هل هناك رواية مرئية؟! سؤال يبدو فنتازيا، فالمعروف ان المؤسسات الفنية تتلقف ما تراه مناسبا من الاعمال الروائية الورقية لتجعل منها اعمالا سينمائية او درامية مرئية، وقد تضيف لها جمالا او تسيء! لكن ان تصدر (رواية مرئية) وتسوّق على شكل فيلم، فهو غير المألوف، ولكن هذا قد يصبح حقيقة...

هل هناك رواية مرئية؟! سؤال يبدو فنتازيا، فالمعروف ان المؤسسات الفنية تتلقف ما تراه مناسبا من الاعمال الروائية الورقية لتجعل منها اعمالا سينمائية او درامية مرئية، وقد تضيف لها جمالا او تسيء! لكن ان تصدر (رواية مرئية) وتسوّق على شكل فيلم، فهو غير المألوف، ولكن هذا قد يصبح حقيقة وسيكون هذا النوع من (الروايات) منافسا حقيقيا للأعمال الورقية ومغنيا عنها مستقبلا!

قد يجد البعض في كلامي هذا نوعا من المبالغة، لكني وبحكم مشاهدتي لأكثر من عمل (وثائقي) مؤخرا، ايقنت اننا امام جنس ابداعي جديد يتخلّق وبسرعة.. قبل ايام شاهدت على قناة (الجزيرة الوثائقية) فيلما وثائقيا، تناول موضوعة حساسة للغاية، يتداخل فيها الوجداني والاخلاقي بالثقافي والسياسي وبطريقة مركبة جدا لدرجة اني عشت لأيام مزاجا عاطفيا مختلفا تركته بداخلي مشاهدتي لهذا الفيلم، الذي كان بعنوان (الغياب) وخلاصته؛ ان شابا تونسيا يقع تحت تأثير قناعاته الدينية، مطلع تسعينيات القرن الماضي، ويقرر الذهاب الى البوسنة للقتال الى جانب المسلمين ضد الصرب، وقد عرف اهله بذلك بعد حين، كما يقول والده، حين راسلهم واخبرهم انه بات هناك بعد ان كانت وجهته المعلنة ايطاليا!

وبعد استقرار اوضاع مرحلة ما بعد تفكك يوغسلافيا، يتزوج من فتاة بوسنية مسلمة ويغادرا الى لكسمبورغ ليستقرا وينجبا ثلاث بنات ويعيشا حياة سعيدة.. يراسل الشاب والده ليخبره بوضعه الجديد ويدوّن في الرسالة عنوانه الكامل، ويؤكد على الأب ان لا يجعل احدا يعرف العنوان، لكن الأب يترك الرسالة على الطاولة، وبشكل او بآخر يصل العنوان الى (المختار) او مسؤول القرية ومنه الى الداخلية التونسية التي تراسل السلطات في لكسمبورغ لملاحقته بوصفه ارهابيا، فتعتقله الجهات الامنية هناك وتعيده مكبلا مع عائلته الى بلده تونس التي يسجن فيها ست سنوات، بعد ان لاقى صنوفا من التعذيب الجسدي والنفسي.

لكن مأساته لن تتوقف عند هذا الحد، اذ تعمل السلطات التونسية على اقناع زوجته بالانفصال عنه، فتعود الزوجة التي بدت في فيلم عائلي يحتفظ به زوجها، سيدة متحضرة، ترتدي (الربطة الاسلامية) العادية والتنورة، وكان يصف حياته معها بالسعيدة ولا يرى امرأة افضل منها ولن يجد، كما يقول طبعا!

لكنها تحت التأثير النفسي ووضع زوجها الخاص تتركه وتغادر تونس عائدة الى بلادها بعد حصولها على قرار الطلاق، وتترك بناتها الثلاث مع والدهن الذي يعود بهن الى بلدته (سيدي بوزيد) وهناك تبدأ الصغيرات الثلاث رحلة حياة مختلفة اذ يتعلمن لغة بلاد ابيهن، ويعملن معه في مزرعة صغيرة للطماطم، ومن تلك التفاصيل يبدأ الفيلم الذي يتنقل بنا بين مراحل مختلفة من حياة (توفيق) وهذا اسمه، وكيف كان يعيش بعد استقراره في لكسمبورغ، حيث تظهر الصغيرات في لقطات عائلية قديمة، وهن يتأهبن للذهاب الى المدرسة بمساعدة أمهن.

لقد بدا هذا الانسان في الفيلم انه ليس ارهابيا كالذين عرفناهم، بل اسلاميا، كما وصف نفسه، وكما يبدو من طبيعة حديثه انه متحضّر او ربما اسهمت تجربته الحياتية والعائلية بصقله وتشذيبه، كما تظهر الفتيات الثلاث وهن يتحدثن عن امهن وشوقهن اليها والفراغ الذي تركه انفصالها عن ابيهن بعد عودتهم (المرعبة) الى تونس حيث كان الأب مكبلا امامهن بالسلاسل .. ناهيك عن تفاصيل اخرى مشوقة، حيث التصوير الذكي والتنقلات التي يتم الاشتغال فيها على الزمن بطريقة فنية لتغطي مساحة اوسع من الحدث.

من بين ما يفيض به وجدان (توفيق) المثقل بالأسى، ما عرفه لاحقا، ان زوجته تعرضت الى الاغتصاب من قبل رجال الأمن وهو ما اكده له احد المقربين منهم، وقال له لو احتجت الدليل على ذلك لجلبته لك! وقوله كذلك ان لزوجته او طليقته مكانا في قلبه لم تملأه بعد امرأة غيرها ولن يجد افضل منها، لكنه يقول ايضا انه لن يسامحها على فعلتها وتركها اياه وبناتها.. ثم يتحدث بحرقة عن كيفية تدمير حياته التي كانت سعيدة قبل ان يعاد عنوة لتونس.

الشيء الذي ألمني حقا هو ان البنات اللواتي تعلّمن لغة ابيهن دخلن المدارس التونسية، وصرن يتفوقن في دروسهن، وكان هذا عزاء والدهن الوحيد، وربما عزاء من شاهد هذا الفيلم او (الرواية المرئية) التي ذكرتني في بعض جوانبها برواية (الساعة الخامسة والعشرون) مع الفارق طبعا.. وأراها قد استوفت الشروط الفنية الجمالية التي تجعل المشاهد يتساءل، ترى ما حاجتي بعد الذي شاهدته لأن اقرأ رواية ورقية عن هذه المحنة الانسانية، وما عسى كاتبها ان يضيف اكثر مما قالته هذه الصور!؟

تنتهي هذه الرواية المؤثرة، بمشهد عاطفي جدا، اذ تذهب الفتيات الثلاث الى المدرسة وتلاحقهن الكاميرا، وعند الاصطفاف الصباحي يقرأن مع زميلاتهن النشيد الوطني التونسي، ويستمر صوت النشيد حتى نهاية الفيلم مع صور لوجوههن التي تجعلك تستعيدها وهن صغيرات في لكسمبورغ مع امهن حيث يظهرن والحقائب المدرسية على ظهورهن يبتسمن للكاميرا العائلية وللأمل، حيث يصورهن الأب وقتذاك .. وها هن فتيات في بلد آخر وأمل مذبوح .. ويتطلعن لصورة ام غادرت .. وربما لن يرنها ابدا!

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق