لم تكن مقولة المستشرق الألماني كارل سخاو: (إن البيروني أكبر عقلية في التاريخ) مبالغ فيها أو عن تأثر فردي كالذي ينتاب بعض العلماء بمن سبقهم في العلم الذي اختصوا به، بل كان نابعاً عن دراسة وتمحيص وتحقيق واسع، فقد كانت حياة البيروني عبارة عن عطاء بلا حدود في شتى مجالات العلم، فهو موسوعة علمية كبيرة ضمّت علوم (الفلك والرياضيات والتاريخ والأدب والشعر والفيزياء والكيمياء والطب والفلسفة والجغرافيا)، فحفر البيروني اسمه بأنامل عبقريته في سجل التاريخ الإسلامي وبرز كأحد أعمدة الفكر الإنساني حيث وصفه المؤرخ البلجيكي (جورج سارتون) الذي يعتبر مؤسس تاريخ العلوم في كتابه (مقدمة لدراسة تاريخ العلم) بأنه (من أكبر عظماء الإسلام) و(من أكابر علماء العالم).
اختلف المؤرخون والباحثون في سنة ولادة البيروني ومكانها غير أن أرجح الأقوال في ذلك هو عام (362هـ/973م) في (بيرون) وهي من نواحي خوارزم وتعني بالفارسية (البراني) أو الضاحية أي خارج المدينة كما يقول ياقوت الحموي في (معجم البلدان) وقال البعض انه ولد في (خيوة) وهي احدى ضواحي خوارزم، أما لقبه البيروني فقد جاء من معناه الفارسي، وكما اختلف المؤرخون والباحثون في سنة ولادته ومكانها فقد اختلفوا في نشأته ولعل سبب ذلك يرجع الى الاوضاع المضطربة وغير المستقرة سياسياً والتي شابت تلك الفترة التي عاش فيها البيروني والتي أثرت كثيراً على حياته، فيرى البعض ان عائلته كانت تشتغل بالتجارة وتعيش خارج اسوار المدينة للتخلص من حياة المكوس (الضرائب) المفروضة على دخول البضائع الى المدينة. ويرى البعض الآخر انه من عائلة مغمورة واستدلوا على ذلك ببيتين من الشعر ينسبان الى البيروني وهما:
وذاكراً في قوافي شعره حسبي *** ولستُ والله حقاً عارفاً نسبي
اذ لستُ أعرف جدي حق معرفةٍ *** وكيف أعرف جدي اذ جهلت أبي
ورغم ان هذين البيتين يحتملان معنىً آخر في نفس البيروني كونه فيلسوفاً كبيراً عميق التفكير وقوله (حق معرفة) تدل على ذلك إلاّ ان من استند على هذا القول في عدّه مغموراً تعلل بانه لم يجد أي أثر لأبيه أوجده في ميدان العلم اضافة الى انه -اي البيروني- نشأ يتيماً منذ صغره وتربى في كنف ورعاية العالم الفلكي والرياضي ابي نصر منصور الذي كان ينتمي الى الاسرة الحاكمة في خوارزم.
في هذا المرحلة من حياة البيروني اشتهر كباحث وطالب علمٍ لا يهدأ ولا يكل في اكتساب كافة المعارف والعلوم مجتهداً في طلب المعرفة حيث بدأ البيروني بحوثه العلمية وهو في سن الثامنة عشرة من عمره، فاجتهد في تطبيق ماحققه من الارصادات الشمسية والبحوث الفلكية التي قام بها ابو الوفاء الأستاذ ابو نصر في مرصده الذي أقامه في قرية جبلية صغيرة في خوارزم وكان ذلك بداية بحوثه الفلكية، غير ان الأوضاع السياسية المضطربة لعبت دوراً في عدم استقراره في بلده فاضطر لمغادرة خوارزم على اثر احد الانقلابات وهي في سن العشرين سنة (382هـ) فانتقل الى سواحل بحر قزوين وتجول في إيران الشمالية فرحل الى ناحية (كوركنج)، ثم انتقل منها الى مقاطعة (جرجان) وفيها التقى بأكبر اساتذته وهو الطبيب والفلكي ابو سهل عيسى المسبحي ثم التحق سنة (390هـ) ببلاط امير جرجان وطبرستان شمس المعالي قابوس بن ابي طاهر بن وشمكير بن زيار بن وردان الجبلي، الذي كان بلاطه يحفل بالعلماء امثال ابن مسكويه وابي نصر العراقي والحكيم المسبحي والشيخ الرئيس ابن سينا الذي صحبه لمدة عشرين سنة وكان من حسنات الدهر التقاء هذين العلمين فجرت بينهما مراسلات ومناظرات في مواضيع مختلفة نشرت في كتاب (جامع البدائع) سنة (1335هـ) تحت عنوان (اجوبة عن مسائل ابي الريحان) وترجمت كذلك الى اللغة الفارسية وقد ألّف البيروني خلال إقامته في جرجان كتاب (الآثار الباقية عن القرون الخالية).
عمل استاذاً في مجمع العلوم الذي أسسه أمير خوارزم أبو العباس مأمون بن مأمون بن محمد خوارزمشاه وكان يزامله في نفس المجمع الشيخ الرئيس ابن سينا والمؤرخ العربي ابن مسكويه، وانصب اهتمام البيروني في تلك المرحلة من حياته على دراسة الفلك والجغرافية الطبيعية وأقام مرصداً في القصر الملكي، ووضع نموذجاً مجسماً لنصف الكرة الارضية بقطر (15 قدماً) رسم عليه أطول البلدان وعروضها واشتغل بحساب مساحة الكرة الارضية واتجه الى البت في ميل دائرة البروج.
كانت الاوضاع السياسية في ذلك الوقت غاية في الاضطراب ففي سنة (407هـ) حدث انقلاب عسكري ضد أبي العباس المأمون أدى الى مقتله مما حدى بصهره محمود ابن سبكتكين الغزنوي الى دخول خوارزم للانتقام فاحتلها سنة (408هـ/1017م) وضمها الى مملكته وقبض على البيروني وكان عمره حينذاك (46 سنة) واتهمه بالكفر والقرمطة واعتقل لمدة قصيرة مع عدد من العلماء ومنهم أستاذه عبد الصمد الحكيم وتناهى الى عرف ابن سبكتكين بمكانة البيروني العظيمة بين العلماء وانه إمام زمانه في علم الفلك فأطلق سراحه وقربه منه وأقامه في بلاطه ثم أخذه معه عند دخوله بلاد الهند.
وفي هذه البلاد بقي البيروني مدة زادت على أربعين عاماً استطاع خلالها ان ينفذ الى عقائدهم وتقاليدهم وعلومهم وتعلم لغاتهم وخاصة السنسكريتية واطلع على كتبهم فترجم الكثير منها وقد جمع كل ذلك في كتاب أسماه (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة)، وقد وصف المستشرق الروسي فيكتور روزن هذا الكتاب بقوله: (أثر فريد في بابه لا مثيل له في الأدب العلمي القديم أو الوسيط سواء في الغرب أم في الشرق)
ويعد البيروني أقدم من دوّن ملاحظاته عن تلك البلاد ويعد كتابه اهم كتب ذلك العصر في حقل الجغرافية الاقليمية حيث عالج فيه تأثير العوامل الجغرافية في الظواهر البشرية وقد انتهى من تأليفه عام (423هـ) بعد وفاة السلطان ابن سبكتكين. واضافة الى اللغة العربية والسنسكريتية اللتين كان البيروني يتقنهما فقد كان البيروني يحسن عدة لغات منها السريانية والفارسية والعبرية. ومن شدة شغفه بالعلم ما حُكي عنه انه دخل عليه بعض اصحابه وهو على فراش الموت، فقال له البيروني وهو في تلك الحال: (كيف قلت لي يوماً حساب الجدات الثمانية؟) فقال له: (أفي هذه الحال؟) فقال: (يا هذا أودع الدينا وانا عالم بها أليس خيراً من ان اخليها وانا جاهل بها؟) قال: (فذكرتها له وخرجت فسمعت الصراخ عليه وأنا في الطريق).
ترك البيروني كنوزاً علمية عظمية لا تقدر بثمن ويدين له الغربيون في أكثر علومهم وخاصة الرياضيات والطبيعيات والفلك. قال (البيهقي): (زادت تصانيفه على حمل بعير. صنف كتباً كثيرة رأيت اكثرها بخطه) وقال ياقوت الحموي: (وأما سائر كتبه في علوم النجوم والهيئة والمنطق والحكمة فانها تفوق الحصر رأيت فهرسها في وقف الجامع بـ (مرو) في نحو الستين ورقة). وقدّر الدكتور حسن ابراهيم حسن عدد مؤلفاته بـ (100) مؤلف والاستاذ قدري طوقان بــ (120) مؤلفاً نقل بعضها الى اللغات الانجليزية والفرنسية والالمانية كما ذكر الاستاذ علي الشحات أسماء (463) مؤلفا.
وتوزعت مؤلفات البيروني بين المفقود والمخطوط والباقي في مكتبات العالم. وقد تنوعت مؤلفاته في مختلف العلوم فألف في الفلك والهندسة والجغرافيا والرياضيات والتاريخ والصيدلة والجيولوجيا والفلسفة وعلم الحياة والادب وغيرها من العلوم ولن ننسى ان نذكر ايضاً سعة اطلاعه على كتب الاديان وتواريخها، ومن أشهر كتبه في مجالات العلم كافة كتاب (الآثار الباقية عن القرون الخالية) وهو أول كتاب وضعه وهو يبحث عن التقاويم والشهور عند مختلف الامم القديمة وفيه جداول لملوك اشور والكلدان وبابل والقبط والروم واليونان كما ضم الكتاب ايضاً بحوثاً رياضية وطبيعية وفلكية عديدة وقد ترجم الكتاب الى الانجليزية.
ومن كتبه كتاب (الصيدنة) ـ اي الصيدلة ـ وألف في علم الفيزياء كتاب (الجماهر في معرفة الجواهر) وفي التاريخ كتاب (تصحيح التواريخ) وفي الجغرافيا كتاب (تحديد نهايات الاماكن لتصحيح مسافات المساكن) وكتاب (تصحيح الطول والعرض لمساكن المعمور من الأرض) وفي الفلسفة كتاب (الفلسفة الهندية) ووضع في الرياضيات (المتواليات الهندسية) و(تثليث الزوايا) وحل كثيراً من مسائل الهندسة والتي اصبحت تعرف بالمسائل البيرونية كما وضع نظرية لاستخراج محيط الارض أسماها العلماء الغربيون بـ (قاعدة البيروني) وكانت له معرفة ودراية واسعة بعلم الفلك لم يسبقه إليها أحد، وقد دل على ذلك مؤلفاته العديدة في هذا المجال ومنها (الإستشهاد باختلاف الارصاد) و(اختصار كتاب بطليموس) و(الزيج المسعودي) و(الإستيعاب للوجوه الممكنة في صنعة الإسطرلاب) و(تعبير الميزان لتقدير الأزمان) و(قانون المسعودي في الحياة والنجوم) بقي ان نذكر ان البيروني كان اديباً وشاعراً ولغوياً له تصانيف في ذلك ذكر له ياقوت الحموي كتابين هما: (مختار الاشعار والآثار) وكتاب (شرح شعر ابي تمام) الذي قال عنه انه رآه بخطه.
وقد تطرق عدد كبير من المفكرين والعلماء العرب والمستشرقين قديماً وحديثاً في الحديث عن البيروني سنوجز هذه الاحاديث ببعضها فقد عده فيليب حتّى: (أعظم بحاثة وعالم في الاسلام في العلوم والطبيعية والرياضية)، وقال الشيخ عباس القمي في الكنى والالقاب: (انه الحكيم الرياضي والطبيب المنجم المعروف) بل قيل إنه أشهر علماء النجوم والرياضيات من المسلمين... الخ. وقد عدّه السيد محسن الامين من (أعيان الشيعة) وكذلك الشيخ أغابزرك الطهراني في الذريعة الى تصانيف الشيعة.
وأخيراً بعد أن تجلى للعالم الخدمات الجليلة التي أسداها هذا العالم الفذ في سبيل الإرتقاء بالعلم فقد تم إطلاق اسم البيروني على جامعة في أوزبكستان تخليداً لذكراه وتقديراً لجهوده الكبيرة في شتى مجالات العلم، كما وضع له نصب تذكاري في المتحف الجيلوجي في جامعة موسكو، وتم اختيار اسمه من بين (18) عالماً من علماء المسلمين ليطلق على أحد معالم القمر.
اضف تعليق