بات الفضاء العراقي اليوم مُتخماً بعدد كبير ومتنوع من الوسائل الإعلامية ومنها القنوات الفضائية التي تتزايد وتناسل يوما بعد آخر بسرعة كبيرة، وهو ما جعل المتلقي العراقي لاسيما المراهقين، يتعرض الى قدر كبير من الرسائل الإعلامية التي تحرض على الكراهية والعنف وتنشر الأفكار عبر الاثير...

احرص دوماً على ان أُتابع كل اسبوع على الاقل، فيلماً وثائقياً وكثيراً ما يكون ذلك عبر الانترنت، كعادة لا أود تركها، تنمي لدي رصيد المعرفة وتقتل وقت الفراغ والملل، وأُفضلُ في احيان كثيرة ان يكون الفيلم من إنتاج احدى القنوات العالمية ذات الانتاج الاحترافي.

شدَني تقرير استقصائي انتجته إحدى القنوات العالمية وشاهدته عبر حسابها على اليوتيوب، يتقصى التقرير اسباب انضمام مجموعة من الشباب الاكراد في إقليم كردستان العراق الى تنظيم ما يعرف داعش.

ويشير التقرير الى ان الشباب انضموا الى التنظيم الإرهابي وقاتلوا الى جانبه في العراق وقُتلوا في سوريا، إثر تعرضهم المتواصل لمضامين إذاعة انشأها التنظيم تبث من مدينة الموصل المتاخمة لإقليم كردستان العراق بعد فرض التنظيم سيطرته على المدينة عام 2014.

وتروج الإذاعة لأفكار وايدلوجية التنظيم الذي سيطر على مساحة واسعة من العراق الى جانب اجزاء كبيرة من سوريا، وللقارئ ان يتخيل مدى الدور الخطير لبعض وسائل الإعلام في تسطيح العقول وتحشيد الجمهور لصالح فكرة او قضية ما، فهي سلاح ذو حدين يتعين على الجميع الحذر في التعامل معه فقد يحمل اثيره ما يحمل من المعلومات المظللة والمغرضة والافكار الضالة.

كما إني لازلت اذكر حادثاً غريباً خلال دراستي للإعلام في بغداد، ففي وقت ما من عام 2010، اذ كانت بعض جيوب تنظيم القاعدة تنشط في مناطق جنوب بغداد صحونا يوما على مقتل عائلة كاملة بينهم طفل رضيع، بذريعة ان والدهم كان ضابطاً في احدى التشكيلات الامنية، وقد استخدم عناصر التنظيم حينها لتنفيذ العملية؛ ذات الاسلوب الذي يتبعه بطل احدى المسلسلات التركية في قتل أعدائه الافتراضيين ويُبث المسلسل عبر شاشة احدى القنوات العربية.

الاعلام بديل عن المدرسة

بات الفضاء العراقي اليوم مُتخماً بعدد كبير ومتنوع من الوسائل الإعلامية ومنها القنوات الفضائية التي تتزايد وتناسل يوما بعد آخر بسرعة كبيرة، وهو ما جعل المتلقي العراقي لاسيما المراهقين، يتعرض الى قدر كبير من الرسائل الإعلامية التي تحرض على الكراهية والعنف وتنشر الأفكار عبر الاثير، و غالباً ما تكون غير محددة بقيود اجتماعية او دينية، بل يُسيرها الربح المادي او التوجه الأيديولوجي، ويتم فيها خلط الخبر بالرأي او بالإعلان والدعاية احياناً، بحيث تمرر رسائل وتحقق أهداف من خلال هذا الخلط، ولقلة الوعي والإدراك بمسألة الحيادية والموضوعية ينجرف كثيرون بسهولة مع تيار التعبئة لتلك الوسائل الإعلامية.

لقد أحكم الإعلام سيطرته على العالم، مسلياً، مربياً، معلماً، موجهاً، شاغلاً، مشغلاً، يظهر كل يوم بوجه جديد، وفي كل فترة بأسلوب مبتكر، وفي كل مرحلة بتقنية مدهشة، متجاوزاً حدود الزمان والمكان، مما جعل التربية بوسائلها المحدودة، وتطورها التدريجي الحذر تفقد سيطرتها على أرضيتها، وأصبح الإعلام يملك النصيب الأكبر في التنشئة الاجتماعية، والتأثير والتوجيه، وتربية الصغار والكبار معاً، وما لم يكـن الإنسان واعيـاً إعلاميـاً فإن التيـار الجارف سيكتسح كـل معصـوب العينين.

وتتميز وسائل الإعلام بقدرة تأثيرية وتوجيهية تجعلها ذات تأثير قوي وفاعل لعدة اسباب:

1- التنوع: حيث تتنوع وسائل الإعلام بين سمعية ومرئية ومقروءة.

2- التشويق: توظيف الجوانب النفسية في جذب الانتباه والتأثير والإقناع.

3- التفاعلية: حيث يمكن التفاعل مع كثير من تلك الوسائل.

4- الوفرة: تعمل كثير من وسائل الإعلام على مدار 24 ساعة وتنقل الإحداث بشكل مباشر.

5- سهولة التواصل: حيث أن كثير من وسائل الإعلام يمكن الوصول لها ومتابعتها من البيت ومن أي مكان.

6- الخصوصية: حيث يمكن للمتلقي التعامل مع تلك الوسائل بخصوصية تامة.

وفي ظل الثورة الإعلامية والمعلوماتية التي يتميز بها هذا العصر من انفتاح في إطلاق القنوات الفضائية وسهولة الاتصال عبر الانترنت والفضاء والهواتف المحمولة، صار لزاما على المؤسسات التربوية والتعليمية أن تبحث عن سُبلٍ تواجه من خلالها الإعلام المغرض، وتغرس في نفوس الطلبة الفراسة والحصانة التي تمكنهم من الحكم على الرسائل الإعلامية وفق معايير إعلامية اكاديمية رصينة.

الحاجة الى التربية الإعلامية

وإزاء هذا التطور في الطرح الذي يميز الوسائل الاعلامية، وقدرتها في التأثير على العقول تبرز الحاجة الى إدخال منهج التربية الإعلامية ضمن المنهاج التربوي كمنهج هام ينبغي إعطاؤه للطلبة على الاقل لثلاث اعوام، حيث إن الثورة التكنولوجية جعلت التربية الإعلامية أكثر الحاحاً وبخاصة بعد أن فقدت الدول السيطرة الكاملة على البث المباشر للبرامج التلفزيونية، وفقدت قدرتها على التصدي للبث الإعلامي الخارجي والاكتساح الثقافي الأجنبي. وبعد ان ساعدت شبكة الانترنت على الغزو الثقافي وتهديد كثير من الثقافات الوطنية والمذهبية وتفاعل معها الكبار والصغار.

ويعرف مُتخصصو الإعلام التربية الإعلامية، هي تكوين القدرة على قراءة الاتصال وتحليله وتقويمه وإنتاجه. ويعرفها مؤتمر فيينا عام 1999، تختص بالتعامل مع كل وسائل الإعلام الاتصالي، وتشمل الكلمات، والرسوم المطبوعة، والصوت، والصورة الساكنة والمتحركة، التي يتم تقديمها عن طريق اي نوع من انواع التقنيات.

وكانت منظمة اليونسكو قد دعت منذ عام 1982 الى تدريس منهج التربية الإعلامية في المدارس، وتقرر المنظمة اهمية التربية الإعلامية من خلال العبارة "يجب ان نعد النشأ للعيش في عالم سلطة الصورة والصوت والكلمة"، وتعد منظمة اليونسكو التربية الإعلامية جزءا من الحقوق الاساسية لكل مواطن في كل البلدان، وتوصي بضرورة إدخال التربية الإعلامية حيثما امكن، ضمن المناهج التربوية والوطنية، وكذلك إدخالها ضمن انظمة التعليم غير الرسمية، والتعليم مدى الحياة.

وتعد كندا وبلدان أوربا من بين الدول الرائدة في تعليم منهج التربية الإعلامية في المدارس حيث وفرت المصادر اللازمة واعَدت المعلمين ودربتهم لإداء ذلك بشكل جيد، اما بالنسبة للدول الآسيوية، فكانت الفلبين اولى الدول التي ادخلت التربية الإعلامية، وتحرص تركيا ايضا على تدريس منهج التربية الإعلامية، وعلى مستوى البلدان العربية تقوم لبنان بإعطاء التربية الإعلامية ضمن مادة التربية الوطنية والتنشئة الاجتماعية في المدارس المتوسطة والثانوية.

مجالات التربية الإعلامية

من ابرز المجالات التي تعنى بها التربية الإعلامية، تثقيف الناشئة بسبل فهم الامور وتقديرها، وسبل التعايش مع الآخرين، واستيعاب مقتضيات العصر الحديث، وآليات التفاعل مع العولمة، وتعبئة الشباب لمواجهة الاحداث الجارية الطارئة وغير الطارئة، وتمكينهم من المهارات التي تعنيهم على المواجهة عوضا عن الخوف والاستسلام او الانعزال، كما تعنى التربية الإعلامية بمساعدة الطلاب على فهم حقوقهم وواجباتهم، وتقدير قيم الشورى، والإخلاص، وحب الوطن، والانتماء الصحيح، واحترام الآخر، والحرية العادلة، ومواجهة الشائعات والتضليل، ومحاربة الانحرافات الفكرية.

عقبات تطبيق التربية الإعلامية في العراق

في بيئة يبدو فيها الهدوء والتوافق السياسي حالة نادرة، تُمسك فيها غالبية الاحزاب السياسية بماكنة إعلامية ضخمة تمول بسخاء، وتتسارع فيما بينها لتثبيت صوابية هذا الحزب او ذاك المكون الديني او العرقي تجاه قضية ما، امر قد يجعل من طرح التربية الإعلامية يُقابل بمعارضة كبيرة وتعذر بأسباب كثيرة، لان تجهيل وتسطيح افكار الجمهور اهم امارة تبحث عنها الماكنة الإعلامية في جمهورها، فإن وجِدت تمكنت من غرس ما تريد بأرضية هشة وسنح لها تبييض الاسود وتسويد الابيض ويواصل المتصارعون السياسيون تحريك خيوط اللعبة لإدارة عقول الجمهور وفق رغباتهم لاسيما مع ارتفاع اعداد الوسائل الاعلامية حيث يلامس عدد القنوات الفضائية العشرات، ناهيك عن الاذاعات والصحف والصفحات الممولة التي تنفث سمومها بين مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي تارة وتلمع مالكيها تارة، ولو ان المشاركون في العملية السياسية سعوا الى العمل بشكل يرضي طموح الجمهور لما تزاحموا على شراء الحزم والترددات من إدارات الاقمار الصناعية.

اضف تعليق


التعليقات

ألباب
العراق
مذهل.. ان شاءالله تؤخذ فكرة المقالة بعين الاعتبار من قبل الجهة المختصة2020-06-22