المطاف كان من الأمور الحتمية أن يتبع الإنفاق المتهور والمرتبط بالعجز موجة من التضخم كانت ضرورية للتخفيف من عبء ديون الحكومة، وبتعبير أدق قلل التضخم من عبء الديون من خلال إجبار الاحتياطي الفيدرالي على رفع أسعار الفائدة مما تسبب في انهيار أسعار السندات حيث تسبب ذلك في خسائر...
بقلم: باري إيتشنغرين

بيركلي - عندما اندلعت أزمة مصرفية في أوائل شهر مارس الماضي سارع النقاد الى استخدام دراساتهم من أجل كتابة المواضيع الصحفية والتي تلقي باللوم على هذا الطرف أو ذاك، وعليه لم يكن من المستغرب أن تلك التقييمات المبكرة والتي استندت إلى معلومات غير مكتملة كانت تتناقض مع بعضها البعض في كثير من الأحيان. يجدر بنا أن نتذكر القول المأثور لوالتر رالي: أولئك الذين يكتبون في التاريخ بعد وقت قصير من حدوثه، يخاطرون بإن يقعوا في خطأ كبير.

بعد شهر من ذلك التاريخ تركز الجدل حول أربعة جوانب أو تفسيرات للأزمة.

الأول هو ما يمكن تسميته وجهة النظر المتعلقة بالإدارة التي لا تتمتع بالكفاءة. لقد كانت الإدارة العليا لبنك سيليكون فالي أفضل في الترحيب بحرارة بالشركات التقنية بدلاً من اتخاذ قرارات استثمارية حكيمة. إن من المثير للدهشة أنه خلال معظم عام 2022 لم يكن لدى بنك سيلكون فالي وهو عبارة عن شركة مالية تبلغ قيمتها 200 مليار دولار مدير لإدارة المخاطر، وبينما عاد المدراء الرئيسيون في البنوك الأخرى إلى المكاتب، ظل العمل من المنزل هو القاعدة بالنسبة للمديرين الرئيسيين في بنك سيلكون فالي والذين انتشروا عبر ست مناطق زمنية تمتد من هاواي إلى الساحل الشرقي للولايات المتحدة. إن أي شخص لديه خبرة مباشرة في العمل عن بُعد يعلم أن مثل هذه الترتيبات لا تفضي إلى اتخاذ قرارات صعبة.

وعليه، عندما رأى مدراء بنك سيليكون فالي أن ودائع البنك ترتفع، لجأوا الى الخيار السهل والمتمثل في شراء كميات كبيرة من سندات الخزانة كما قاموا بشراء أدوات تحوط للحماية من التعرض لسعر الفائدة، لكنهم تخلوا لاحقًا لذلك عن تلك المواقف في أجراء لتوفير التكلفة وفي أسوأ وقت ممكن.

التفسير الثاني يتعلق بوجهة النظر المتعلقة بالعملاء غير الأكفاء. لقد قام عملاء بنك سيليكون فالي من الشركات بإيداع مبالغ في البنك تجاوزت بكثير السقف الذي حددته مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية لكل حساب والبالغ 250 ألف دولار. إن الإدارة النقدية الحصيفة تعني أنه كان يجب الاحتفاظ بتلك الأرصدة في البنوك الاضخم ذات الميزانيات العمومية الأقوى أو في صناديق أسواق المال. ولاحقاً لذلك وبعد أن أدركوا الحقيقة الصادمة بأن هناك ما يسمى بالودائع غير المؤمنة، سحب عملاء بنك سيليكون فالي أموالهم في حالة من الذعر وهي حالة انتشرت كالنار في الهشيم على وسائل التواصل الاجتماعي.

إن وجهة النظر الثالثة تلقي باللوم على الجهات التنظيمية التي لا تتمتع بالكفاءة. لم يكن الرئيس التنفيذي لبنك سيليكون فالي غريباً عن بنك الاحتياطي الفيدرالي في سان فرانسيسكو حيث كان عضوًا في مجلس إدارته. لقد كان بنك الاحتياطي الفيدرالي على علم بأن ودائع بنك سيليكون فالي قد ارتفعت بنسبة 400٪ في غضون خمس سنوات مما جعل البنك يحصل على أموال أكثر قابلة للإقراض ولكن لا يعرف ماذا يفعل بها. إن هذا الأمر يشبه من الناحية التنظيمية التلويح بعلم أحمر أمام الثور. ولكن ابتداءً من عام 2021، حذّر بنك الاحتياطي الفيدرالي بنك سيليكون فالي فقط عن "الأمور التي تتطلب الاهتمام". علاوة على ذلك، لم تتضمن اختبارات القدرة على تحمل الأعباء التي أجراها بنك الاحتياطي الفيدرالي إمكانية ارتفاع التضخم وأسعار الفائدة بشكل كبير.

تؤكد وجهة النظر الرابعة على سياسات الاقتصاد الكلي غير الحكيمة. لقد شجعت فترة طويلة من أسعار الفائدة المنخفضة البنوك مثل بنك سيليكون فالي والتي كانت تبذل جهودًا كبيرة للحصول على العائدات على اكتساب السندات طويلة الأجل، وفي نهاية المطاف كان من الأمور الحتمية أن يتبع الإنفاق المتهور والمرتبط بالعجز موجة من التضخم كانت ضرورية للتخفيف من عبء ديون الحكومة، وبتعبير أدق قلل التضخم من عبء الديون من خلال إجبار الاحتياطي الفيدرالي على رفع أسعار الفائدة مما تسبب في انهيار أسعار السندات حيث تسبب ذلك في خسائر لحملة السندات بما في ذلك البنوك.

والنتيجة تشبه إلى حد ما خاتمة رواية أجاثا كريستي "جريمة قتل في قطار الشرق السريع": لقد فعلها الجميع.

السؤال المطروح هو ماذا نفعل حيال ذلك الآن، وفي حين يمكننا أن ندعو إلى وجود إدارة أفضل للبنوك، إلا أنه سيكون هناك دائمًا مديرو بنوك يفتقرون إلى الخبرة، وأعضاء مجالس ادارة مشتتون للغاية بحيث لا يمكنهم توفير إشراف فعال. يمكننا تمرير تشريع يسمح لمؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية باسترداد المكافآت المدفوعة لمديري البنوك الفاشلة. يمكننا إعادة النظر في قوانين المسؤولية المزدوجة والتي تعود الى القرن التاسع عشر عندما كان مساهمو البنك في مأزق لأكثر من مجرد القيمة الحالية لأصوله عندما يفلس.

يمكننا السعي لتثقيف المودعين بشكل أفضل. لكن عملاء بنك سيليكون فالي كانوا أفضل تعليماً من غيرهم. الحقيقة هي أن عملاء البنوك بشكل عام وليس فقط رواد الأعمال في مجال التكنولوجيا الحديثة مشغولون بالتفكير في أمور أخرى. إن من المؤكد أن فشل بنك سيليكون فالي كان بمثابة جرس انذار، لكن التاريخ يخبرنا بأنه عاجلاً أم آجلاً سيعود المودعون إلى النوم. إن الفكرة القائلة بأن انضباط المودعين يمكن أن يكبح جماح المخاطرة المفرطة من قبل البنوك هي وهم: إن المودع العادي ليس محلل ائتماني، لذلك يجب ألا يتردد الكونجرس في رفع سقف الودائع المؤمن عليها على حسابات المعاملات.

وبالمثل، يمكننا دائمًا وضع سياسة اقتصادية كلية أفضل. ولكن بالنسبة للعديد ممن يجادلون الآن بأن السياسات النقدية والمالية أشعلت الأزمة المصرفية في مارس، فإن هذا يتعلق بفهم الموضوع بشكل أفضل بعد حدوثه بالفعل. لا أحد يعتقد أن السلطات مستعدة أو ينبغي أن تكون مستعدة لإخضاع سياسات أسعار الفائدة والسياسات المالية - الموجهة حاليًا إلى الحفاظ على معدلات تضخم منخفضة وتوظيف مرتفع – حتى تتوافق مع مسعى وحيد يتمثل في الاستقرار المالي.

ويترتب على ذلك أن الحل الوحيد القابل للتطبيق هو تنظيم مصرفي أكثر فعالية. يجادل البعض بأنه لا يمكن الوثوق بالجهات التنظيمية وأن التنظيم لا يمكن أبدًا أن يكون فعالًا ويستحضرون بنك سيليكون فالي كمثال على ذلك. إن هذا الرأي الساخر هو في الواقع دعوة لليأس، فطالما لدينا بنوك، سوف نعاني دائمًا من فشل البنوك. بالنظر إلى هذا الواقع، تحتاج الجهات التنظيمية الى استخلاص الدروس من كارثة بنك سيليكون فالي وتضمينها في إجراءاتها ومن ثم العودة إلى العمل.

* باري إيتشنغرين، أستاذ علوم الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وكبير مستشاري السياسات السابقين في صندوق النقد الدولي. من كتبه الإغراء الشعبوي: المظالم الاقتصادية ورد الفعل السياسي في العصر الحديث، وكتاب "الدفاع عن الدين العام".
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق