بعد عامين من الانهيار شهدت اسعار النفط مؤخرا بعض الاستقرار عند مستويات 50 دولار للبرميل، مع ذلك لا يتوقع ارتفاع اسعار النفط الى مستوياتها السابقة مستقبلا. دراسة حديثة لصندوق النقد الدولي رصدت عددا من المتغيرات التي تعيق تعافي الاسعار الى مستويات ما قبل الانهيار في منتصف العام 2014. ومن هذه المتغيرات انتاج النفط الصخري وتباطؤ النمو الاقتصادي في الاقتصادات الصاعدة والجهود المبذولة دوليا لتخفيض انبعاثات الكربون. هذه المتغيرات تشكل واقعا جديدا يجب ان تعتاد عليه البلدان النفطية لتفادي مزيد من الانهيارات المالية والاقتصادية في اقتصاداتها الريعية.

1-إمدادات النفط “الجديدة”

بحسب دراسة الصندوق (#) فان تدفق النفط الصخري قلب موازين اسواق النفط الخام مؤخرا، فقد ساهم الانتاج المذهل (وغير المتوقع) لآبار النفط الصخري في احداث تخمة كبيرة في المعروض العالمي. ورغم قرار اوبك في العام 2015 بعدم تقليص مستويات الانتاج وانهيار اسعار النفط بشكل حاد (موجة الهبوط الثانية)، فقد كانت استجابة انتاج النفط الصخري بطيئة، مما ساهم في بقاء تخمة المعروض وقوض توقعات الخبراء بخروج النفط الصخري من الاسواق حال تدهور اسعار النفط بفعل ارتفاع كلف انتاج هذا النوع من النفط. اذ استطاعت شركات النفط الصخري التكيف مع سعر نفط منخفض من خلال تحقيق خفض كبير في تكاليفها عبر رفع كفاءة الانتاج، مما سمح للمنتجين الكبار تجنب الافلاس والاستمرار بالإنتاج رغم تراجع الاسعار.

وتشير التوقعات الى احتمال تقلص انتاج النفط عالي الكلفة من خارج اوبك منتصف العام 2017 مما يساعد على توازن السوق النفطية، الا ان عدم اليقين يخيم على جانب العرض، وخاصة مع وجود ما يسمى "مخزون النفط الصخري غير المستغل" أي الحقول التي تم حفرها ولم تبدأ بالإنتاج فعلا. حيث يمكن ان تضيف هذه الحقول الى تدفقات الانتاج في غضون اسابيع ومن ثم تحدث تغيرا كبيرا في ديناميكية الانتاج مقارنة بالنفط التقليدي الذي يتسم بطول الفترات الفاصلة بين الاستثمار والانتاج. بالإضافة الى ذلك فان نجاح جهود البلدان النفطية من داخل وخارج اوبك في تقليص مستويات الانتاج قد يؤدي الى تعافي الاسعار وبالتالي تحفيز النفط الصخري للتدفق من جديد الى الاسواق وبكميات كبيرة.

2- تراجع الطلب “الجديد” على النفط

يمثل الطلب على النفط عنصر اساسي في تحديد مستويات الاسعار، وقد شهد العام 2015 زيادة ملحوظة في معدلات الطلب العالمي على النفط الخام قاربت 1.8 مليون برميل يوميا، الا ان هذه الزيادة لم تنجم عن تعافي الاقتصاد العالمي وانما نتيجة لهبوط مستويات اسعار النفط بشكل كبير مما حفز العديد من البلدان المتقدمة والصاعدة على زيادة مخزوناتها من النفط الخام تحسبا لارتفاعات مستقبلية في الاسعار. ويرى (Rabah Arezki & Akito Matsumoto) ان نسبة كبيرة من الزيادة المتحققة في الطلب العالمي على النفط تعود الى هبوط الاسعار لا الى زيادة الدخل، ونظرا الى وجود طاقات استيعابية محددة لمخزونات النفط الخام فمن المتوقع ان تعتمد زيادة الطلب في المستقبل على افاق نمو الاقتصاد العالمي.

وبحسب تقارير حديثة لصندوق النقد والبنك الدوليين لا تبدو افاق النمو الاقتصادي مشجعة بالنسبة لطلب النفط. فقد كان محرك الطلب على النفط في العامين الماضيين هو الصين وغيرها من الأسواق الصاعدة والبلدان النامية. ويمثل استهلاك الصين للنفط قرابة 15% من الاستهلاك العالمي. ويمكن أن تؤدي زيادة التباطؤ في الاقتصادات الصاعدة والمتقدمة إلى إحداث تغير كبير في مشهد الطلب النفطي العالمي. ومن المحتمل أيضا أن تنشأ انعكاسات كبيرة على أثر التحولات الهيكلية الجارية في الاقتصادات الصاعدة، وخاصة جهود الصين للتحول من نموذج النمو القائم على الاستثمار والتصدير إلى نموذج يعتمد على الطلب المحلي.

3- اتفاق باريس “الجديد”

على المدى المتوسط والطويل، تخيم على آفاق الطلب النفطي العالمي آثار التحول عن النفط وغيره من أنواع الوقود الأحفوري صوب الطاقة البديلة والمتجددة، وإن كان انخفاض أسعاره قد يؤخر هذا التحول. وسيلزم أيضا إجراء تغييرات كبيرة في سياسات الطاقة في الاقتصادات المتقدمة والصاعدة لكي تحقق الأهداف التي حددها مؤتمر باريس المعني بتغير المناخ في ديسمبر 2015، مع ضرورة أن يظل جانب كبير من احتياطيات النفط في باطن الأرض وغير محروق. ولا يؤدي غياب الوضوح بشأن الإجراءات المحددة اللازمة لتحقيق هذه الأهداف إلا إضافة المزيد من عدم اليقين بشأن آفاق الطلب على النفط. ويثير ذلك قلق المنتجين الكبار لما بات يعرف "بذروة الطلب العالمي على النفط الخام" وبدأ العد العكسي لتراجع مستويات الطلب العالمي على النفط بعد ان وصل ذروته في مطلع العام 2014 حيث فاق مستوى 90 مليون برميل يوميا.

لقد تغيرت ديناميكيات أسواق الطاقة بشكل ملحوظ نتيجة طفرة إنتاج النفط الصخري، التي أصبحت محركة للسوق. ومع تلبية هذا المصدر الجديد للمزيد من الطلب العالمي على الطاقة، وخاصة في الولايات المتحدة، انحسر اعتماد مستهلكي الطاقة على منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك وضعف دور الاخيرة كمنتج مرجح للأسواق. كما أصبح المستهلكون أقل عُرضة للمخاوف الجيوسياسية نظرا لتخمة الاسواق بالنفط الخام ووصول الطاقة الاستيعابية للخزين الاستراتيجي العالمي حدوده القصوى.

ان الانهيار المستمر لأسعار النفط يتطلب نهجاً جديداً من جانب البلدان المصدرة للنفط، خصوصا مع تسلل اثار الصدمة النفطية الى كافات القطاعات الاقتصادية والمالية. وتفصح التقديرات الدولية عن خسارة هذه البلدان لأكثر من ترليون دولار من إيراداتها بسبب تهاوي أسعار النفط في الأسواق العالمية، منذ شهر يونيو/حزيران 2014 ولغاية الآن، وإن هناك دولاً اقتربت من حالة الإفلاس، أو على الأقل تعاني من أزمات اقتصادية عنيفة بسبب تراجع إيراداتها من النفط.

ولم تفلح البرامج التقشفية في ايجاد حلول ناجعة للخروج من الركود الاقتصادي الذي خلفه انهيار اسعار النفط. لذا يتوجب على البلدان النفطية ان تتعامل مع الحقائق الاقتصادية والسياسية المؤثرة في اسعار النفط من خلال سياسة موحدة تهدف لخدمة مصالح بلدانها بدلا من تشكيل محاور تقوض امكانية تحديد سقف الانتاج واحداث تعافي قريب لأسعار النفط.

كما ان التراجع المستمر لأسعار النفط وزيادة مستويات الانتاج تشكل خسارة مزدوجة لكافة البلدان النفطية (من داخل وخارج اوبك) نظرا لتراجع الايراد النفطي من جهة وفقدان مورد ناضب بأسعار بخسة من جهة اخرى.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2016
www.fcdrs.com

.....................................
# https://blog-imfdirect.imf.org/2016/10/27/a-new-normal-for-the-oil-market/

اضف تعليق