ما الذي قد يحمل الديمقراطيين على الموافقة على زيادة سقف الدين إذا كان ذلك لن يُـسفِـر إلا عن تمكين ترمب من مكافأة ماسك وغيره من القِلة الحاكمة على دعمهم بمنحهم تخفيضا ضريبيا ضخما وغير عادل؟ لا تمثل كل هذه المساجلات السياسية في الكونجرس حول العجز والدين سوى جانب...
بقلم: جوزيف ستيغليتز
نيويورك- كانت الأجواء عامرة بتكهنات لا تنتهي حول الفوضى التي قد (أو قد لا) تنتظر أميركا والعالم بعد تنصيب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب في العشرين من يناير/كانون الثاني. لا أحد يدري أي قدر من أجندة ترمب المعلنة قد يكون "حقيقيا"، وأي قدر منها لم يكن سوى استعراض سياسي لاجتذاب قاعدته الشعبية، أو استعراض للقوة أمام أعدائه، أو جزء من استراتيجية تفاوضية تجاه الكونجرس ومختلف الأصدقاء والخصوم الأجانب. ولكن على الرغم من كل تبجحه ومريديه الراغبين في خلق حقائق بديلة، لا يستطيع ترمب إلغاء القوانين الحسابية، بقدر ما قد يحاول في الأسابيع المقبلة، عندما تصل الحكومة إلى حد الدين الفيدرالي الأقصى.
يمثل العجز الحكومي الفرق بين الإيرادات والنفقات السنوية، والدين الوطني هو مجموع العجز السابق. هذه الحقائق لها عواقب سياسية حقيقية، لأن الولايات المتحدة ملتزمة بسقف قانوني للدَّين (بموجب القانون، هناك حد أقصى للمبلغ الذي يمكنها اقتراضه). في الثامن والعشرين من ديسمبر/كانون الأول، قدَّمت وزيرة الخزانة المنتهية ولايتها جانيت يلين إشعارا رسميا ببلوغ حد الاقتراض الأقصى "بين الرابع عشر من يناير/كانون الثاني والثالث والعشرين من يناير/كانون الثاني".
باتخاذ تدابير "استثنائية"، يستطيع بايدن تمرير المشكلة إلى إدارة ترمب القادمة كهدية فراق مقابل رفض ترمب (بدعم من إيلون ماسك) الموافقة على الصفقة التي أُبرِمَت في وقت سابق؛ وربما يتمكن ترمب من تأجيل يوم الحساب، ولكن لفترة وجيزة فقط. في ظل عجز مالي شهري بلغ 367 مليار دولار في نوفمبر/تشرين الثاني وعجز مالي في عام 2024 بمتوسط 150 مليار دولار شهريا، لن يمر وقت طويل قبل أن يُـخـتَـرَق سقف الدين الحالي. وتزداد المهمة صعوبة بعد إضافة مبلغ 110 مليار دولار أو نحو ذلك بموجب صفقة عيد الميلاد للإنفاق في حالات الكوارث والطوارئ. من ناحية أخرى، يُصر المتطرفون في الحزب الجمهوري على عدم رفع السقف، وهذا يعني أن العجز يجب أن يُـزال بالكامل.
إذا لم يتمكن ترمب من إقناع كل الجمهوريين، فسوف يحتاج إلى تأمين بعض الدعم من جانب الديمقراطيين من خلال التوصل إلى اتفاق جديد بشأن سقف الدين والعجز في المستقبل. ولكن ما الذي قد يحمل الديمقراطيين على الموافقة على زيادة سقف الدين إذا كان ذلك لن يُـسفِـر إلا عن تمكين ترمب من مكافأة ماسك وغيره من القِلة الحاكمة على دعمهم بمنحهم تخفيضا ضريبيا ضخما وغير عادل؟
لا تمثل كل هذه المساجلات السياسية في الكونجرس حول العجز والدين سوى جانب واحد من مُـعضِـلة الميزانية الثلاثية التي سيواجهها ترمب في اليوم الأول. إذ تمثل الضرائب الجانب الثاني. إذا كان ترمب وأقرانه ملتزمين بأي شيء حقا، فهو خفض الضرائب المفروضة على الشركات وأصحاب المليارات. يتلخص "المبدأ" الذي يسترشدون به في جعل التخفيضات الضريبية المتهورة التي أقرها ترمب أثناء إدارته الأولى (والتي من المقرر أن ينتهي العمل بكثير منها في نهاية عام 2025)، ومزيد من خفض الضرائب المفروضة على الشركات الأمريكية. تشير أغلب التقديرات إلى أن القيام بذلك من شأنه أن يضيف 7.5 تريليون دولار إلى الدين الوطني، وإن كان أعلى تقدير من جانب لجنة الميزانية الفيدرالية المسؤولة يعادل ضعف هذا المبلغ.
بطبيعة الحال، سَـتَـعِـد إدارة ترمب بتحقيق معجزة نمو، مُـخـتَـلِقة ذات الأعذار الملفقة بشأن التخفيضات الضريبية التي تغطي تكاليفها بذاتها. ناهيك عن أن هذا لم يحدث قَـط ــ ليس بعد التخفيضات الضريبية لعام 2017، وليس بعد التخفيضات الضريبية التي أقرها رونالد ريجان في ثمانينيات القرن العشرين. الواقع أن السياسات الضريبية التي انتهجتها إدارة ترمب الأولى من المتوقع بالفعل أن تكلف 1.9 تريليون دولار على مدى عشر سنوات. انطلاقا من نقطة البداية هذه، يتطلب الأمر الاستعانة بساحر مالي على غرار هوديني ــ أو مستوى غير مسبوق من انعدام الأمانة في التعامل مع الميزانية ــ لتحويل 7.5 تريليون دولار إلى صفر دولار.
يقودنا هذا إلى الجانب الثالث من المعضلة الثلاثية: خفض النفقات. من المعروف أن معظم نفقات الحكومة الأمريكية ليست تقديرية؛ فهي مخصصة لبرامج مثل الضمان الاجتماعي، التي يكره حتى أغلب الجمهوريين خفضها. علاوة على ذلك، يذهب ما يقرب من نصف الإنفاق التقديري إلى الدفاع ــ وهو بند آخر من بنود الميزانية العزيزة على الجمهوريين. وهذا يترك حوالي 750 مليار دولار فقط من الإنفاق التقديري غير الدفاعي خاضعة للمساءلة. للقضاء على العجز، سيكون لزاما على ترمب أن يُـلغي جميع البرامج الحكومية التقديرية غير الدفاعية ــ ليس فقط وزارة التعليم، بل وأيضا المتنزهات الوطنية ووكالات الأمن الداخلي التي ستحتاج إليها إدارته لفرض سياساتها القاسية المناهضة للهجرة. وحتى في هذه الحالة، سيتبقى لديه فجوة سنوية بقيمة تريليون دولار قبل أن يحصل على تخفيضه الضريبي، وهو ما سيصبح في حكم المستحيل من الناحية الحسابية إذا التزم قِـلة من المشرعين الجمهوريين بوعدهم بعدم زيادة العجز.
في الوقت ذاته، يريد ترمب من الأوروبيين زيادة إنفاقهم الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي. وإذا كان للولايات المتحدة، التي تنفق حاليا 3.1% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، أن تفعل الشيء ذاته (فأي تصرف آخر سيكون قمة النفاق)، فإن ذلك سيضيف نحو 600 مليار دولار سنويا.
بالطبع، لا يزال من الممكن التوصل إلى حل وسط بين الحزبين. وهذا يستلزم إصلاحا ضريبيا تصاعديا (يدفع بموجبه أصحاب الدخول الأعلى ضرائب أعلى) وفقرات لتعزيز البرامج الحكومية التي لعبت دورا مهما في حياة ملايين الأميركيين. وهذا لن يرضي صقور الدين أو القلة الحاكمة المحيطة بترمب، لكن أصحاب الثراء الفاحش لا يحتاجون إلى برامج الحكومة (أو هكذا يتصورون)، فلماذا لا يُـسـتَـبـعَـدون من العملية؟
بالحكم من خلال سجل ترمب، لن تأتي مثل هذه التسوية بسهولة. بل ستعم الفوضى، كما رأينا بالفعل مع شبه تعطيل الحكومة الفيدرالية قبل أيام من عيد الميلاد. كان الحل في تلك المناسبة هو ترحيل المشكلة إلى حين وصول ترمب إلى البيت الأبيض. ولكن ماذا قد يكون الحل في المرة القادمة؟
ونحن ندخل عاما جديدا، ستعتمد حياة مئات الملايين من الناس ورفاهتهم على مدى سلاسة وسرعة حل هذه المعضلة. قد يكون ترمب وأنصاره راغبين في قلب النظام العالمي، ولكن يتعين عليهم أولا ترتيب البيت الأبيض الأميركي ذاته، وليس من الواضح على الإطلاق كيف سيفعلون ذلك.
اضف تعليق