q
ملفات - شهر رمضان

حرية التعبير وظاهرة التكفير

أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ السَّنةُ الحادِيةُ عشَرَة (٢٢)

الآية تسلب منَّا حقَّ سبِّ ثوابتِ الآخر مهما اختلفَ معنا، فليسَ كُلُّ مَن يختلفُ معكَ بدينٍ أَو مذهبٍ أَو عقيدةٍ أَو رأيٍ يحقُّ لكَ تخوينهُ أَوَّلاً ثمَّ تكفيرهُ وتالياً قتلهُ! أَبداً، والحديثُ هُنا عن الفكرِ والثَّقافةِ وليسَ عن السُّلوكِ والمُمارسةِ، وإِلَّا فلَو كانَ السُّلوكُ مُنحرِفاً...

 {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ۖ}.

 هذهِ هي النَّتيجة الطبيعيَّة لمَن يسترسِل مع مجمُوعةٍ [حقيقيَّةٍ أَو افتراضيَّة] بعدَ أَن يتيقَّن أَنَّها فاسدةٌ تأخُذهُ إِلى [التَّفاهة] فما يبذلهُ فيها هو ليسَ أَكثر مِن {لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} فجهدهُ ووقتهُ كلَّهُ ضَلال.

 لقد حدَّد القرآن الكريم معايير الحِوار ليكونَ مُفيداً ومُثمِراً منها قولهُ تعالى {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} وقولهُ تعالى {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَىٰ} وفي الآيةِ إِشارةٌ إِلى تركِ الجدالِ إِذا شعرتَ فيهِ لجاجةً زائدةً عن اللَّازمِ وإِنَّ الآخر مُصِرٌّ على رأيهِ ليسَ من بابِ العَنادِ والمُناكفةِ وإِنَّما من بابِ محدوديَّةِ علمهِ ووعيهِ وفهمهِ للأُمورِ، وهيَ دعوةٌ لتقديرِ مبلغِ علمِ الآخر بمادَّةِ الجدالِ والتوقُّفِ عندها من دونِ [تكفيرٍ] مثلاً!.

 كذلكَ قولهُ تعالى {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

 وهذهِ الآية هي واحِدةٌ من أَرقى آياتِ الجدالِ، فهيَ من جانبٍ تبرِّر لكُلِّ جماعةٍ دفاعَها عن مُتبنَّياتِها لأَنَّ طبيعة الأَشياء تُحتِّم على كُلِّ امرءٍ أَن يدافِعَ عن عقيدتهِ، فإِذا رأَيتَ أَحدٌ يفعلَ ذلكَ فلا تستغربَ مهما كانت دوافعهُ، ولهذا السَّبب نُلاحظ تعدُّد [الأَديان] و [المذاهِب] و [العقائِد] في العالَم، يقولُ تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.

 وبذلك فقط تتحقَّق فلسفة الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.

 ومن جانبٍ آخر فإِنَّ الآية تسلب منَّا حقَّ سبِّ ثوابتِ الآخر مهما اختلفَ معنا، فليسَ كُلُّ مَن يختلفُ معكَ بدينٍ أَو مذهبٍ أَو عقيدةٍ أَو رأيٍ يحقُّ لكَ تخوينهُ أَوَّلاً ثمَّ تكفيرهُ وتالياً قتلهُ! أَبداً، والحديثُ هُنا عن الفكرِ والثَّقافةِ وليسَ عن السُّلوكِ والمُمارسةِ، وإِلَّا فلَو كانَ السُّلوكُ مُنحرِفاً ينتهي إِلى القتلِ أَو الفسادِ فالعقُوبةُ ستكونُ مشدَّدةً جدّاً بغضِّ النَّظرِ عن [العقيدةِ] لقطعِ الطَّريقِ على أَيِّ مسعىً لتكرارِها كما في قولهِ تعالى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} لِماذا؟! الجواب {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فالتعدديَّة الفكريَّة من حريَّة التَّعبير التي حمَتها السَّماء أَمَّا الجريمة بذريعةِ الإِجتهادِ فليسَت من حريَّةِ التَّعبيرِ في شيءٍ أَبداً.

 ولذلكَ نُلاحظ أَنَّ أَميرَ المُؤمنِينَ (ع) رفضَ قِتال الخوارِج وحِرمانهِم من حقُوقهِم المدنيَّة لمجرَّدِ أَنَّهم اختلفُوا معهُ في الرَّأي، إِلَّا أَنَّهُ بادرَ لقتالهِم مِن دونِ تردُّدٍ عندما رفعُوا السَّيفَ بوجهِ الدَّولة وقطعُوا الطَّريق وبقرُوا بطونَ الحواملِ ومارسُوا أَبشعَ أَنواعِ الفَسادِ المُسلَّح.

فلقد جاءَ رجلٌ برجُلٍ من الخوارجِ إِليهِ (ع) قائلاً؛ إنِّي وجدتُ هذا يسبُّكَ، فقالَ لهُ الإِمام {فسُبَّهُ كما سبَّني} قال؛ ويتوعَّدُك؟ فقال (ع) {لا أَقتلُ مَن لم يَقتُلَني} وأَضافَ (ع) يرسِمُ خارطةَ طريقٍ في التَّعامُلِ مع [الخوارجِ] {لهُم علينا ثَلاث؛ أَن لا نمنَعهُم المَساجِدَ أَن يذكرُوا الله فِيها، وأَن لا نمنعهُم الفَيء ما دامَت أَيديهِم معَ أَيدينا، وأَن لا نُقاتلهُم حتَّى يُقاتِلُونا}. 

 ولقد نبَّههُم أَميرُ المؤمنِينَ (ع) إِلى ذلكَ عندَما بعثَ لهُم مَن يُخبرهُم بقولهِ {كُونُوا حَيثُ شِئتُم وبينَنا وبينكُم أَن لا تُسفِكُوا دَماً حَراماً ولا تقطَعُوا سبيلاً ولا تظلِمُوا أَحداً} لكنَّهم رفضُوا فتمرَّدُوا فتجبَّرُوا فأَجرمُوا.

 ورفضَ (ع) تكفيرهُم عندما رفضَ أَن يواجِهَ التَّكفيرَ بتكفيرٍ مُضادٍّ فكانَ يُدافعُ عن [إِسلامهم] وكانَ يُؤَكِّد على ضرورةِ التَّعاملِ معهُم مُعاملةَ المُسلمينَ، فقد سُئلَ (ع) عن أَهل النَّهروان هل كفرُوا؟! قال {مِنَ الكُفرِ فرُّوا} فقيل لهُ؛ فمُنافِقُونَ؟! قالَ {إِنَّ المُنافقِينَ إِذا قامُوا إِلى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى، وهؤُلاء تحقِّرُونَ صلاتكُم بجانبِ صلاتهِم} ثمَّ قيلَ لهُ (ع)؛ ماذا تقولُ فيهِم؟! قال {قَومٌ تأَوَّلُوا فأَخطأُوا} وفي روايةٍ أُخرى؛ قالَ (ع) {قَومٌ أَصابتهُم فِتنةٌ فعَمُوا فِيها وأَصمُّوا}.

 لقد حرصَ (ع) أَشدَّ الحِرصِ على أَن لا تنتشرَ في الأُمَّةِ ظاهِرةَ التَّكفير لأَنَّ نتيجتَها الإِقتتالِ الدَّاخلي {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} ولذلكَ قالَ قولتهُ الشَّهيرة عن الخوارجِ مُبرِّراً لهُم إِنحرافهُم وابتعادهُم عن جادَّةِ الحقِّ {لَا تُقَاتِلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَه كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَه}.

 على الرَّغمِ من يقينهِ (ع) بأَنَّ المنهجَ لن ينتَهي أَو يتُمَّ القضاءَ عليهِ، فعندَما قُتِلَ الخوارِج قيل لهُ؛ يا أَميرَ المُؤمنِينَ هلكَ القومُ بأَجمعهِم! فردَّ (ع) قائلاً {كَلَّا واللَّه إِنَّهُمْ نُطَفٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وقَرَارَاتِ النِّسَاءِ كُلَّمَا نَجَمَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ حَتَّى يَكُونَ آخِرُهُمْ لُصُوصاً سَلَّابِينَ}.

 ورُوِيَ أَنَّه (ع) كَانَ جَالِساً فِي أَصْحَابِه فَمَرَّتْ بِهِمُ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ فَرَمَقَهَا الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقَالَ (ع) {إِنَّ أَبْصَارَ هَذِه الْفُحُولِ طَوَامِحُ وإِنَّ ذَلِكَ سَبَبُ هِبَابِهَا فَإِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى امْرَأَةٍ تُعْجِبُه فَلْيُلَامِسْ أَهْلَه فَإِنَّمَا هِيَ امْرَأَةٌ كَامْرَأَتِه}.

 فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ؛ قَاتَلَهُ اللَّه كَافِراً مَا أَفْقَهَه.

 فَوَثَبَ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوه فَقَالَ (ع) {رُوَيْداً إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ}.

اضف تعليق