمل كل الاجتهادات العقلانية وعلى رأسهم المعتزلة (13)، وأسس لمبدأ رفض تأويل النص، والعمل بالظاهر ((الحرفي))، مما أوقعهم بالتجسيم، لأن التأويل عندهم حمل الظاهر على محتمل مرجوح يراد جعله راجحاً (14) وتأسيساً عليه وصل الأمر الى تكفير المتأولين في القرن الرابع فشمل المرجئة والمعتزلة والصفوية والشيعة والاشاعرة والاسماعيلية والمتكلمين... الخ

وكانت نظرية الفرقة الناجحة واطروحة الطائفة المنصورة التي صرفت حصراً الى أهل الحديث من دون الناس مستنداً على ضلال بقية الفرق والاتجاهات ما عدا اهل الحديث الذين هم احق من يتكلم بالمعرفة الدينية واذا كان الامام احمد يرى ان من خالف (المتواتر) فهو ضال فان تيار الحنابلة اعتبره كافراً وكان أحمد يرى ان البلاد التي تظهر بها البدعة هي دار الكفر تجب الهجرة عنها ويجوز غزوها وتقتيل أهلها وقد حصل هذا في (ماردين).

وبذلك: تأسست المبادئ الأولى لخطاب العنف:

أ‌- اعتماد منهج القراءة الحرفية للنص الديني والتشديد على الاجتهاد واسقاط البرهنة والحوار.

ب‌- الالتزام بمعيارية فهم أهل الزمن الأول بحيث يتحول الدين من حقيقة كونية تستوعب الانجاز الانساني الى انموذج تاريخي سكوني.

ت‌- استخدام مفهوم البدعة ومفهوم الفرقة الناجية ضد جميع فرق المسلمين، ليتحول الأمر بعد ذلك الى التكفير.

ان أراد أحمد وما زاده الحنابلة عليها أسست لنظرية الخطاب الديني المتشدد كمقدمة لفكر التطرف الذي سيصبح نظرية عند أبن تيمية الذي وسع البدعة الى التكفير، ورسم بعض تفاسير القرآن بانها مروجة للبدعة وتنقل عن (المتهمين) وصنف في نقض المنطق، والرد على الفلاسفة، وطالب بإقامة الدولة على غرار (الخلافة) وانموذج السلف ثم كفّر الاشاعرة والصفوية والمعتزلة والمارتدية والمرجئة والشيعة والاسماعيلية والدروز وهاجم مذاهب الفقهاء ولا سيما مذهب أبي حنيفة (15) الذي اتهموه بالأرجاء ومن جراء تناسل فكر التطرف دخل العالم الاسلامي بعد القرن الثامن الهجري في غيبوبة كاملة وكان قد أغلقت عليه السلطات سبل التطوير والتنوير، وقد استمرت الفترة المظلمة حتى القرن الثاني عشر فكانت الحلقة التالية لهذا التناسل ظهور (اتجاه متطرف جديد يتبناه الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي صاحب النظرية الوهابية المعاصرة).

لقد قدمت الوهابية نفسها كحركة تصحيحية للعقائد، معتمدة الوسائل العنيفة والغزو، وقد اعتنقت اراء تيار الحنابلة لاسيما ابن تيمية حتى عاد مرجعيتها فكرية وحيدة للوهابية وبناء على رأيه في تحريم ابناء على القبور فقد سوغوا هدم الاضرحة والمساجد التي فيها مقابر الصالحين، وأفتوا بقتل من يتوسل الاولياء وصرحوا بان اسموهم اهل البدع والضلالات أغلظ شركا من المشركين الاوائل (16) بوسيلة الاكراه والعنف والغزو ثم التسلط على المدن الحجازية واستتب الأمر لتجربة (دينية – قبلية) وأعلنت الجزيرة إقليماً حصرياً لمذهب واحد بل لرؤية داخل المذهب الواحد، واعتمدت طرقاً تلقينية للتعليم الديني صنعت به عقلاً متشدداً آحادي التوجه، صار بعد ذلك بيئة فكرية للتطرف والعنف.. ثم انتشر هذا الوباء في عموم العالم الاسلامي محدثاً فيه البلاء الاعظم.

هذا هو التسلسل التاريخي والفكري لظاهرة دينية - تاريخية - تأسست من مناشيء عدة وساعدت عليها حالات التردي المعرفي والانحراف السياسي لدولة المسلمين بمقابل الموقف القرآني من المشروع التكفيري.

فاذا عرفنا المناشيء الذاتية، فكيف ترسم المواجهة عقائدياً وفكرياً ؟..

الموقف القرآني من المشروع التكفيري إشكالية الدين والتديّن:

لا يختلف اثنان على أن أصل مشروعية الافكار والمفاهيم والاجتهادات المستند القرآني له من حيث الصدور قد جعله بالإعجاز قطعي الصدور، وقد توالت على تفسيره عشرات الأجيال من المفسرين فكل أمر ينتسب الى الإسلام لابد أن يسوغه كتاب الله المجيد..ولو وقفنا على كتاب الله فإننا نرى:

1- انه يدعو الى السلام فيقول ((ادخلوا في السلم كافة)).

2- ويمنع ويحرّم أية ممارسة عدوانية ((لا تعتدوا أن الله لا يحب المعتدين)).

3- ويتحقق الايمان والأمان بمعرفة الله ايمانية.

4- ويحرّم قتل النفس الا بالحق.

5- ويكرّم الأنسان ويستخلفه.

6- ويجعل للعقائد طريق العقل وحرية الاعتقاد.

7- ويمنع الناس من التفتيش عن عقائد الناس ويختص البارئ تعالى بمحاسبة الناس على الايمان،

8- يفتح القرآن باب الإنابة والتوبة لكل من خرج عن الطريق القويم.

9- ويغفر البارئ الذنوب جميعاً الا الشرك بعناد.

10- يأمر بالحكمة والجدال بالتي هي أحسن والموعظة الحسنة في الدعوة اليه.

11- يخلق القرآن في نزوله المكي أنساناً آمن طوعا واستعد عقلاً لتحمل مسؤولياته ثم يشرّع له بعد ذلك في السور المدنية نظاماً اخلاقياً للحياة.

فهل تجربة الفكر التكفيري تجربة منسجمة مع التعاليم القرآنية الوارد ذكر بعضها فيما تقدم؟

12- يتفق الفهم العلمي للقرآن الكريم أن المعتقدات الاساسية هي الايمان بالله واليوم الآخر، ولشرط التوأم للأيمان هو العمل الصالح أي المشروع البنائي الانساني)) فقال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ))(17)

13- يدين القرآن الكريم الغلظة وقساوة القلب (التوحش البربري) فيقول: ((ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً))(18) ومفهوم المخالفة ان المسلم يجب أن يكون رحيماً.

14- ويدين القرآن اتخاذ المتشابه القرآني للفتنة يقول ((فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ))(19)

15- يحرّم القرآن اجبار الناس على الاعتقاد (بأنموذج خاص) فيقول ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ))

16- لا يفوض القرآن البشر حق التفتيش عن عقائد الناس قال: ((فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)))(20)

قال تعالى: ((وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)).(21) وقد وردت لفظة البلاغ (11) مرة في القرآن الكريم تحدد الذي يحاسب على المعتقدات هو الله تعالى وان الله لم يفوض المحاسبة الى البشر، الا انه كلفه بالدعوة والنصح والارشاد وبوسائل الحكمة.

17- أن المشروع الرباني الذي ارسله الله الى البشر بواسطة الانبياء والقادة الربانيين هو مشروع الرحمة بالإنسان مطلقاً فقد قال تعالى ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ))(22).

قال الزمخشري: لأن النبي جاء بما يسعدهم(23) ويرى البيضاوي أن الدين سبب لإسعادهم لصلاح معاشهم ومعادهم، وعند الرازي مباحث كلامية مهمة في المراد من الرحمة للعالمين.

وقد روى أنهم قالوا له ادعُ على المشركين قال (صلى الله عليه وآله) ((انما بعثت رحمة ولم ابعث عذاباً)).

18- يتضح الموقف القرآني في معالجة ظاهرة الكفر من النصوص الآتية: -

1: ((وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ)). (24)

2: في آية الحج: ((وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ)). (25)

3: ((فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)). (26)

4: ((مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ)). (27)

5: ((وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ)). (28)

هذه نماذج قرآنية تؤكد ان خصائص المشروع الرباني انه يحقق مصلحة للإنسان بواسطة (العمل الصالح)، وأن القتل والقسوة والعدمية لا يتفق مع (مشروع العمل الصالح)، وان مسألة الاعتقادات وتغييرها مسألة نظرية معرفية حوارية إقناعيه طريقها العقل والجدال بالتي هي أحسن.

من السنة الشريفة:

1- جاء في مسند احمد قوله (صلى الله عليه وآله): ((لا تنزع الرحمة الا من شقي)). (29)

2- جاء في مسند احمد قوله (صلى الله عليه وآله): ((انا محمد نبي الرحمة)). (30)

3- في دلائل النبوة يقول أبن عباس تفسيراً لقوله تعالى: ((انزل السكينة في قلوب المؤمنين)) قال: السكينة هي الرحمة. (31)

4- وردت مئات الاحاديث عنه (صلى الله عليه وآله) بوجوب نصيحة المسلم لأخيه المسلم بل ورد أنها رأس الدين

5- جاء في مسند احمد قوله (صلى الله عليه وآله): ((لا تقتل نفس ظلماً الا كان على أبن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان اول من سن القتل)). (32)

6- عن أبن عمر أنه (صلى الله عليه وآله) قال: ((المسلم اخ المسلم لا يظلمه ولا يخذله)). (33)

7- ورد عنه (صلى الله عليه وآله): ((أن القتل من كبائر الذنوب وهو قرين الشرك بالله)).

الحروب العقائدية لابن تيمية

صدامات ابن تيمية:

جاء في كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك 1/34 ابن تيمية انكر على فقراء الاحمدية وكادت تكون فتنة وجاء فيه ص 1/354 انه ناجز الصوفية. فقاضوه وقضي عليه بالسفر الى خارج الاقليم ابن تيمية وحارب الاشاعرة والفلسفة وكفر الفلاسفة واجهز على المنطق، اشعل حرباً على الشيعة والمعتزلة والمذاهب الفقهية حارب بنفسه ((النصيريين)) في ماردين.

ومن ارائه:

× لا يرى صحه شفاعة النبي بعد موته.

× اصح التفاسير عنده تفسير ابن جرير لأنه يذكر مقالات السلف ولا ينقل عن المهتمين.

× تلاميذه ابن القيم أبن كثير الذهبي ابن مفلح

لقد كان رجلا يخرج من معركة ليدخل في أخرى.

المشروع التطهيري عند ابن تيمية: بلغت مؤلفاته: (70) مؤلفا وبذلك يشكل (تيار معرفي) يؤسس للعنف ضد الرأي الآخر والصراع المذهبي.

نموذج: الحنابلة في القرن الثالث والرابع والخامس:

1- هاجم الحنابلة ابن جرير الطبري لأنه كتب كتاباً في اختلاف الفقهاء لانه لم يذكر احمد (بوصفه محدثاً) 3/461: وفي هذين القرنين عظم امر الحنابلة وقويت شوكتهم. وذكر صاحب المنتظم 4/408: انه وقعت بين الحنابلة والاشاعرة فتنة عظيمة. وافاض في ذكر (447) ملاحقه الحنابلة لغيرهم. وذكر ابن الجوزي في الجزء الرابع ص475: ان سبب الواقعة أبو نصر القشيري في النظامية عنما أنكر عليهم التجسيم (السلاحقة 1/198) تدخل نظام الملك.

5/109: في حيازة ابن الفاعوس صاح الحنابلة هذا يوم سني حنبلي لا قشيري ولا اشعري.

تاريخ الخلفاء: فتنة أخرى بسبب تفسير (عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) الأسراء /79.

الحنابلة: يقعده الله على عرشه ودام الخصام واقتتلوا فقتل جماعة.

اتجاهات أهل السنة في بداية القرن / 4:

الاشعري والماتريدي. والصوفية وجماعة ظاهر النصوص (أهل الحديث) وهم الحنابلة مقابل جماعة التعامل العقلي ـ الأشاعرة.

464 قام الحنابلة بانكار المنكر ورفضوا ان يدرس القشيري 469 بالنظامية.

قال صاحب كتاب السلاجقة (لقد اعلنوا حرباً غير شريفه على من يخالفهم حتى قال ابن الجوزي رأيت الناس لا يعصمهم من الظلم الا العجز وكان ابن يوسف (حاكماً) والحنابلة في عصره يتسلطون بالبغي على الناس.

ب- المناشيء الموضوعية للتطرف:

يراد بالمناشيء الموضوعية ما مقابل الذاتية مكونات (العقل الديني) اما الموضوعية فهي (الواقع الفعلي) الذي بدأ بتمرد الخوارج الا أن هذا التمرد الذي دام قرناً كاملاً قد انتهى فكرياً وعملياً بعد النصف الثاني من القرن الثاني، حيث حصل الصدام بين السلطة وأبعد النصف الثاني من القرن الثاني، حيث حصل الصدام بين السلطة وأحمد بن حنبل وبهده تكونت جماعات الحنابلة وأحمد بن حنبل وبهده تكونت جماعات الحنابلة في القرن الرابع الهجري وهو القرن الذي اعتبره لة في القرن الرابع الهجري وهو القرن الذي أعتبره آدم متز قرن الذروة الحضارية للمسلمين، بعد ذلك توالت الانتكاسات السياسية سواء في تعدد الدويلات أو ظهور تيارات التشدد، ثم هجوم المغول على العالم الاسلامي وبدل اللجوء الى مشروع عقلاني لمواجهة التدهور الفكري واعادة بناء المجتمع، وقع المسلمون في تداعيات الهزيمة وكان انعكاسها في تيار ابن تيمية (المشروع الاقصائي الذي بينهم فعلياً في الحروب الأهلية والتدمير شامل لكل الانجازات الحضارية والمعرفية للقرون الستة السالفة وهكذا دخل العالم الاسلامي بالغيبوبة الحضارية واوجدت شعوباً ابتلت بالفقر والجهل والخرافة وسيطرة الاساطير، وتدني طرق التعليم والتلقينية، وغاب الاجتهاد والبرهانية غياباً تاماً فلما حل القرن التاسع عشر الميلادي هاجمت اوربا بلدان العالم الاسلامي بدءاً بالهند ثم قامت بعد الحرب الاولى بتفكيك دولة الخلافة العثمانية وشكل لك صدمة حضاري اذهلت المسلمين وشاهدوا الشوط الكبير بين ما حققته الغرب وبين ما هم عليه من أوضاع وأزاء ذلك انقسموا الى ثلاث اختيارات:

الأول: الاستسلام الكامل لحضارة الغرب بوصفها صانعة للتقدم، وهذا يقتضي الإعراض التام عن التراث والدين.

الثاني: التمسك الكامل بالتراث المملوء بالتدني المنهجي والمعرفي ونتاجات عصور التدهور الحضاري وهذا يقتضي قدراً كبيراً من التشدد الديني.

الثالث: الاتجاه المدني العقلاني الذي يحاول مراجعة وإعادة النظر بالتراث وإحياء الافكار الحيوية وإعادة صياغة مشروع النهضة على أساس مبادئ الاسلام العالية المضمون من منهج عقلاني نقدي مفتوح على الإفادة من تجارب الشعوب والأمم الراقية، ولديه القدرة الموائمة والتكييف بين مبادئ التراث المشرقة وإنجازات العقل البشري لكن هذا الاتجاه: تعرض الى هجومات واسعة من تيار الاغتراب المتطرف، وهجمات اقسى وتكفير وتبديع من التيار السلفي فلم تظهر بصماته واستراتيجياته على واقع المسلمين.

لقد انفرد العلمانيون في صنع الحدث واستمر التيار العلماني باضطهاد وقمع السلفي، ومن جراء ذلك عانى المسلمون من مشكلات في فشل مشروعات التنمية المستدامة وشيوع الفقر والمرض وتدني الخدمات والاستبداد وعنف الدولة وارهابها والهزائم العسكرية امام (عدوان إسرائيل) والوقوع في التخادم للإجنبي...الخ.

من مشكلاتنا المعاصرة أن هذا الواقع بما فيه من تدهور في صناعة الاوطان دفع بعض المنتفعين الى تأسيس جماعات دينية متطرفة أسهمت بنشر فكر متطرف لشدها الى طموحاته واهدافه فكانت هذه الجماعات تعتاش على تدهور الوضع الحضاري من ذلك شعار جماعة الاخوان المسلمين ((الاسلام هو الحل)) على الرغم من ان جماعة الخوان كانوا متقدمين خطوة في طرح مشروع للنهضة لصالح الانسان في حين انشغل عموم التيار السلفي بتصحيح العقائد التي حسبها هو (منحرفة) مع اهمال حاجات الإنسان وتطلعاته.

ت- المناشيء النفسية والسياسية للتطرف:

لأزمان الهزيمة تداعيات وهي التي دفعت قادة جماعات التطرف وعناصرها الى تحقيق ((أنا)) مأزومة سحقتها عصور الانحطاط الحضاري بعد القرن الخامس الهجري حتى القرن التاسع عشر صدمة التعامل مع الغرب المحتل لأراضيه، فمن وجهة نفسية فإن التمرد على الدولة والمجتمع، وما استقر عليه العالم المعاصر من أنموذج للتعايش يعكس حالة ذهانية أو عصابية هدفها ارضاء الوضع النفسي المأزوم بين قيم الهزيمة وقيم النهوض..

من الناحية السياسية فان المتتبع لجماعات التطرف وحركتهم من عصور الاسلام الأولى الى اليوم يكشف أنها تنطلق من بواعث سياسية وتتجه الى اهداف سياسية، موظفة الدين كوسيلة تعبوية وأيديولوجية للحصول على مغانم سياسية فالتطرف يتشكل على خلفية سياسية بتنظير عقائدي لذلك ترى فقه السياسة واضح في مدوناتهم أكثر من فقه القيم وبناء الضمير والجانب الروحي والعبادات والمعاملات ومن الوجهة الايديولوجية يقول الباقلاني عن الخوارج: ((أنهم جعلوا آيات العذاب التي نزلت في حق الكافرين في أهل الأيمان والتوحيد)). (34) ونجد ذلك فيما تسمى بمحنة ابن حنبل وصدامات تيار الحنابلة ودعوة محمد بن الوهاب وحركات الاسلام السياسي وصولاً الى كتابات عبد الله عزام الذي بشرّ بأن افغانستان ستكون ميداناً للمهام السياسية، ففكر التطرف يسعى أولاً لأقامة الدولة ومن ثم يقام المجتمع بينما الفكر المعتدل يخلق المجتمع أولاً ثم المجتمع نفسه يخلق الدولة.

القسم الثاني: تصورات لسبل المواجهة:

ان خطورة مواجهة التطرف الذي يعتمد العنف الديني الذي أنتج (الارهاب) بالمصطلح المعاصر تزيد على دخول البلاد في حرب كبرى مع دول أو عدة دول إقليمية من حيث استنزاف الثروة، والارواح وتعطيل الحياة المدنية، بل هناك آثار نفسية كبيرة تقع على الناس بسبب احتمالات الوقوع في واحدة من عمليات الغدر بالمفخخات والاحزمة الناسفة العبوات العشوائية، وكل هذا يتطلب اكتشاف سبل المواجهة وأتصور ان المبادئ العامة لسبل المواجهة:

‌أ. ان الدولة القوية تقلل من فرص الارهاب وقوى التطرف كلما كان النظام السياسي قوياً ومتماسكاً، لذلك لابد أولاً من بناء دولة قوية.

‌ب. تقليل حالات الخصومة الوطنية ((واجراء عملية اندماج وطني)) وهو هدف أعلى من المصالحة وباستراتيجية عالية وحل الإشكال الطائفي.

‌ج. الدعوة والسعي الدؤوب الى سياسات اقليمية تصغر المشكلات الجيوسياسية ((باتفاقيات اقتصادية وأمنية)).

‌د. تحليل مناشيء التطرف ورسم الخطط على أساس فهم أسباب النشأة والتطور على مستوى الفكر والثقافة.

‌ه. تحقيق التوافق بين المراكز الدينية في العالم للتصريح بأن التطرف ظاهرة مدانة شرعاً، وأن العنف والارهاب جريمة وانحطاط اخلاقي بحيث يضع على الارهابيين عاراً دينياً ووطنياً، والإعلان عن عدم استناد التطرف على أسس دينية صحيحة وذلك.

ج/1: بإعادة دراسة السيرة النبوية.

ج/2: بدراسة سيرة الصالحين من أجيال المسلمين.

ج/3: بإبراز القيم السلمية المشتركة.

ج/4: بيان ان العقائد والمعتقدات هي حق خالص لله تعالى، ولم يفوض البارئ احداً يحاسب الناس على عقائدهم وآرائهم، فليس من حق أحد أدانة أحد، إنما حقه الإعلان عما يعتقده صحيحاً والبرهنة عليه وتأشير الزلل كما يراه فيما يعتقده الأخرون.. دون اقصاء أو تكفير.

ج/5: اعادة النظر بوسائل التعليم الديني وطرقه، وإعلاء شأن التفكير والبرهانية وأعمال النقل في مسالك العقل.

الاستنتاجات:

‌أ. يمكن القول أن التطرف الحاضن للعنف الديني نمط من استجابات غير واعية لوقائع الفشل ولأهداف سياسية تختفي وراء فكر ديني المتزمت ماضوي لأثارة الضمير الديني، ونزعة انتقائية للذات، وإقصائية للأخر بواسطة البدعة والتكفير.

‌ب. أن للتطرف جذوراً في التاريخ الاسلامي من القراءة الحرفية حتى ادبيات الحركات (الجهادي) المعاصرة، ومهما تعددت مراحل تطور موجات التطرف الا أنها متناسله مما قبلها وكل مرحلة لاحقة تضيف (فكراً متشدداً) عما في سابقها.

‌ج. يجد الباحث أن هناك علاقة طردية بين التخلف وفشل التنمية ومشروع النهضة وبين الفرص المتاحة للتطرف، ومع تنامي العقلانية والنزعة النقدية للتراث فإن فرص ظهور موجات التطرف، لأن هذه الجماعات تؤجج الانفعال والعقل الجمعي وتستثير التاريخ الصراعي لإثارة الحروب الأهلية على خلفية طائفية.

.................................
(1) جمال الدين البدري: الاحزاب الدينية الاسرائيلية النشأة والتطور ص 177.
(2) روجيه جارودي: الاصوليات المعاصرة ص 15.
(3) جان بول ويليم: الأديان في علم الاجتماع ص 137.
(4) ابو بكر ناجي: ادارة التوحش.
(5) ر.س. زينو: موسوعة الأديان الحيه ص 11.
(6) الذهبي: التفسير والمفسرون 152.
ظ محمد أديب صالح: تفسير النصوص في الفقه الإسلامي 1/144.
(7) سورة آل عمران - الآية 6.
*يمكن التحقق من ذلك باستعراض تفاسير (راديكالية) مثل (في ظلال القرآن) سيد قطب.
(8) سورة آل عمران - الآية 7.
(9) محمد هادي معرفة: التفسير والمفسرون، ص 56.
(10) الملا علي القاري: المشكاة / 235، سنن أبي داود 2/799.
(11) قال عنه اهل العلم أنه حديث ضعيف وغريب.
ظ: سنن الترمذي 1/360.
(12) ابن الصلاح: مصطلح الحديث
(13) البدعة عند أحمد، ما احدث في الدين وليس منه، وما خالف السنه ومالم يؤيده سلوك الصحابة والتابعين واتباعهم، وهي اخطر من الكفر فاحمد لا يرى توبه لمن دعا الى بدعة بينما للكافر الحق في التوبة ويرى ان الرد على اهل البدع اعظم من جهاد الكفار..
(14) ظ السبكي: جمع الجوامع / 117.
(15) أبن تيمية: منهاج السنة 2/241
ظ أبن تيمية: مجموع الفتاوي 7/33.
(16) موسوعة مؤلفات أبن عبد الوهاب 7 /111.
(17) سورة البقرة - الآية 62.
(18) سورة البقرة - الآية 74.
(19) سورة آل عمران - الآية 7.
(20) سورة الغاشية الآية 21-26.
(21) سورة آل عمران الاية 30.
(22) سورة الانبياء الآية 107.
(23) الكشاف
(24) سورة البقرة - الآية 126.
(25) سورة آل عمران - الآية 97.
(26) سورة المائدة - الآية 12.
(27) سورة الروم - الآية 44.
(28) سورة لقمان - الآية 29.
(29)16 / 201.
(30) م. ن: 16 / 202.
(31) البيهقي: دلائل النبوة 4/250.
(32) سند أحمد 7 / 485
(33) م.ن: 11 / 129.
(34) الباقلاني: الانصاف 1/ 67.

اضف تعليق


التعليقات

الكاتب الأديب جمال بركات
مصر
اسلامنا هو دين التآخي والمحبة والتسامح
الله سبحانه وتعالى وضع لنا دستورا مفصلا واضح الملامح
لكن البعض لضيق الأفق أو لأغراض دنيوية يحرفون الكلم من أجل المصالح
ويجمعون الأتباع المضللين ويغسلون أدمغتهم ويسوقونهم لإرتكاب المذابح
أحبائي
دعوة محبة
أدعو سيادتكم الى حسن الحديث وآدابه...واحترام بعضنا البعض
ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الأرض
جمال بركات...مركز ثقافة الألفية الثالثة2018-12-23