سياسة - قضايا استراتيجية

الإتحاد الأوربي: عظمة القدرات ومحدودية التأثير

في تفاعلات النظام العالمي

الاتحاد الأوربي يمتلك العديد من العناصر التي تؤهله لأخذ حجم كبير من مساحة النفوذ والتأثير في تفاعلات النظام العالمي فضلا عن قدرته على خلق التوازن الدولي في مجالات عدة، لكن ما يحول دون ذلك وجود تحديات تواجه الاتحاد الأوربي على صعيد المؤسسات وانعدام الانسجام السياسي...

مثّلت الجمعية الأوربية للفحم الحجري والصلب التي تمّ تأسيسها بموجب معاهدة باريس لعام 1951، البذرة الأولى للإتحاد الأوربي والتي نمت وتطورت لتمرّ في مراحل عدة حتى بلغت ذروتها بإعلان معاهدة (ماسترخت) لعام 1992 التي تشكّل بموجبها ما يعرف الآن بالاتحاد الأوروبي، وقد اُدخلت تعديلات على معاهدة ماسترخت لأكثر من مرة كان آخرها في معاهدة لشبونة عام 2007 التي عززت من صلاحيات البرلمان الأوربي وأعطت المزيد من المسؤوليات للممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، وازداد عدد الدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي لتصل إلى 28 دولة وآخرها كانت كرواتيا التي انضمت في 1 تموز 2013.

من أهم أهداف الاتحاد الأوروبي نقل صلاحيات الدول القومية إلى المؤسسات الدولية الأوروبية، لكن تظل هذه المؤسسات محكومة بمقدار الصلاحيات الممنوحة من كل دولة على حدة لذا لا يمكن اعتبار هذا الاتحاد على أنه اتحاد فيدرالي، فهو نظام سياسي فريد من نوعه.

يمتلك الاتحاد الأوربي من الإمكانيات والقدرات البشرية والاقتصادية والجغرافية ما يؤهله للعب دور فاعل ومؤثر في مجمل تفاعلات النظام العالمي، فعلى صعيد الموارد البشرية تجاوز عدد سكان دول الاتحاد الأوربي 513 مليون نسمة وفق إحصائيات رسمية حديثة مما يجعله قوة بشرية نوعية كبيرة تتميّز بأنها من الشعوب المتعلمة القادرة على الإنجاز ومواكبة التطور في ميادين الحياة كافة.

وعلى مستوى القدرات الاقتصادية يحتل الاقتصاد الأوربي مكانة متقدمة بين اقتصاديات الدول الكبرى إذ بلغ الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوربي في عام 2018 ما يقارب 18,75 تريليون دولار مما يعني أن حجم الاقتصاد الأوربي يأتي بالمرتبة الثانية عالميا بعد الولايات المتحدة، وعلى صعيد الجغرافية تحتل أراضي دول الاتحاد الأوربي موقعا إستراتيجيا إذ تتوسط قارات العالم وتأخذ شكل شبه جزيرة تحيط بها المياه من ثلاث اتجاهات مما يعطيها ميزات إضافية على صعيد النقل والتجارة والأمن.

وبذلك فإن الاتحاد الأوربي يمتلك العديد من العناصر التي تؤهله لأخذ حجم كبير من مساحة النفوذ والتأثير في تفاعلات النظام العالمي فضلا عن قدرته على خلق التوازن الدولي في مجالات عدة، لكن ما يحول دون ذلك وجود تحديات تواجه الاتحاد الأوربي على صعيد المؤسسات وانعدام الانسجام السياسي بين دوله وارتباك الوضع الاقتصادي والسياسي بالإضافة إلى تعقيدات المشهد الدولي.

عدم الانسجام السياسي وغياب وحدة المواقف

رغم استحداث منصب الممثل الأعلى للشؤون الخارجية وسياسة الأمن قبل عشر سنوات ليكون منسقا للسياسات الخارجية الأوربية باتجاه توحيد مواقف دول الاتحاد الأوربي تجاه القضايا والأحداث الدولية، لكن يبدو أن هذه المهمة هي شديدة الحساسية تجاه الدول الأعضاء، وعند الحديث عن المواقف الأوروبية سواء الصادرة عن الاتحاد الأوروبي بشكل موحد أو عن كل دولة من دوله بشكل منفرد، تجاه ما جرى ويجري من أحداث، نلاحظ أنها اتسمت بالازدواجية والارتباك انطلاقا من الرؤية البراغماتية التي تتبناها السياسات الخارجية لغالبية الدول ومنها الأوربية، فالحديث عن موقف الاتحاد الأوربي من الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، يبيّن الانقسام الأوربي إلى طرفين، إذ ساندت بريطانيا ومعها إيطاليا وأسبانيا وهولندا والدنمارك والبرتغال، الحرب الأمريكية على العراق، بينما رفضت ألمانيا وفرنسا وبلجيكا تأييد الولايات المتحدة من خلال الدعوة إلى حل الأزمة بالوسائل السلمية، وهذا الانقسام نابع من كون الاتحاد الأوروبي يتسم بأحقية كل دولة من دوله في اتخاذ سياسة خارجية قد تختلف مع غيرها من أعضاء الإتحاد على الرغم من سعي هذا الاتحاد في أغلب الأحيان للخروج بموقف موحد في أغلب قضايا السياسة الخارجية.

أما بشأن الحرب السورية، فقد كان التردد والارتباك على موقف الاتحاد الأوربي واضحا في بداية الأزمة ثم بدأ الموقف الأوربي عموما يتناغم مع الرغبة الأمريكية والخليجية في الإطاحة بحكومة الأسد مع وجود اختلافات بين أعضاء الاتحاد الأوربي حول مصير الأسد ووسائل إنهاء الحرب، والاختلاف في المواقف بين دول أعضاء الاتحاد الأوربي ينسحب على الكثير من الأحداث منها الثورات العربية والملف النووي الإيراني.

أزمة مؤسسات الاتحاد الأوربي

هناك خمسة مناصب عليا في الاتحاد الأوربي، أربعة منها سياسية وواحدة مالية هي: منصب رئيس المفوضية الأوروبية، ومنصب رئيس المجلس الأوروبي، والممثل الأعلى للشؤون الخارجية وسياسة الأمن، ومنصب رئيس البرلمان الأوروبي، ومنصب رئيس البنك المركزي الأوروبي. ويواجه الاتحاد الأوربي إشكاليات واضحة على مستوى اختيار الأشخاص لرئاسة هذه المناصب، فغالبا ما تخضع عملية الاختيار لتجاذبات مثيرة للجدل بين قيادات الدول الأعضاء وأحيانا يتم فرض قيود وشروط على رؤساء مؤسسات الاتحاد الأوربي مما يقلل من قدرتهم على الحركة الفاعلة المؤثرة.

وعلى صعيد عملية اتخاذ القرار داخل مؤسسات الاتحاد الأوربي، يواجه الاتحاد صعوبة التوصل إلى قرارات مهمة ومؤثرة فمبدأ الإجماع كشرط لاتخاذ القرارات في مجلس رؤساء الدول والحكومات الأعضاء (المجلس الأوروبي) ومبدأ صوت واحد لكل عضو، يتجاهلان اختلاف الأوزان النسبية بين الدول الكبيرة والصغيرة، كما أدت الزيادة المطردة لأعضاء الاتحاد الأوربي إلى توسع وتعقد القضايا المطروحة للنقاش داخل مؤسسات الاتحاد في ظل تغليب المصالح الوطنية للأعضاء على المصالح الجماعية للاتحاد الأوربي الأمر الذي شلّ قدرة مؤسسات الاتحاد على اتخاذ قرارات حيوية.

وهناك معضلة أخرى، تتمثّل في تطوير الهياكل المؤسسية للمجلس الأوروبي والبرلمان الأوروبي على نحو يستجيب لتحديات العدد الكبير للأعضاء ويؤكد الطابع الديمقراطي للاتحاد، وضمان إشراك البرلمانات الوطنية في عملية اتخاذ القرار على مستوى الاتحاد على نحو يقلل من طابعه البيروقراطي، فضلا عن وجود مشكلة مزمنة تتمثل في تعارض الاختصاصات بين المفوضية الأوربية وحكومات الدول الوطنية خاصة فيما يتعلق بتنظيم سوق العمل والنظام الضريبي والقضايا المرتبطة بالعملة الموحدة والسياسة النقدية.

الخلافات الأمريكية – الأوربية معضلة أخرى

تشهد العلاقات الأمريكية مع الاتحاد الأوربي أزمة حقيقية بعد وصول ترامب للبيت الأبيض، ويكمن السبب الأبرز وراء هذا التوتر بالملف الإيراني؛ فاستمرار تعامل أوروبا مع إيران وسعيها إلى التحايل على العقوبات المفروضة على طهران لإنقاذ الاتفاق النووي رغم الإنسحاب الأمريكي منه، أزعج الإدارة الأمريكية التي تدفع باتجاه تشديد الخناق على طهران، فواشنطن تريد من الاتحاد الأوروبي الكف عن التعامل مع إيران، والانسحاب من الاتفاق النووي، متهمة بعض الدول الأوروبية، على رأسها فرنسا وبريطانيا، بمساعدة طهران للإفلات أو التهرب من العقوبات الأمريكية المفروضة عليها. في حين يعتقد الاتحاد الأوروبي أن الاتفاق النووي هو صمام أمان بوجه تفاقم الأوضاع في المنطقة.

ومن المسائل الخلافية الأخرى بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، مسألة المساهمات الأوربية في ميزانية حلف شمال الأطلسي، إذ تطالب واشنطن الاتحاد الأوربي برفع نسبة تمويلها للحلف في ظل تخلف العديد من دول الاتحاد عن تسديد ما عليها من مساهمات تمويل الحلف والبالغة 2% من ناتجها القومي، وهذا ما أغضب الرئيس ترامب متهما الاتحاد الأوربي بالإستفادة على حساب بلاده التي تنفق سنويا على حلف شمال الأطلسي أكثر من ضعفي ما ينفقه الأوربيون، إذ بلغ إنفاق الولايات المتحدة عام 2018 ما يصل إلى 650 مليار دولار مقابل 250 مليار دولار أنفقه الأوربيون على الحلف.

وتشمل مصادر الخلاف الأمريكي الأوربي قضية الخلافات التجارية والتهديد الأمريكي المستمر بفرض رسوم جمركية على الواردات الأوربية لدعم الاقتصاد الأمريكي وتطبيق سياسة الحمائية دعما للصناعة الأمريكية، وكذلك انزعاج الولايات المتحدة من استمرار الأوربيين باستيراد الغاز الروسي.

الانسحاب البريطاني سيضعف الاتحاد الأوربي

في حال خروج بريطانيا المتوقع من الاتحاد الأوربي سيتقلص عدد دول الاتحاد لأول مرة منذ تأسيسه، الأمر الذي سينعكس سلبا على قدرات الاتحاد الدفاعية، إذا ما نظرنا إلى القدرة العسكرية البريطانية وتأثيرها على السياسة الخارجية لأوروبا عموما. كما سيؤدي الخروج البريطاني إلى إضعاف الوزن الدبلوماسي للاتحاد الأوربي في كثير من القضايا والمحافل الدولية، كما يلحق الخروج المفترض ضررا باقتصاد الاتحاد الأوربي الذي سيفقد 15% من قوته في حال انسحاب بريطانيا من الاتحاد، وستبرز مشكلة تعويض خسارة بريطانيا ومساهماتها المالية لحساب ميزانية المفوضية الأوروبية، مما يسبب ورطة كبيرة يصعب حلها، حيث يجب على دول أخرى مثل إيطاليا وفرنسا وألمانيا وبعض الدول الأوروبية دفع الفارق الناجم عن خروج بريطانيا للميزانية الأوروبية، وهو أمر صعب المنال خصوصا مع وجود حكومات يمينية شعبوية تعلن وقوفها ضد جهود تعزيز الاتحاد الأوربي، كما هو الحال الآن في إيطاليا، والأخطر من ذلك كله أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي قد يشجع دول أخرى لاقتفاء أثر بريطانيا مما يهدد الاتحاد بالتفكك والانهيار.

تحديات لا تنتهي

التحديات التي تواجه الاتحاد الأوربي مستمرة ولا تلوح في الأفق إمكانية تجاوزها فبالإضافة لما ذكرناه آنفا يعاني الاتحاد الأوربي من عدم قدرته على تأسيس جيش أوربي موحد يغني الأوربيين من مظلة الحماية الأمريكية، وكذلك صعود الشعبويين للسلطة في بعض الدول الأوربية كإيطاليا، الداعين لإيلاء المصالح الوطنية لدولهم الأولوية على حساب مصالح الاتحاد الأوربي، ولا ننسى تأثير موجة الهجرة على الاستقرار السياسي والاجتماعي في بلدان أوربا نتيجة اختلاف المواقف وتنازعها ما بين رافض ومؤيد للهجرة إلى أوربا الأمر الذي أدّى إلى حد تعطيل معاهدة شنغن، فضلا عن الأزمات الاقتصادية المتكررة التي تعاني منها بعض دول الاتحاد الأوربي كاليونان، هذه التحديات وغيرها لا بد أن تترك آثارا سلبية على قوة الاتحاد الأوربي وبالتالي قدرته على احتلال مركز متقدم في لعبة النفوذ والتأثير في النظام العالمي وتطوراته.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2019Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق