هذا النظام مصمم لملء خزائن الشركات المتعددة الجنسيات بالعائدات على الملكية الفكرية من بلدان العالم النامي لمدة طويلة في المستقبل. بنية الاتفاقيات التجارية حافظت على أنماط التجارة الاستعمارية الجديدة، حيث تظل البلدان النامية عالقة في إنتاج السلع الأولية في حين تهيمن البلدان المتقدمة على روابط القيمة المضافة العالية في سلسلة الإنتاج...
بقلم: جوزيف ستيغليتز

نيويورك ــ في أعقاب الاجتماعات السنوية المشتركة التي عقدها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي هذا الشهر، يترنح الشرق الأوسط على حافة صراع خطير، وتظل بقية مناطق العالَـم ممزقة على طول خطوط اقتصادية وجيوسياسية جديدة. نادرا ما كانت أوجه القصور التي تعيب قادة العالم والترتيبات المؤسسية القائمة واضحة بهذه الدرجة الصارخة. ولم تتمكن الهيئة الإدارية لصندوق النقد الدولي حتى من الاتفاق على بيان ختامي.

صحيح أن البنك الدولي، تحت قيادته الجديدة، التزم بمعالجة تغير المناخ، والتصدي لتحديات النمو، وتعزيز سياسة مكافحة الفقر. وهو يسعى إلى زيادة حجم الإقراض من خلال الاستفادة من رأس المال المتوفر لديه بالفعل وعن طريق جمع أموال جديدة. ولكن لتنفيذ الخيار الثاني، يحتاج البنك إلى موافقة الكونجرس الأميركي، ويبدو هذا أمرا غير مرجح في ظل سيطرة الجمهوريين على مجلس النواب. ومن الأهمية بمكان هنا أن ندرك أن الزيادة المخططة في قدرة الإقراض لا ترقى على الإطلاق إلى ما يحتاج إليه العالَـم. إنها أكثر من مجرد قطرة في دلو، لكن الدلو يظل فارغا إلى حد كبير.

كما كانت الحال مع مناقشات المناخ التي أحاطت بالجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر/أيلول، دارت أحاديث طويلة حول زيادة رأس المال الخاص من خلال خفض علاوة المخاطر التي يطلبها المستثمرون لتنفيذ المشروعات في البلدان الفقيرة. ورغم أن العوائد الاجتماعية التي يحققها الاستثمار في الطاقة الشمسية في المنطقة الواقعة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا (حيث يتوفر ضوء الشمس بغزارة وتندر الطاقة) أعلى من نظيراتها في الشمال الـمُـلَـبَّد بالغيوم، فإن القطاع الخاص كان عازفا عن الدخول، بسبب مخاوف بشأن انعدام الاستقرار السياسي والاقتصادي.

المحصلة النهائية من كل هذا الحديث عن "تقليص المخاطر" هي أن القطاع العام يجب أن يعمل على توفير كل ما يلزم من إعانات الدعم "لجذب" القطاع الخاص. ليس من المستغرب أن تحوم الشركات المالية الخاصة الكبرى حول هذه الاجتماعات الدولية. وهي على استعداد للتغذي على الحوض العام، على أمل التوصل إلى ترتيبات جديدة تقضي بخصخصة المكاسب في حين تعمل على تعميم الخسائر ــ كما فعلت الشراكات بين القطاعين العام والخاص" في الماضي.

ولكن ما الذي يجعلنا نتوقع من القطاع الخاص أن يحل مشكلة تتعلق بالمنافع العامة في الأمد البعيد مثل تغير المناخ؟ من المعروف أن القطاع الخاص قصير النظر، حيث يركز بشكل كامل على مكاسب الملكية، وليس الفوائد الاجتماعية. كان القطاع الخاص غارقا في السيولة طوال خمسة عشر عاما، بفضل البنوك المركزية التي عملت على ضخ مبالغ ضخمة من المال إلى الاقتصاد في الاستجابة للأزمة المالية التي اندلعت عام 2008 (والتي تسبب القطاع الخاص في إحداثها) وجائحة مرض فيروس كورونا 2019. وكانت النتيجة عملية ملتوية حيث تقدم البنوك المركزية القروض للبنوك التجارية، التي تقرض الشركات الغربية الخاصة، والتي بدورها تقدم القروض لحكومات أجنبية أو شركات تستثمر في البنية الأساسية، مع تراكم تكاليف المعاملات والضمانات الحكومية على طول الطريق.

من الأفضل كثيرا استخدام السيولة لتعزيز بنوك التنمية المتعددة الأطراف، التي نجحت في تطوير كفاءات خاصة في المجالات ذات الصِـلة. ورغم أن بنوك التنمية المتعددة الأطراف كانت في بعض الأحيان متباطئة في التحرك، فإن هذا يرجع إلى حد كبير إلى التزاماتها في ما يتعلق بحماية البيئة ودعم حقوق الناس. ولأن تغير المناخ يشكل تحديا طويل الأمد، فمن الأفضل أن يجري تنفيذ الاستثمارات في العمل المناخي بحكمة وعلى نطاق واسع.

عندما يتعلق الأمر بالحجم الكبير، فإن المفتاح إلى تحقيق هذه الغاية ليس مجرد حشد مزيد من الأموال بالاقتراض من البلدان الغنية، مع كل ما يترتب على ذلك من مشكلات معروفة؛ بل يكمن المفتاح في تعزيز إيرادات الأسواق الناشئة والبلدان النامية. بيد أن الترتيبات الدولية القائمة تعمل فعليا على إعاقة هذه الحتمية الـمـلحة.

لنتأمل هنا "إطار تآكل القاعدة الضريبية وتحويل الأرباح" التابع لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. كان الأمل أن يساعد هذا الإطار في حمل الشركات الغنية على دفع حصتها العادلة من الضرائب في البلدان حيث تعمل. يمنح "نظام سعر التحويل" السائد الشركات المتعددة الجنسيات مجالا شديد الاتساع لتسجيل الأرباح في أي ولاية ضريبية تفضلها. لكن إصلاحات إطار تآكل القاعدة الضريبية وتحويل الأرباح المقترحة ــ حتى لو جرى تبنيها بشكل كامل، وهو ما يبدو أمرا غير مرجح ــ تبدو محدودة الأثر ولن تزود البلدان النامية إلا بقدر إضافي محدود من الإيرادات في أقصى تقدير.

الأمر الأسوأ من ذلك هو أن عملية تسوية المنازعات البغيضة بين المستثمرين والدول ــ التي تسمح للشركات المتعددة الجنسيات بمقاضاة الحكومات عندما تُـدخِـل تغييرات تنظيمية قد تضر بالأرباح ــ أدت إلى فرض مزيد من القيود على الموارد المتاحة للأسواق الناشئة والبلدان النامية، حتى في حين تعمل على إعاقة الجهود التي تبذلها في الاستجابة للتحديات البيئية والصحية.

ثم هناك نظام جوانب حقوق الملكية الفكرية المرتبطة بالتجارة التابع لمنظمة التجارة العالمية، والذي أدى إلى الفصل العنصري في مجال اللقاحات فضلا عن الوفيات غير الضرورية، وشغل أسرة المستشفيات، والأمراض في العالم النامي أثناء الجائحة (فزاد بالتالي من النفقات وعمل على خفض الإيرادات). وهذا النظام مصمم لملء خزائن الشركات المتعددة الجنسيات بالعائدات على الملكية الفكرية من بلدان العالم النامي لمدة طويلة في المستقبل. الواقع أن بنية الاتفاقيات التجارية بالكامل حافظت على أنماط التجارة الاستعمارية الجديدة، حيث تظل البلدان النامية عالقة في إنتاج السلع الأولية في الأغلب الأعم، في حين تهيمن البلدان المتقدمة على روابط القيمة المضافة العالية في سلسلة الإنتاج العالمية.

كل هذه الترتيبات المعيبة يمكن تغييرها، بل يجب أن تتغير. والقيام بهذا من شأنه أن يزود البلدان النامية بالموارد التي تحتاج إليها للاستثمار في التخفيف من آثار تغير المناخ والتكيف معه، والصحة العامة، وبقية أهداف التنمية المستدامة.

لعل التحسن الأكثر أهمية الذي طرأ على البنية المالية العالمية يتمثل في الإصدار السنوي لنحو 300 مليار دولار في هيئة حقوق السحب الخاصة (حقوق السحب الخاصة هي الأصول الاحتياطية الدولية التي يصدرها صندوق النقد الدولي)، والتي يستطيع الصندوق "طباعتها" متى شاء إذا وافقت الاقتصادات المتقدمة. في ظل الوضع الحالي، يذهب القسم الأعظم من إصدارات حقوق السحب الخاصة إلى بلدان غنية (أكبر "المساهمين" في صندوق النقد الدولي) لا تحتاج إلى الأموال، في حين يمكن للبلدان النامية أن تستخدمها للاستثمار في مستقبلها أو سداد ديونها (بما في ذلك الديون المستحقة لصندوق النقد الدولي).

لهذا السبب، يتعين على البلدان الغنية أن تعمل على إعادة تدوير حقوق السحب الخاصة المصدرة لصالحها عن طريق تحويلها إلى قروض أو مِـنَـح للاستثمار في العمل المناخي في البلدان النامية. ورغم أن هذا يجري بالفعل على نطاق محدود من خلال صندوق المرونة والاستدامة التابع لصندوق النقد الدولي، فإن توسيع نطاقه بدرجة كبيرة وإعادة تصميمه لتحقيق عائد أكبر مقابل المال أمر ممكن. أفضل ما في هذا النهج هو أنه لا يكلف الاقتصادات المتقدمة أي شيء حقا. وما لم يكن صاحب القرار خاضعا لسطوة إيديولوجية مضللة، فلا يوجد أي سبب قد يحمله على معارضته.

حتى لو حققت الاقتصادات المتقدمة هدف صافي الانبعاثات صفر غدا، فسوف يظل مصيرنا الهلاك، لأن الانبعاثات في البلدان النامية ستستمر في الارتفاع. ورغم أن فكرة عرض حوافز أفضل على القطاع الخاص (وهذا تعبير ملطف للرشاوى) خضعت لمناقشات شاملة، فلم يتحقق سوى قدر ضئيل للغاية من التقدم، ومن غير المرجح أن تُـفضي الرسوم الجمركية وغير ذلك من القيود المفروضة على السلع المستوردة الضارة بيئيا، كتلك التي تفرضها أوروبا الآن وتهدد بزيادتها في المستقبل، إلى جلب ذلك النوع من التعاون المطلوب.

وعلى هذا فإن الاستراتيجية الأفضل ــ وربما الوحيدة ــ لضمان قيام البلدان النامية والأسواق الناشئة بما يتوجب عليها من عمل، إذا كنا راغبين في تجنب كارثة مناخية، هي البدء في تصحيح بعض المظالم العالمية التي حدثت في الماضي، وتوليد قدر أعظم من الدخل والتمويل الميسر للبلدان النامية.

* جوزيف ستيغليتز، حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، وأستاذ بجامعة كولومبيا وكبير خبراء الاقتصاد في معهد روزفلت. من كتبه: خيبات العولمة، وكتاب الناس والسلطة والأرباح: الرأسمالية التقدمية لعصر الاستياء
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق