q

تحولات التاريخ المعاصر تمثل التحدي الأكبر الذي تعيشه الأمة الإسلامية، حيث برزت مخاطر الانهيار عندما تداعت مظاهر الخلافة الاسلامية المتمثلة بالعثمانيين والتي كانت في جوهرها تعيش تخلفاً مستشرياً في جميع جوانبها، في مقابل ذلك وجود هجوم تغريبي تقوده حضارة ناشئة تحمل طموحات توسعية وثقافية واقتصادية كبيرة.

وبين الزمنين تصبح التحولات البنيوية والجذرية أخطر الإرهاصات التي تقف في مواجهة المصير الحتمي القادم. وتكمن خطورة التحول عندما تفقد الأمة قدرتها على فهم عناصر التغيير وهضم الحوادث المستجدة والتطورات المتسارعة، وبالتالي تفقد قدرتها على اختيار البدائل السليمة؛ فالقديم قد أصبح بالياً وغير قادر على تحقيق أحلام العصر الجديد بل إنه قد يثير النفور بما خلفه من ممارسات غير إنسانية في تاريخه، والجديد يحمل في شعاراته الأحلام والأماني والطموحات الجميلة وهو يرتدي ثوباً زاهياً يتموج بإغراءات الحضارة والتجديد.

وما بين ذا وذاك تُضيَّع الأمة قيمها ومبادئها وتنسلخ عن جذورها، خصوصا أن من يمتلك القديم قد انغمس كلياً في تعصبه وتطرفه حتى التحجر، وأن من استولى بالجديد قد طغى بعنفوانه وقدرته وخياله ومظهره حتى الانصهار.

وبين ذا وذاك ضاعت الأمة بين جمع سلط عليها أسواط التقديس المزيف والعنف والتطرف وفرض عليها جاهلية القديم، وبين جمع قمعها بالتغريب المزين بالتجديد الظاهري ليضع الأمة في جيب الرأسمال أو محفظة البروليتاريا.

ومن دون ذا وذاك قامت الوسطية ببعض الإصلاحات العقلانية التي حاولت أن تستبقي بعض الرشد وتستوعب الحماس الانفعالي وتوحي ببعض الوعي والرشاد. هذه الحركات الإصلاحية كانت الكلمة سلاحها النافذ في تحقيق مشروعها، ففي هذا الخضم المعقد تصبح الأسلحة الأخرى مجرد إثارة انفعالية عابرة لا تثير الداخل العقلي والتنور الفكري.

ولاشك أن المشروع الإصلاحي المبتني على العقل الوسطي والاجتهاد الحر كان هو القادر على التجديد والتحديث مع حفاظه على أصالة الأمة وقيمها ومبادئها دون أن تنصهر في المد التغريبي القادم بمختلف مسمياته.

والتغريب ليس تجديداً حقيقياً بقدر ما هو محاولة لهدم الماضي كلياً وحرق كل الجسور المرتبطة بذاكرة الإنسان وتجارب الشعوب وخلق تبعية جديدة لوصي وسيد جديد يحمل مقومات أرستقراطية حديثة. وقد أدى التغريب الاستعماري في بعض البلاد إلى إيجاد هويات هجينة أدت إلى خلق مشاكل معقدة تفوق مشاكل التخلف السابقة.

والإصلاح في مبادئه وجوهره وعمله يناقض التغريب؛ لأنه يهدف إلى تجديد الواقع مع الحفاظ على مصادره الأساسية وتنمية كفاءاته وبناء قواه واستثمار موارده ذاتياً؛ لذلك فإن الإصلاح يحتاج إلى:

- برنامج فكري عميق ومتدفق قادر على تغذية المشروع باستمرار بالأفكار والرؤى النظرية والعملية بحيث يملك قابلية فهم معطيات التحول وعناصر التجديد.

- مشروع حركي تغييري يحول الأفكار الإصلاحية إلى قاعدة جماهيرية تعتمد على التنظيم الفعال واستثمار الكفاءات.

- مأسسة المجتمع بحيث يتحرك المشروع الإصلاحي صوب تحويل المجتمع إلى قاعدة بنيوية متماسكة قادرة على تبني المشروع وتجسيده ميدانياً.

ويمثل المرجع الديني الأعلى الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) أحد أعظم رواد هذا المشروع الإصلاحي، بل قد يكون (ره) من أوائل الذي جسدوا عملية الإصلاح في مشروع متكامل في مبادئه وشموليته واستيعابه للضرورات والتحولات المعاصرة، فكان لنظرياته الإصلاحية واقع ميداني وجماهيري ومؤسساتي، تشهد له تلك الآثار الكبيرة التي خلفها وراءه. وقد كان مشروعه الإصلاحي يعتمد على عدة عناصر:

1- إنه مشروع قادم من مرجعية عظيمة في تاريخها وعليتها وجماهيريتها وحركيتها، وهذا الإصلاح المتحرك يمثل بحد ذاته تأطيراً شرعياً وامتداداً تأصيلياً لحركة الأمة نحو التجديد والتحديث، خصوصاً وأن هذه المرجعية تمتلك مقومات الإخلاص والورع والتقوى، يمثلها ويدعمها تاريخ طويل من النزاهة والنظافة والاستقامة؛ ذلك أن الإصلاح في مرجعية آل الشيرازي ليس وليد اليوم بل هو حركة تاريخية تمثل سجلاً عريقاً من النضال والجهاد الذي بدأه الميرزا الشيرازي الكبير صاحب ثورة التنباك، واستمر بالميرزا محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين في العراق، وسار به الإمام السيد محمد الشيرازي في مشروع إصلاحي واسع في العالم وفي الشرق الأوسط بشكل خاص، ولا زال أبناء هذه الأسرة المباركة يحملون هم الإصلاح في شتى بلاد العالم.

2- يحمل هذا المشروع الإصلاحي الكثير من الأفكار الأصيلة والمتجددة وبالتالي فإنه قد غذى الأمة وحركتها بأفكار عديدة تموجت آثارها على كثير من التيارات والحركات. وقد ركزت هذه الأفكار بشكل أساسي على استمداد النهضة من نصوص القرآن الكريم مع فهم معاصر عميق لهذه النصوص قادر على حل الكثير من مشكلات التخلف والتغريب والتنمية. وقد كان الإمام الشيرازي (ره) يطرح الآيات القرآنية الثلاثة: (آية الحرية، وآية الأمة الواحدة، آية الأخوة)، باعتبارها آيات أساسية تمثل محور إنقاذ المسلمين ونجاتهم، كما أنه طرح آيات أخرى تنبع مفاهيمها من هذه الآيات باعتبارها آليات التغيير مثل: (آية الشورى، آية السلم واللاعنف، آية التعددية، آية التنظيم...).

3- إن أحد أهم عناصر قوة المشروع الريادي للإمام الشيرازي في الإصلاح والتجديد، هي رؤيته الحركية ومحاولة عقلنة الحركة الإسلامية عبر إخراجها من الاتجاه الثوري المفرط إلى اتجاه وحركة إصلاحية عقلانية تتكامل فيها أسس العمل التغييري السليم، فطرح في كتابه السبيل إلى إنهاض المسلمين مجموعة رؤى تستنهض الحركة الإسلامية في الاتجاه السليم، مثل: التوعية والتنظيم والتنظيم الجماهيري والعمل السلمي غير العنيف وأخلاقيات الحركة الإسلامية، من سعة الصدر وقضاء حوائج الناس.. والاكتفاء الذاتي والتعاون..

4- سعى الإمام الشيرازي إلى بناء القاعدة الأساسية للإصلاح، وهي بناء المؤسسات ومأسسة الحركة الإصلاحية في المجتمع بمختلف الصور من أجل تحويل القاعدة إلى عمل حركي منظم يستوعب الإصلاح في أطر خطوات منظمة متصاعدة تدريجيا نحو البناء المتكامل.

5- ومن عناصر هذا المشروع الإصلاحي هو استقلالية الإمام الشيرازي وعدم ارتباطه بدول وأنظمة سياسية، إذ إن التبعية سوف تفقد المشروع نزاهته وهدفيته ويصبح ألعوبة بيد مصالح السلطات. وقد قدّم (ره) تضحيات كبيرة في سبيل هذه الاستقلالية حيث تعرض إلى ضغوط سياسية عنيفة وحصار اقتصادي صارم.

6- يمثل الانفتاح الموضوعي والعقلاني على الآخر أحد أهم أبعاد هذا المشروع الإصلاحي بمختلف المستويات؛ فلا تشكل موجة الضعف في الأمة، ولا عاصفة التغريب، تبريراً للانغلاق على الذات، بل لابد من انفتاح متوازن يأخذ من تجارب الآخرين عناصر القوة الإيجابية دون أن يعني ذلك التأثر المطلق والتخلي عن الثوابت. بل إن سماحته دعا إلى عملية فتح الحوار مع الغرب من أجل رفع الحواجز المتراكمة نتيجةً لسوء الفهم، وتعريف الغرب بالإسلام الواقعي والصحيح، بل إنه دعا إلى إنقاذ الغرب ونجاته من سلبيات حضارته لأجل إنقاذ العالم ورفع مستواه.

هذا العدد من (مجلة النبأ) يصدر بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لرحيل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره)، وقد رفع عنواناً: (الإمام الشيرازي.. ريادة في الإصلاح والتجديد)، ونحن بدورنا ندعو الباحثين والمفكرين وقادة الحركات الإسلامية والوطنية إلى قراءة مشروعه الإصلاحي قراءة موضوعية من أجل رفد المشروع الإصلاحي الإسلامي والإنساني العالمي بأفكار وتجارب وعِبَر تنقذ العالم، وبالخصوص العالم الإسلامي، من محنة التخلف والتبعية والعنف والتمزق والفقر.

* مقال نشر في مجلة النبأ العدد 69-ذي القعدة1423/كانون الثاني2003-والذي صدر بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لرحيل الامام السيد محمد الشيرازي

اضف تعليق